محمد الترهوني: التفاعل مع الآخر يجدّد الرواية
خلود الفلاحي
الرواية هي التاريخ
يُتّهم الكاتب والمثقف في ليبيا بأنه يقف في منطقة بعيدة عما يحدث على أرض الواقع، حيث يخط نصوصه مبنأى عن هذا الواقع وراهنه التاريخي. هذا ما يفنده الكثيرون ومن بينهم الكاتب والناقد الليبي محمد الترهوني الذي يؤمن بأن الكتابة التحام مع التاريخ. في هذا الحوار مع "العرب" يتحدث الترهوني عن أعماله األدبية ورؤيته إلى األدب وحركة القراءة والنشر في عاملنا العربي.
تحتاج رواية "اعترافات دانتي" للناقد والروائي الليبي محمد الترهوني إلى قارئ مجتهد يحول العمل الأدبي إلى حدث نشط ومفارقة تاريخية. بحسب رأيه.
ينطلق الترهوني في أعماله الإبداعية من سيرته مع القراءة والمعرفة، ويلفت إلى أن الرواية تحقق أكبر انتصار لها في الشهادة، والكتابة المنطلقة من السيرة مدفوعة بواجب الشهادة، في هذه الحالة يتم استخدام حقائق التجربة كاستعارات يتم دمجها داخل مكونات النص.
ويضيف “الكاتب يقوم بهذه الشهادة ليس من أجل نفسه، بل من أجل الآخرين الذين لم يتمكنوا من الشهادة، وليس الأمر بالسهولة التي قد يتوقعها القارئ، فأن نتذكر ما عشناه قد يكون أصعب بكثير مما عشناه فعلا، واجب الكاتب المثقف هو تذكر ما تم نسيانه أو تهميشه، هو وحده القادر على الحديث عما يجب أن نتذكره وما يجب نسيانه، يشعر الكاتب بأن الواقع متفوق عليه دائما وهو في صراع معه، وكل كتاباته ما هي إلا لتخفيف الندم والشعور بالعجز لعدم القدرة على تغيير هذا الواقع، ومن هنا تكون الشهادة نوع من التحرر من الدراما المظلمة للضمير“.
ويستطرد “السيرة الذاتية ما هي إلا شهادة يربط فيها الكاتب ككائن اجتماعي تاريخي الواقع الذي يعيش فيه مع الراوي والعالم كله، السيرة الذاتية تعمل خارج الغرور الجماعي”.
الروائي مؤرخ
الرواية المعرفية نص أدبي مفتوح على كل تخصصات العلوم الإنسانيةبحسب محمد الترهوني من حق القارئ المطالبة بمحتوى موثوق يسمح بتكييف مسار التاريخ من خلال قيام السيرة بدورها فيه، كما أن السيرة تنبه القارئ إلى أنه لا حاجة إلى أن تكون بطلا أو فوق الآخرين، بل يكفي أن تكون بينهم ومنهم كي يحبوك، تاريخ الرجال يختلط مع تاريخ الحقائق، لكن هذا لا يعني أن السيرة الذاتية في الرواية ليست خيالية، هذه السيرة يكتبها طرف لا هو الراوي ولا المؤلف، إنه شخص يقبع هناك في باطن الكلمات المكتوبة.
ويرى الترهوني أنه يجب علينا سؤال أنفسنا إذا لم تكن السيرة تاريخا ولا خيالا فما هي السيرة التي يكتبها كاتب الرواية؟ الإجابة ستكون إنها تفاصيل التعايش الأدبي مع الواقع، لا يمكن فهم ومعرفة واستخدام كل ما سبق دون قراءة واسعة وعميقة، أيضا لا يمكن فعل ذلك دون التشديد على أهمية القراءة ودورها في بناء الإنسان والمجتمع، ودون دراية بأن المعرفة دون استخدام ما هي إلا ثروة هائلة لكن حرجة مقلقة.
نسأله هل هناك توزان ما بين حركة القراءة والنشر في العالم العربي بعد ظهور شبكة الإنترنت؟ فيقول “في البداية يجب أن نفرق بين نوعين من القراءة، الأول هو القراءة التي تتعامل مع الكتاب كعمل وتجربة جذرية تتحرك لضمان معنى العمل المكتوب، والثاني هو قراءة مجانية تتحرك بدافع الرغبة أو الشغف، هذه القراءة الأخيرة تشبه الإجراءات المتبعة في مراسم الدفن، لا تتوقف عند التفاصيل وما هو غامض وتذهب مباشرة إلى نهاية الكتاب، القراءة الأولى تعمل على صنع شبكة معرفة ذات معنى وهنا يكمن الشغف فيها وتظهر جماليات الرغبة، لا يمكنني هنا تفضيل قارئ على آخر، لكن يمكن تفضيل قراءة على أخرى”.
لا يعتقد ضيفنا أن شبكة الإنترنت تقدم القراءة الأولى، “لأنك بمجرد الانتهاء منها لا تفكر فيها وتستطيع حذف النص أو عدم العودة إليه أو حذف كاتب النص نفسه، القراءة الأولى تفترض العودة المرة بعد الأخرى إلى نفس الكتاب، ليس للكتاب نفسه، بل للملاحظات التي كتبتها، والهوامش التي وضعتها في أعلى أو أسفل الصفحة، العودة إلى الموضوعات التي أردت التوسع في البحث عنها، وهذا ما يقدمه الكتاب ودار النشر”.
ويتابع “من ناحية الكم هناك توزان تفرضه حقيقة أن كل ما هو منشور على الإنترنت موجود في دور النشر بشكل مسبق وفي الوطن العربي بالذات تقتات الإنترنت على عمل دور النشر، ولا وجود للكتاب المنشور مباشرة على الإنترنت إلا بشكل ضئيل جدا، التوازن موجود وهناك حركة نشر موجودة ومربحة وإلا لما وجدنا دور نشر مفتوحة وتطبع بشكل شبه يومي”.
روايته “اعترافات دانتي” رواية معرفية، تحتاج إلى قارئ موسوعي أو بحسب تعبير الروائي أورهان باموق قارئ مجتهد. وهنا يتحدث الترهوني قائلا “الرواية المعرفية هي نص أدبي مفتوح على كل تخصصات العلوم الإنسانية، وهذا يعني توسيع لتقنيات القراءة، تشعل العلوم الإنسانية في هذه الرواية فضاءات صغيرة داخل الفضاء المرجعي الذي هو الأدب، ومن خلال هذا الترابط يظهر عمل جديد بالكامل تتشكل مساحته بطريقة أفقية أحيانا وعمودية في أحيان أخرى، وقد اكتشفنا منذ ثمانينات القرن الماضي إلى اليوم المساهمة الجادة لهذا النوع من الكتابة في توسع وسيطرة الرواية، لأن الرواية بهذه الطريقة تتجدد من خلال الآخر الذي هو العلوم الإنسانية، وتركز على الإثراء المتبادل بينها وبين هذه العلوم”.
الكاتب عندما يكتب رواية فهو لا يحاول فقط الحفاظ على حاضره هو، بل يحاول المحافظة على حاضره التاريخي
ويتحدثت الترهوني عن أن الرواية المعرفية بتداخلها مع هذه العلوم تحتاج إلى تأويل من مستوى آخر، هذا ما يقول عنه النقاد اليوم القراءة من الدرجة الأولى، هذا ما تحتاج إليه الرواية المعرفية، لأن هذه القراءة قادرة على تبديد الغموض، بهذه الطريقة حافظت الرواية على عدم غياب المعنى وفشل الأدب في أداء عمله.
ويشدد الكاتب على أن هذه الرواية تحتاج إلى قارئ مجتهد أو قارئ من الدرجة الأولى كما قلنا سابقا، وهو القارئ القادر على الإمساك بخيط أريان أثناء عبوره متاهة صفحات الرواية، قارئ يسير نحو معنى من خلال مغامرة محفوفة بخطر الضياع بسبب عدم الانتباه، الرواية المعرفية تحتاج إلى قارئ مجتهد يحول العمل الأدبي إلى حدث نشط ومفارقة تاريخية.
يرى الترهوني أن الرواية هي التاريخ، الكاتب عندما يكتب رواية فهو لا يحاول فقط الحفاظ على حاضره هو، بل يحاول المحافظة على حاضره التاريخي، وهذا ما يعني أن الروائي يساهم في تمثيل التاريخ، وكما يقول بول ريكور إن “أحدى وظائف الخيال هي إطلاق احتمالات معينة للماضي التاريخي بأثر رجعي”، وبالتالي فإن الروائي هو في منطقة وسط بين التاريخ الرسمي وباقي التمثيلات، وبهذا المعنى يكون الروائي هو المسؤول عن بناء الخطاب التاريخي الخاص والعام.
ويلفت الترهوني إلى أن بارت يقترح أننا قد ننظر إلى الكتابة كنوع من التضامن التاريخي ويقصد كتابة التاريخ من خلال كل ما هو شخصي، إذا أخذنا تعريف غادمير للتاريخ الذي يقول فيه “هو تسمية الأشياء الماضية، التاريخ هو بالأحرى وسيلة لوصف الأشياء، الأحداث، الناس”، وما هي الرواية إذا لم تكن وصفا للأشياء والأحداث والناس، اللغة هي محرك التاريخ وهذه الحركة هي المكان الذي تتمفصل فيه الرواية.
الحركة الأدبية
كتاب خارج عن التصنيفات الأدبية المعروفةفي كتابه “الأيدي الحزينة” تحضر السينما والفلسفة والتشكيل والمقاهي وعوالم كتُاب عالميين. هذا الكتاب خرج عن التصنيفات الأدبية المعروفة. نسأل الترهوني إن كان هذا التنوع وهذه الكتابة يعكسان حقيقة عالمنا المعاصر؟ فيجيبنا بأنه “في الأيدي الحزينة محاولة البحث عن هذه الأرض العذراء، فهو كتاب خارج سياق الأنواع الأدبية المعروفة، وبعيدا عن اتباع نمط الكتابة المحددة مسبقا، فهو عوالم مختلفة ولحظات متناثرة يجمع بينها تاريخ اليد البشرية واللون الأزرق”.
في أعماله الإبداعية نلاحظ ميلا واضحا إلى التجريب والبحث عن أشكال جديدة تتجاوز الأنماط المألوفة. وهنا نسأله عن مدى أهمية التجريب؟ وهل تفتقد الكتابة الليبية إلى نفس جديد؟ يوضح الترهوني “ما هو الأدب التجريبي؟ هل هناك كاتب تجريبي؟ الحقيقة هي أن الكاتب عندما يكتب لا يعرف في تلك اللحظة أنه يجرب، وهنا يجب التفريق بين النص التجريبي والنص الغريب أو الكاتب غريب الأطوار، هل بورخيس تجريبي أو غريب الأطوار؟”.
ويتابع “ما يمكن أن نجيب به على هذا السؤال هو فقط قولنا: بورخيس هو الأكثر أصالة، التجريب هو حالة بحث عن الأصالة، الأصالة هنا تعني البحث عن مساحة جديدة تكون ملكك وحدك، أو البحث عن صوتك الخاص في خضم ضجيج هذه الأصوات القادمة من كل مكان، التجريب يحتاج إلى الكثير من القراءة والبحث والجرأة. التجريب يعني عدم اتباع نمط محدد مسبقا، ويعني كتابة نص يدفع حدود الخاص إلى أبعد ما يكون، نعم الكتابة في ليبيا تحتاج إلى التجريب والبحث عن أرض عذراء جديدة، لأن الإرث الذي تقف عليه الكتابة الليبية تم حرثه في أماكن أخرى إلى أن أصبحت أرض بور عقيمة”.
في فترة ماضية قال محمد الترهوني إنه ليست لدينا حركة أدبية بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، وبالتالي ليست لدينا حركة نقدية. نسأله هل تغير شيء من تلك النظرة؟ وهنا يجيبنا “الحقيقة لم يتغير شيء على الإطلاق، هناك فرق بين إنتاج الأدب والحركة الأدبية، الأدب ينتج في فضاء ثقافي، هذا يعني أننا مطالبون بإحداث تغيير في هذا الفضاء عندما يكون رجعيا أو ضعيفا أو لا علاقة له بالواقع، هذا التغيير لا يتم من خلال عمل فردي إبداعي أو نقدي، بل يحتاج إلى تيارات ومدارس وحركات جمالية وأدبية جديدة”.
ويتابع “هذه الحركات يتعرف فيها الأدباء على أنفسهم في مناخ تاريخي مشترك، هذه الحركات والتيارات لا يوجد اتفاق بينها على مفهوم الأدب والأدبية وعمل الأدب وعلاقته بالمجتمع، وهذا يعني أن صراعا بينها يدور داخل أعمال كل تيار، هذا الصراع هو المنتج الحقيقي للثقافة وليس المؤسسات الثقافية، والنقد ينطبق عليه نفس الكلام مع إضافة وضع الضوابط لهذا الصراع”.
خلود الفلاحي
الرواية هي التاريخ
يُتّهم الكاتب والمثقف في ليبيا بأنه يقف في منطقة بعيدة عما يحدث على أرض الواقع، حيث يخط نصوصه مبنأى عن هذا الواقع وراهنه التاريخي. هذا ما يفنده الكثيرون ومن بينهم الكاتب والناقد الليبي محمد الترهوني الذي يؤمن بأن الكتابة التحام مع التاريخ. في هذا الحوار مع "العرب" يتحدث الترهوني عن أعماله األدبية ورؤيته إلى األدب وحركة القراءة والنشر في عاملنا العربي.
تحتاج رواية "اعترافات دانتي" للناقد والروائي الليبي محمد الترهوني إلى قارئ مجتهد يحول العمل الأدبي إلى حدث نشط ومفارقة تاريخية. بحسب رأيه.
ينطلق الترهوني في أعماله الإبداعية من سيرته مع القراءة والمعرفة، ويلفت إلى أن الرواية تحقق أكبر انتصار لها في الشهادة، والكتابة المنطلقة من السيرة مدفوعة بواجب الشهادة، في هذه الحالة يتم استخدام حقائق التجربة كاستعارات يتم دمجها داخل مكونات النص.
ويضيف “الكاتب يقوم بهذه الشهادة ليس من أجل نفسه، بل من أجل الآخرين الذين لم يتمكنوا من الشهادة، وليس الأمر بالسهولة التي قد يتوقعها القارئ، فأن نتذكر ما عشناه قد يكون أصعب بكثير مما عشناه فعلا، واجب الكاتب المثقف هو تذكر ما تم نسيانه أو تهميشه، هو وحده القادر على الحديث عما يجب أن نتذكره وما يجب نسيانه، يشعر الكاتب بأن الواقع متفوق عليه دائما وهو في صراع معه، وكل كتاباته ما هي إلا لتخفيف الندم والشعور بالعجز لعدم القدرة على تغيير هذا الواقع، ومن هنا تكون الشهادة نوع من التحرر من الدراما المظلمة للضمير“.
ويستطرد “السيرة الذاتية ما هي إلا شهادة يربط فيها الكاتب ككائن اجتماعي تاريخي الواقع الذي يعيش فيه مع الراوي والعالم كله، السيرة الذاتية تعمل خارج الغرور الجماعي”.
الروائي مؤرخ
الرواية المعرفية نص أدبي مفتوح على كل تخصصات العلوم الإنسانيةبحسب محمد الترهوني من حق القارئ المطالبة بمحتوى موثوق يسمح بتكييف مسار التاريخ من خلال قيام السيرة بدورها فيه، كما أن السيرة تنبه القارئ إلى أنه لا حاجة إلى أن تكون بطلا أو فوق الآخرين، بل يكفي أن تكون بينهم ومنهم كي يحبوك، تاريخ الرجال يختلط مع تاريخ الحقائق، لكن هذا لا يعني أن السيرة الذاتية في الرواية ليست خيالية، هذه السيرة يكتبها طرف لا هو الراوي ولا المؤلف، إنه شخص يقبع هناك في باطن الكلمات المكتوبة.
ويرى الترهوني أنه يجب علينا سؤال أنفسنا إذا لم تكن السيرة تاريخا ولا خيالا فما هي السيرة التي يكتبها كاتب الرواية؟ الإجابة ستكون إنها تفاصيل التعايش الأدبي مع الواقع، لا يمكن فهم ومعرفة واستخدام كل ما سبق دون قراءة واسعة وعميقة، أيضا لا يمكن فعل ذلك دون التشديد على أهمية القراءة ودورها في بناء الإنسان والمجتمع، ودون دراية بأن المعرفة دون استخدام ما هي إلا ثروة هائلة لكن حرجة مقلقة.
نسأله هل هناك توزان ما بين حركة القراءة والنشر في العالم العربي بعد ظهور شبكة الإنترنت؟ فيقول “في البداية يجب أن نفرق بين نوعين من القراءة، الأول هو القراءة التي تتعامل مع الكتاب كعمل وتجربة جذرية تتحرك لضمان معنى العمل المكتوب، والثاني هو قراءة مجانية تتحرك بدافع الرغبة أو الشغف، هذه القراءة الأخيرة تشبه الإجراءات المتبعة في مراسم الدفن، لا تتوقف عند التفاصيل وما هو غامض وتذهب مباشرة إلى نهاية الكتاب، القراءة الأولى تعمل على صنع شبكة معرفة ذات معنى وهنا يكمن الشغف فيها وتظهر جماليات الرغبة، لا يمكنني هنا تفضيل قارئ على آخر، لكن يمكن تفضيل قراءة على أخرى”.
لا يعتقد ضيفنا أن شبكة الإنترنت تقدم القراءة الأولى، “لأنك بمجرد الانتهاء منها لا تفكر فيها وتستطيع حذف النص أو عدم العودة إليه أو حذف كاتب النص نفسه، القراءة الأولى تفترض العودة المرة بعد الأخرى إلى نفس الكتاب، ليس للكتاب نفسه، بل للملاحظات التي كتبتها، والهوامش التي وضعتها في أعلى أو أسفل الصفحة، العودة إلى الموضوعات التي أردت التوسع في البحث عنها، وهذا ما يقدمه الكتاب ودار النشر”.
ويتابع “من ناحية الكم هناك توزان تفرضه حقيقة أن كل ما هو منشور على الإنترنت موجود في دور النشر بشكل مسبق وفي الوطن العربي بالذات تقتات الإنترنت على عمل دور النشر، ولا وجود للكتاب المنشور مباشرة على الإنترنت إلا بشكل ضئيل جدا، التوازن موجود وهناك حركة نشر موجودة ومربحة وإلا لما وجدنا دور نشر مفتوحة وتطبع بشكل شبه يومي”.
روايته “اعترافات دانتي” رواية معرفية، تحتاج إلى قارئ موسوعي أو بحسب تعبير الروائي أورهان باموق قارئ مجتهد. وهنا يتحدث الترهوني قائلا “الرواية المعرفية هي نص أدبي مفتوح على كل تخصصات العلوم الإنسانية، وهذا يعني توسيع لتقنيات القراءة، تشعل العلوم الإنسانية في هذه الرواية فضاءات صغيرة داخل الفضاء المرجعي الذي هو الأدب، ومن خلال هذا الترابط يظهر عمل جديد بالكامل تتشكل مساحته بطريقة أفقية أحيانا وعمودية في أحيان أخرى، وقد اكتشفنا منذ ثمانينات القرن الماضي إلى اليوم المساهمة الجادة لهذا النوع من الكتابة في توسع وسيطرة الرواية، لأن الرواية بهذه الطريقة تتجدد من خلال الآخر الذي هو العلوم الإنسانية، وتركز على الإثراء المتبادل بينها وبين هذه العلوم”.
الكاتب عندما يكتب رواية فهو لا يحاول فقط الحفاظ على حاضره هو، بل يحاول المحافظة على حاضره التاريخي
ويتحدثت الترهوني عن أن الرواية المعرفية بتداخلها مع هذه العلوم تحتاج إلى تأويل من مستوى آخر، هذا ما يقول عنه النقاد اليوم القراءة من الدرجة الأولى، هذا ما تحتاج إليه الرواية المعرفية، لأن هذه القراءة قادرة على تبديد الغموض، بهذه الطريقة حافظت الرواية على عدم غياب المعنى وفشل الأدب في أداء عمله.
ويشدد الكاتب على أن هذه الرواية تحتاج إلى قارئ مجتهد أو قارئ من الدرجة الأولى كما قلنا سابقا، وهو القارئ القادر على الإمساك بخيط أريان أثناء عبوره متاهة صفحات الرواية، قارئ يسير نحو معنى من خلال مغامرة محفوفة بخطر الضياع بسبب عدم الانتباه، الرواية المعرفية تحتاج إلى قارئ مجتهد يحول العمل الأدبي إلى حدث نشط ومفارقة تاريخية.
يرى الترهوني أن الرواية هي التاريخ، الكاتب عندما يكتب رواية فهو لا يحاول فقط الحفاظ على حاضره هو، بل يحاول المحافظة على حاضره التاريخي، وهذا ما يعني أن الروائي يساهم في تمثيل التاريخ، وكما يقول بول ريكور إن “أحدى وظائف الخيال هي إطلاق احتمالات معينة للماضي التاريخي بأثر رجعي”، وبالتالي فإن الروائي هو في منطقة وسط بين التاريخ الرسمي وباقي التمثيلات، وبهذا المعنى يكون الروائي هو المسؤول عن بناء الخطاب التاريخي الخاص والعام.
ويلفت الترهوني إلى أن بارت يقترح أننا قد ننظر إلى الكتابة كنوع من التضامن التاريخي ويقصد كتابة التاريخ من خلال كل ما هو شخصي، إذا أخذنا تعريف غادمير للتاريخ الذي يقول فيه “هو تسمية الأشياء الماضية، التاريخ هو بالأحرى وسيلة لوصف الأشياء، الأحداث، الناس”، وما هي الرواية إذا لم تكن وصفا للأشياء والأحداث والناس، اللغة هي محرك التاريخ وهذه الحركة هي المكان الذي تتمفصل فيه الرواية.
الحركة الأدبية
كتاب خارج عن التصنيفات الأدبية المعروفةفي كتابه “الأيدي الحزينة” تحضر السينما والفلسفة والتشكيل والمقاهي وعوالم كتُاب عالميين. هذا الكتاب خرج عن التصنيفات الأدبية المعروفة. نسأل الترهوني إن كان هذا التنوع وهذه الكتابة يعكسان حقيقة عالمنا المعاصر؟ فيجيبنا بأنه “في الأيدي الحزينة محاولة البحث عن هذه الأرض العذراء، فهو كتاب خارج سياق الأنواع الأدبية المعروفة، وبعيدا عن اتباع نمط الكتابة المحددة مسبقا، فهو عوالم مختلفة ولحظات متناثرة يجمع بينها تاريخ اليد البشرية واللون الأزرق”.
في أعماله الإبداعية نلاحظ ميلا واضحا إلى التجريب والبحث عن أشكال جديدة تتجاوز الأنماط المألوفة. وهنا نسأله عن مدى أهمية التجريب؟ وهل تفتقد الكتابة الليبية إلى نفس جديد؟ يوضح الترهوني “ما هو الأدب التجريبي؟ هل هناك كاتب تجريبي؟ الحقيقة هي أن الكاتب عندما يكتب لا يعرف في تلك اللحظة أنه يجرب، وهنا يجب التفريق بين النص التجريبي والنص الغريب أو الكاتب غريب الأطوار، هل بورخيس تجريبي أو غريب الأطوار؟”.
ويتابع “ما يمكن أن نجيب به على هذا السؤال هو فقط قولنا: بورخيس هو الأكثر أصالة، التجريب هو حالة بحث عن الأصالة، الأصالة هنا تعني البحث عن مساحة جديدة تكون ملكك وحدك، أو البحث عن صوتك الخاص في خضم ضجيج هذه الأصوات القادمة من كل مكان، التجريب يحتاج إلى الكثير من القراءة والبحث والجرأة. التجريب يعني عدم اتباع نمط محدد مسبقا، ويعني كتابة نص يدفع حدود الخاص إلى أبعد ما يكون، نعم الكتابة في ليبيا تحتاج إلى التجريب والبحث عن أرض عذراء جديدة، لأن الإرث الذي تقف عليه الكتابة الليبية تم حرثه في أماكن أخرى إلى أن أصبحت أرض بور عقيمة”.
في فترة ماضية قال محمد الترهوني إنه ليست لدينا حركة أدبية بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، وبالتالي ليست لدينا حركة نقدية. نسأله هل تغير شيء من تلك النظرة؟ وهنا يجيبنا “الحقيقة لم يتغير شيء على الإطلاق، هناك فرق بين إنتاج الأدب والحركة الأدبية، الأدب ينتج في فضاء ثقافي، هذا يعني أننا مطالبون بإحداث تغيير في هذا الفضاء عندما يكون رجعيا أو ضعيفا أو لا علاقة له بالواقع، هذا التغيير لا يتم من خلال عمل فردي إبداعي أو نقدي، بل يحتاج إلى تيارات ومدارس وحركات جمالية وأدبية جديدة”.
ويتابع “هذه الحركات يتعرف فيها الأدباء على أنفسهم في مناخ تاريخي مشترك، هذه الحركات والتيارات لا يوجد اتفاق بينها على مفهوم الأدب والأدبية وعمل الأدب وعلاقته بالمجتمع، وهذا يعني أن صراعا بينها يدور داخل أعمال كل تيار، هذا الصراع هو المنتج الحقيقي للثقافة وليس المؤسسات الثقافية، والنقد ينطبق عليه نفس الكلام مع إضافة وضع الضوابط لهذا الصراع”.