حوار مع بيار
بورديو: بؤس وسائل الإعلام
حاورته: مجلّة ” تيليراما *Télérama
ترجمة: عبد الوهاب البراهمي*
” لقد أصبحت التلفزة التي يجب أن تكون أداة لديمقراطية مباشرة ، آلة للقمع”.
يفسّر لنا بيار بورديو عالم الاجتماع الفرنسي المعاصر وأستاذ علم الاجتماع في مؤسسة “الكوليج دي فرانس” أسباب هذا التحوّل في دور التلفزة ووسائل الإعلام عموما، في هذا الحوار الذي لا يزال يحتفظ براهنيته إلى اليوم ) ربما فيما يخص “الأزمة الجزائرية”في التسعينات و التي وقع تجاوزها، ومع ذلك فضلت الاحتفاظ بالحوار كاملا توضيحا للسياق وملابسات الحوار):– تيليراما: لماذا، في بداية سنة 1995 ، تبدو لكم المسألة الجزائرية مسألة حيويّة؟-بيار بورديو : تبدو لي أولوية ، لا في دلالة إيتيقية فحسب ، بل في دلالة سياسية. فالجزائر هي اليوم ، ومن منظور كلبي ، أي من منظور منفعتنا بالطبع، هي المشكل رقم واحد في فرنسا. فلا القادة ، ولا رجال السياسة أيّ كانوا(ننسى أن جوكس هو الذي فتح الطريق لباسكوا)، ولا الصحفيين قد أدركوا ذلك. يمكن للحرب الأهلية الجزائرية من يوم لآخر أن تنقل إلى فرنسا، بجرائم القتل والاغتيالات، التي لن يكون المسئولون عنها جميعا ولا دائما من يشير إليهم الصحفيون، أي الإسلاميون… لأجل ذلك لابدّ من مساندة، بكل الطرق، اتفاقيات روما بين الأحزاب الديمقراطية والممثلين (الذين أعتقد في تمثيليتهم حقّا) للجبهة الإسلامية للإنقاذ .– ت . ر: في الأصل، أنتم تنظرون، ومن خلف مسألة المهاجرين الجزائريين ، إلى مسألة القيم الجمهوريّة؟
– ب . ب: إنّ السياسة البوليسية للحكومة الفرنسية تهدّد الديمقراطية، التي هي محميّة إلى حدّ الآن بالتمدّن الجمهوري، وترسي تقاليد عنصرية تجاه كل من ليس له وجه أو ميراث أو أجداد فرنسيين فعلا. فالإجراءات المتخذة تجاه الأجانب تهدّد التقاليد الكونية والدُّولية لفرنسا. إنّها توقظ ، لدى بعض الأصناف الاجتماعية الاستعدادات الكامنة للعنصرية. وليس من الضروري أن نقول لرجال البوليس “راقبوا الناس على أساس الظاهر”: يكفي أن لا نقول شيئا حتى يقوموا بذلك. “) – تيليراما: هل أحسستم، في عملكم لصالح الجزائريين، ومن وراء، المبادئ الجمهورية، بمساعدة وسائل الإعلام لكم؟
– بيار بورديو: تكمن الصعوبة في أنّنا كنا في هذه الجمعية للباحثين (Cisia) عددا قليلا من المتطوّعين، دون بنية تحتية ولم تكن لنا رغبة في الظهور في وسائل الإعلام. إلى حدّ أنّ أحد مديري الإذاعات، قد صرّح مؤخّرا قائلا: “أوه، هذه الجمعية لا تفعل شيئا: نحن لا نراها أبدا”. كلّ ذلك لأنّه وقع تخصيص أمسية حول الجزائر وكان لنا ما نفعله وقتها بدل الثرثرة.– ت.ر: أن نوجد، هو أن نمرّ عبر الراديو أو التلفاز؟
– ب.ب: حاليا، ما من إنسان قادر على بعث نشاط دون مساندة وسائل الإعلام. هكذا الحال بكلّ بساطة. لقد هيمنت الصحافة في النهاية على كل الحياة السياسية، والعلمية والفكرية. لابدّ من إنشاء مؤسّسات حيث يمكننا العمل معا، حيث يتبادل الباحثون والصحفيون النقد. بيد أن الصحفيون هم من أكثر الأصناف حساسية: يمكننا أن نتكلّم عن الأساقفة وعن الأعراف، بل حتّى عن الأساتذة، ولكن يستحيل أن نتكلّم عن الصحفيين بأشياء هي الموضوعية ذاتها.– ت.ر: لقد حان الوقت لقولها!
– ب.ب: توجد مفارقة بالأساس: الصحافة مهنة جدّ قوّية يشتغل بها أفراد هم من الهشاشة بمكان. ينضاف إلى ذلك تعارض كبير بين السلطة الجماعية، الضخمة، وهشاشة منزلة الصحفيين، الذين هم في منزلة أدنى بالنسبة إلى المفكّرين وبالمثل تجاه السياسيين. يمكن للصحفيين أن يدمّروا على نحو جماعي. ولكنهم فرادى هم باستمرار في خطر. إنّها مهنة حيث الحياة، ولأسباب سوسيولوجية، قاسية (ليس من قبيل الصدفة أن يوجد فيها تعاطي كبير للكحول) والرؤساء الصغار مرعبون. فهم لا يدمّرون فحسب المسارات المهنية لبعض الصحفيين، بل الضمائر أيضا (والأمر قائم أيضا في مواضع أخرى مع الأسف). يتألمّ الصحفيون كثيرا. وفي نفس الوقت يصبحون خطرين: حينما يتألّم قطاع ما، ينتهي دوما إلى نقل معاناته إلى الخارج، في شكل عنف وكراهية.ت.ر: هل هو مجال قابل أن يُصلح؟
ب.ب: الظروف غير ملائمة. إنّ حقل الصحافة هو حيّز لمنافسة قسرية، تمارس فيها التلفزة هيمنة شديدة. ويمكننا أن نقدّم ألف قرينة، منذ نقل صحفيين في التلفزة إلى الإشراف على صحف مكتوبة، إلى حدّ المكانة المتنامية للمادّة التلفزية – ومرونتها، حتى لا نقول خضوعها – في الصحف. إنّ التلفزة هي التي ترسم قواعد اللعبة: المواضيع التي يجب الحديث عنها أو لا: الأشخاص المهمّين أو لا. بيد إن ّ التلفزة المستلِّبة لما يتبقى من الصحافة، تعيش هي الأخرى استلابا، من حيث أنها تجد نفسها خاضعة، بوصفها فضاء للإنتاج نادرا، للإكراه المباشر للسوق. نتسلّى بذلك ولكن لا يوجد غير “القلابس” guignols لقول ذلك على الملأ. (وإذا ما كتب علم الاجتماع ،على وجه العموم، عُشْر ما يسمعه حينما يتحدّث إلى الصحفيين- عن “الترتيبات” مثلا، أو عن فبركة الحصص، فسيتّهم من الصحفيين أنفسهم لتحامله ونقص موضوعيته حتّى لا نقول لوقاحته غير المحتملة…) من يفقد نقطتين في نسبة الاستماع والمشاهدة، فعليه أن يرحل. ينقل هذا العنف المسلط على التلفزة عدواه إلى كامل حقل وسائل الإعلام. وتنقل عدواها حتّى إلى أوساط المثقفين والعلماء والفنانين الذين تربّوا على احتقار المال وعلى لامبالاة نسبية تجاه التكريس الجماعي- هل تتخيّلون مالارمي ينتظر اعترافا من المارّة وتصفيقا في الاجتماعات؟ غير أن هذه العوالم الصغيرة حيث يمكن أن نعيش مجهولين وفقراء مادمنا نحتفظ بتقدير البعض وان نفعل أشياء جديرة بأن تفعل، هي عوالم مهدّدة حاليّا.– ت.ر: هل تعتقد أنّه يمكن، في ظروف المنافسة الحالية لوسائل الإعلام أن تستمع لدعواكم؟
-ب. ب: أعلم أني أبدو كأستاذ نيمبوس Nimbus الذي جاء ليقدّم وعظا أخلاقيا في الوقت الذي يجب فيه أن ننقذ الأثاث وحيث يجب على صاحب جريدة “ليبيراسيون” أن يتساءل كل صباح عمّ إذا كان هناك عدد كاف من الإعلانات حتّى يقدر على نشر العدد المقبل من الجريدة. ولكن هذه الأزمة تحديدا والعنف الذي تمارسه هو ما يجعل بعض الصحفيين يقولون لأنفسهم بانّ علماء الاجتماع ليسوا مجانين كما يبدو. يكون الشبان والنساء هم الأكثر تأثّرا لدى الصحفيين: أود لو يفهموا بشكل أفضل ولو قليلا لماذا يحدث لهم هذا، وأنّه ليس بالضرورة خطأ الرئيس الصغير – الذي ، ليس بالطبع ماكرا جدّا، ولكنّه اختير لأجل ذلك – وأنّ البناء هو الذي يضطهدهم. فقد يساعدهم هذا الوعي على تحمّل العنف والتنظّم . وقد يساعد على تجنّب التهويل والتفريد. وتوفّر الأدوات للفهم جماعيا.ت.ر: لقد وصفت “حقل” الفنّ والعلم بكونها عوالم تجد شيئا فشيئا قواعدها . لماذا لم يتمكّن “حقل” الصحافة من العثور على قواعده الخاصّة؟
– ب.ب: نجد في الميدان العلمي بالفعل ميكانيزمات اجتماعية ترغم العلماء على التصرّف أخلاقيا، أن يكونوا “متخلقين” أو لا. فالبيولوجي الذي يقبل أجرا من المخبر لكتابة نشرية تافهة سيخسر كل شيء … توجد عدالة ضمنية. فمن يخترق بعض الممنوعات يحترق. ويقصي نفسه. ويفقد مصداقيته. بينما، أين يمكن أن نجد نظام عقوبات ومكافئات في ميدان الصحافة ؟ كيف سيتجلّى التقدير لصحفي قام بدوره على أحسن وجه؟ إنّ بذرة النقد الوحيدة التي أراها هي رسوم “بلانتو” Plantu أو حصّة القلابس Guignols فهم محلّلون خارقون للعادة. غير أنّه لابدّ من أداة أكثر قوّة. ربّما مرصد لنقد الصحافة، كل أسبوع مع تحليل، وأناس قادرين على تغيير التحليل إلى سلاح رمزي، إلى رسم، وإلى شيء ما مضحك قليلا: لابدّ أن تعرض بعض الأخطاء المهنية على القضاء لتسلط عليها عقوبة خاصّة ، أفضلها أن يكون سخيفا.ت.ر: سيعترض عليك بأنّ تريد نظاما مراقبة، ولجنة مركزية للإعلام…
ب.ب: أعلم ولكن الأمر على خلاف ذلك تماما. إن الاستقلالية التي أدعو إليها هي التي تنمّي الاختلاف. وانّ التبعية هي التي تخلق النمطيّة والتوحيد. وإذا كانت الثلاث مجلات الفرنسية (“الاكسبراس” و”لوبوان” و”النوفال ابسارفاتور”) تميل إلى أن تكون قابلة للتبادل أو التعاوض، فلأنّها خاضعة تقريبا لنفس الإكراهات ، ولنفس سبر الآراء ، ولنفس أصحاب الإعلانات ، وانّ صحفييها يمرّون من واحدة إلى أخرى ، يسرقون لأنفسهم مواضيع أو غلاف مجلّة . بينما لو ربحوا استقلالية أكثر تجاه أصحاب الإعلانات و تجاه نسبة المشاهدة الذي هو رقم المبيعات، وتجاه التلفزة التي تفرض مواضيع هامّة بين “بالادير” و”شيراك”- فسرعان ما سيتميّزون . لقد اقترحت مثلا ، لوضع حدّ للآثار السلبية جدّا للتنافس ، أن تبتكر الجرائد هيئات مشتركة مماثلة لتلك التي تنشأ في الحالات القصوى ، اختطاف الأطفال مثلا، حينما نتفق على محو كلّ معلومة. ففي هذه الحالات القصوى تتخلّى وسائل الإعلام عن مصالحها التنافسية للحفاظ على ضرب من الإيتيقا المشتركة. وفي شأن موضوعات أخرى لا نتناولها إلاّ لأنّ الآخرين قد تناولوها ، مثل ” مسألة الحجاب” ، فيمكن أن نتخيّل ضربا من الموراتيريوم moratoire . أما في شأن الكتب فالتبعية ملفتة للانتباه. إذ يجد كثير من الصحفيين أنفسهم مضطرين على الحديث عن كتب يكرهونها ، فقط لأنّ الآخرين قد تحدّثوا عنها. وهو ما يساهم كثيرا في النجاح اللافت لهذه الكتب مثل آخر منجم أو تفاهات أخرى من نفس النوع….– ت.ر: يبدو أنكم تختارون ، قبالة وسائل الإعلام هذه، التي تشمئزون منها ، سلوكا يمكن نقده، سلوك الازدراء، لماذا؟
– ب.ب: بل موقف انسحاب بالأحرى. لكن لا يخصّني أنا فحسب. لا أعرف عالما كبيرا ولا فنانا كبيرا أو كاتبا كبيرا لا يعاني من علاقته بوسائل الإعلام. إنّه لمشكل كبير، لأنّه من حقّ المواطنين أن يستمعوا للأفضل. بيد أن آليات الدعوة والإقصاء تجعل من المتفرجين تقريبا محرومين آليا ممّا هو أفضل على الساحة.– ت.ر: إذن، تريدون تغيير لا الجرائد فحسب، بل التلفزة أيضا ؟
-ب.ب: بالتأكيد، ليست الأداة هي موضع التساؤل. فهي تسمح بنقيض مطلق لما نفعله. فقد تكون أداة ديمقراطية مباشرة . وقد تتحوّل إلى أداة قمع رمزي. لابدّ ، لتغيير التلفزة ، من عمل ضخم، يكون مهمّة ديمقراطية حقيقيّة- لا عملا سياسويّا.– ت . ر : – انتم تبالغون مع ذلك: لماذا نشاهد في التلفزة بيار جيل دي جان الذي يبدو أقلّ تحفّظا منكم ، ولا نشاهد بيار بورديو؟
– ب. ب : إن مشكلة دي جان في التلفزة هو انّه الوحيد الذي يستطيع أن يتكلّم عن شيء لا يتكلّم.– ت. ر : لا أفهم…
– ب. ب : أي نعم. يدعونه يتكلّم عن أشياء تافهة قليلا ، ولكنها لطيفة كأن يقترح ريّ الصحراء …ولكن لن تسمع دي جان يتحدّث عن الفيزياء . يتحدث إلى الجهلة بإتقان ، ويستخدم مجازات. ويجهد في أن يفهم كل الناس ما يقوله ، ولكنّه في النهاية لا يتحدّث أبدا عن الفيزياء حقّا: لأنّ نسبة الاستماع في ثلاث دقائق هي إذن… وعلى ذلك ، فإنّه وباسم خطاب لا يستقيم ، يقول أيّ شيء عن حقول ليس له فيها ما يقول.– ت.ر: هل أنتم بوصفكم عالم اجتماع ، منزعجون بموجب صعوبة مضافة: كون الجمهور يعتبركم ” أقل علمية ” من الفيزيائيين أو البيولوجيين؟
– ب. ب : يجب أن نقارن بين أشياء قابلة للمقارنة . فبالنسبة إلى الفيزياء الذرية تكون المقارنة ليست في صالح علم الاجتماع. لأنّها لم تنشأ في نفس الدرجة ، وكونها أقلّ صورية الخ. ولكن لو قارنا علم الاجتماع بالتاريخ . فسنكون أمام علم أقلّ تقدّما من علم الاجتماع ، و يقدّم أشياء أقلّ حسما من منظور تدبير الوجود ، سواء أكان فرديا أو جماعيا. حسنا! ما من أحد يطالب المؤرخ بشيء ، وما من أحد يطرح عليه مسألة علوميته. ولكن لعلماء الاجتماع ، نعم . فنحن لا نتناول رهانات حارقة فحسب – بينما المسائل التي يتناولها المؤرخ هي منتهية ومقبورة. – بل أيضا نحن في تنافس مع أناس يزعمون ، وفي نفس الموضوع الذي نشتغل عليه، قول أشياء نهائية أيضا ، باسم مبادئ أخرى للصّلاحية. نقابل مبدأ الصلاحية لديّ والذي هو نفسه بالنسبة إلى الفيزيائي ، مبدأ آخر للصلاحية، مبدأ رجل السياسة: حجّة السلطة أو الاستفتاء العددي . كأنّما نحكم على صلاحية نظرية بالاقتراع العام.-ت.ر: في الأصل ، لعلم الاجتماع نفس موضوع السياسة، ولكن نفس معايير الصلاحية مع العلم.
– ب. ب: هو ذا. ونريد أن نطبق عليه ( علم الاجتماع) قواعد الصلاحية التي للسياسة بزعم أنّ موضوعه سياسي. فإذا كنت مختصة في مدينة ” بيزانس” Byzance الاغريقية، فسيكون لي موقف مشابه تقريبا لموقف ليفي ستروس ، فيستمع إليّ بوقار- ولامبالاة . وبما أنّني اشتغل على الحاضر ، وقد يحدث لي أن أتكلّم عن بالادير وبارنار تابي ، أو عن الصحفيين ، الموضوع المحظور بامتياز، فقد تناهض هذه السلطة التي لديّ بالرغم من أنّ لي ما أقوله ، من أشياء ذات أساس متين و أكثر تعقيدا من المثقّف ذي الأساس الإعلامي، الذي يجامله أغلب الصحفيين. وهم في نفس الوقت يكرهونه قليلا، والذي يقبل على التلفزة بصيغ ثلاث جاهزة ، أي تسطيحية وخاصّة بدعم الرأي السائد. فنقبل في هذه الحالة ، أن نكون في خدمته حتى نسمح له بوضع سلطته ، التي يفترض أن ترفّع في نسبة المشاهدة بنقاط. في حين انّه إذا ما طالبت بنفس الشيء لنفسي وللآخرين ، فسيستنكرون وقاحتي…– ت. ر : لقد نشرت العام الماضي كتاب حوارات .” بؤس العالم”، بيعت منه ثمانون ألف نسخة.اقتبست منه مسرحيات وقريبا حصّة تلفزية . ثمّ يطلب منك إجراء مقابلات جديدة. كيف تفسّر هذا النجاح؟ لماذا لا يستطيع الصحفيون، وهو ما يفترض عادة أنّه من صميم عملهم، أن يحسّوا، و بنفس القدر من الوجاهة التي لعلماء الاجتماع بآلام الجسم الاجتماعي؟
– ب. ب : يوجد قليل من الصحفيين المجيدين الذين يقومون بإصدار كتب محاورات مثل هاريس وسيدوي. ولكن هي مع ذلك مهنة…– ت . ر: هي مهنة بالنسبة إليكم لا بالنسبة إليهم ؟
– ب. ب : ليس هو نفس الشيء . فحوارت ” بؤس العالم ” هي أكثر قربا من التحليل النفسي منه إلى صحافة الاستقصاء. ويتعلّق الأمر بخلق وضعية تكون فيها الشخصية المستجوبة قادرة على أن تقول ، وتقول لنفسها ، أشياء تكبتها وتجد نفسها بعد ذلك سعيدة جدّا بقولها.– ت. ر : هل طبقّتم هذا الإجراء عليكم مثل فرويد ؟
– ب . ب : بالطبع. أجهد نفسي دون انقطاع في استخدام ادوات علم الاجتماع لمعرفة المحدّدات الاجتماعية وحدود تفكيري. فكتاب ” الإنسان الأكاديمي” Homo academicus هو ضرب من استكشاف للاوعيي الجامعي. ولكنّه مع الأسف تظلّ هناك بالتأكيد زوايا مظلمة، لن انتهي من استكشافها.– ت. ر : نصيب الذاتية في عملكم كبير جدّا ؟
– ب. ب : يحدث لي بالطبع استخدام رصيد تجربة شخصية ، حساسية تخصّني ، ولكنّي اجتهد في منحها صلاحية عامّة . أخيرا، قمت مثلا بملخّص عن النبالة . وليست لي تجربة معيشة في هذا الباب. ولكن اجعل أحد النبلاء يقرأ هذا النصّ فسيتضايق. كيف يكون بإمكاني الوصول إلى هذا؟ لأنّه، على قاعدة التجارب المماثلة التي عشتها – أن أكون طالب المدرسة العليا بالنسبة إلى الطلبة الجامعيين ، الخ-، أجد إحساسا بالعلاقة بين النبيل والسوقيّ، ثمّ إنّه يمكنني الاستناد إلى هذه التجربة، وإلى معرفتي بأشياء مماثلة، كالذّكورية ، والشرف القبائلي، الخ، حتّى أكوّن نموذجا عامّا يسمح بفهم مغاير كل الأدبيات التاريخية عن النبالة، والتي فيما أعتقد تهمّ الجميع…– ت. ر: … ولكن، لا يمكن للجميع قراءتها ، فكثيرا من كتبكم كتبت بأسلوب منفّر : كأنّما تفعلون ذلك عن قصد…
-ب. ب: حينما تكون الحقيقة معقّدة ، والحال هذه غالبا، فلا يمكن قولها إلاّ بطريقة معقّدة، إلاّ إذا تحدّثنا عن شيء آخر تماما ، مثل بيار جيل دي جان…فليس عملنا أن نقف قبالة الرأي السائد فحسب وضدّ غشاواتنا الاجتماعية الخاصّة ، بل هو استخدام لغة تتعارض مع تبسيط الحقيقة العلمية التي هي دوما مهدّمة. فحتّى الكلمات هي معدّة مسبقا حتى نتكلّم عن العالم كما هو .”* حديث دوّنه فرانسوا قرانون. (مجلة : تيليراما Téléramaعدد 2353- 15 فيفري 1995 – ص9- 10-11-12)*متفقد عام للتربية (اختصاص فلسفة) من تونس