الباحثة والفنانة التشكيلية أميرة سعد: القمع والقهر مؤثران على إبداع الشرقيات
محمد الحمامصي
قضية النوع الاجتماعي "الجندر" ليست القضية الوحيدة
ليس صحيحا أن الفنانات العربيات محصورات في ثيمة أجسادهن وقضاياهن الخاصة، بل هناك الكثير من الفنانات اللواتي يقدمن تجارب رهانها الإنسان قبل التقسيم الجنسي، أعمال متقاطعة مع ما هو سياسي أو فكري أو اجتماعي، وهذا ما تدرسه الباحثة والفنانة المصرية أميرة سعد في كتاب جديد.
تأثر فن الغرافيك بمختلف الحركات التشكيلية الطليعية سواء في فترة الحداثة، حيث تم توظيف أساليب وتقنيات دمج الصور بالرسوم بأسلوب تجريدي اتسم بالعمق والبساطة في آن واحد، بينما تميزت فترة ما بعد الحداثة بأساليب الاستنساخ وتجاوز الصورة لنقيضها ودخول التقنيات التكنولوجية مما أدى إلى تحرر الفنان وكسره للقواعد والثقافات.
وقد شكلت الأطروحة التي نالت بها الفنانة التشكيلية أميرة سعد محمد عباس درجة الدكتوراه من كلية الفنون الجميلة جامعة حلوان، والتي عنونتها بـ”إبداع الفنانات الشرقيات في فن الغرافيك فترة ما بعد الحداثة”، قراءة تحليلية مهمة في الأثر العام للمجتمعات الشرقية بكل مكوناتها من قيم وأعراف وعادات وتقاليد، وقضايا سياسية واجتماعية، على فنانات هذه المجتمعات، ونتاج إبداعهن الفني.
الثقافة والفن
تنطلق الباحثة في أطروحتها من “مفهوم الإبداع بين فلاسفة الفكر الإنساني والأيدلوجيات الشرقية القديمة”، حيث تناولت عدة محاور منها مفهوم ومكونات وجوانب الإبداع، وتعريف الحريات، والحرية الفنية، وتعريف الشرق، وتقسيماته القديمة والحديثة، وصولاً إلى وضع المرأة في الحضارات الشرقية القديمة مع سرد لفنون تلك الحضارات وأهم الأيديولوجيات والفلسفات الدينية التي أثرت على تلك الحضارات اعتمادا على المنهج التاريخي الوصفي.
◙ استكمال لحالة التجريبثم تتطرق إلى آثار التداعيات السياسية والاجتماعية على الفنانات حيث توقفت عند الآثار التي نتجت عن الحرب العالمية الثانية من تغير أنظمة حكم أو تقسيمات جغرافية وأثرها على الفنانات، مثل تقسيم الهند وباكستان، وتقسيم كوريا إلى دولتين، شمالية وجنوبية، لتعرض وتحلل أعمال فنانات شرقيات من الحدود المكانية للبحث واللواتي بدأن تجاربهن الفنية من أواخر القرن العشرين، وحتى بدايات القرن الـ21 في محاولة من الباحثة لعرض جيلين مختلفين من الفنانات ومعرفة التطورات الملحوظة في أساليب أداء الفنون، فنون ما بعد الحداثة سواء في التقنيات أو أسلوب العرض، تم ذلك من خلال المنهج الوصفي التحليلي.
وتعرض سعد بعض التجارب الفنية وتحليلها لفنانات مصر أوائل القرن الـ21 من خلال تحليل أعمال الفنانات المصريات المعاصرات في الحفر والطباعة، وتوضيح أثر المجتمع المصري وقضاياه عليهن وعلى تجاربهن الفنية. وأخيرا تناولت في فصل خاص تجاربها القائمة على أثر المجتمع الشرقي عليها كفنانة، حيث توقفت عند تأثير الثقافات المختلفة عليها باعتبارها أحد أبناء الثقافة الثالثة، مستعرضة مدى تأثير ذلك على تجربتها الفنية.
وتؤكد أن الفنانات محل الدراسة والبحث تأثرن بمجتمعاتهن الشرقية تأثرا قويًا، تجلّى في تجاربهن؛ من خلال تناول عناصر الموروثات الخاصة بكل مجتمع، كما كسرن حاجز العادات والتقاليد التي فُرضت على مثيلاتهن في تلك المجتمعات، واعتبرن هذا الحاجز وهذه المعوقات؛ محفزا زاد من إصرارهن ودفعهن إلى التفوق وتجاوز تلك العقبات، للانطلاق إلى فضاء إبداعي أكثر رحابة كانت ثمرته ما قدمنه من أعمال إبداعية فريدة ومتنوعة.
وترى الباحثة أن التقدم التكنولوجي ساعد في التعريف بثقافات المجتمعات المختلفة، فبعد تحول العالم إلى قرية كونية؛ أصبح من السهل إقامة تبادل ثقافي، وأصبح بالإمكان التعرف على حضارات بلدان تفصل بيننا وبينها مئات الآلاف من الأميال، ففي وقت سابق كانت تُقدم صورة نمطية عن بعض الثقافات، وكانت تسخ هذه الصورة، ندرة المصادر التي تستطيع من خلالها التعرف على حقيقة هذه الثقافة الشائعة أو الصورة النمطية، ومدى تأثرها بالمتغيرات التي تطرأ على العالم طوال الوقت.
وبعد الطفرة التكنولوجية، وتعدد قنوات الاتصال وتنوع مصادر المعلومات أصبح باستطاعة الفرد أن يقرأ ويشاهد ويطلع على ثقافات جميع دول العالم. وكما ساهم التطور التكنولوجي في تغيير الصورة النمطية السائدة عن بعض البلدان؛ فقد سمح للفنانات بمشاركة تجاربهن الفنية، وعرض المُعوقات التي قد تقف حائلًا أمامهن، وأساليب الأداء التي تناولنها للتغلب على تلك المعوقات.
الثقافة الثالثة
◙ التطورات ملحوظة في أساليب أداء الفنونتلفت سعد إلى أن قضية النوع الاجتماعي “الجندر” لم تكن القضية الوحيد، التي شغلت الفنانات الشرقيات، حيث شغلن بالقضايا الاجتماعية والسياسية مثلهن مثل الفنانين الرجال، بل وكان للفنانات مشاركات وأعمال فنية كثيرة تؤكد على تنوع القضايا المجتمعية التي شغلتهن.
وتوصّلت الباحثة إلى أن القمع والقهر عاملان مؤثران على إبداع الفنانات، ولكنهما ليسا بالضرورة المثير الأكبر للإنتاج الإبداعي، فهناك عوامل أخرى مثيرة ومؤثرة على العملية الإبداعية مثل مرحلة الطفولة والنشأة، والطبيعة الجغرافية للبلد أو الإقليم، والإرث الثقافي والحضاري، وتاريخ البلد محل النشأة، وثراء وتنوع روافده المعرفية.
وهنا نتوقف عند الفصل الذي خصصته الباحثة لتجربتها الفنية والمؤثرات التي أحاطت برؤيتها، إذ أشارت إلى أن مقولة “لم ينتقل والداك إلى هذا البلد لتخطئ، بل حتى يتمكن الآخرون من فهمك بشكل أفضل” تسببت في التأمل في من تكون؟ ومن أين أتت؟ وما هي الثقافات التي نسجتها وأثرت فيها؟.. حيث وُلدت الباحثة وترعرعت في بيئة صحراوية بدوية بلقب “فلاحة” نظرًا إلى كونها من أصول ريفية، فقد كان أمرًا صعبا. إلى جانب أنَّها كنت محاطة بأطفال مثلها، ممن نشؤوا وسط مزيج من الثقافات، فكان هذا هو الأمر الطبيعي وقتها. لكن الباحثة كانت تجد دائمًا من المثير للاهتمام أنَّ عند زيارتها لمسقط رأس والديها، يعتبرها الناس “بدوية” وليست منهم، بينما عندما ترجع إلى مسقط رأسها يعتبرها الناس من الريف وليست أيضًا منهم.
الباحثة كمن تبدو يُرجع الأمور إلى أصولها للبحث عن سبب حول حالات الجدال، البحث في إشكالية الخطيئة الأولى
لكنَّ ذلك لم يكن شيئًا يشغل تفكير الباحثة وقتها، إلى أن بدأت دراستها الجامعية في بيئة ثالثة، وبالتالي باتت الإجابة عن السؤال “من أين أنتِ؟” أمرًا صعبًا، وصار شيئًا تفكر فيه أكثر بكثير. ليأتي التساؤل عن “هل أنا هجينة بين الثقافات؟ هل أثرت الثقافة علي الأولى أم الثانية؟”.
وعليه تطور الأمر للبحث عن أثر الثقافات الشرقية على المرأة الفنانة بشكل عام. ليقع أمامها مصطلح “أطفال الثقافة الثالثة”، لتتعرف الباحثة على المُسمى الذي عبر عن نشأتها التي كانت المثير والمؤثر الأكبر في تجربتها الفنية، كون الباحثة اليوم مزيج من جميع الثقافات التي مرت بها، فضلاً عن أنَّ نشأتها جعلتها شغوفةً بهويتها كإحدى فنانات الثقافة الثالثة. صحيح أنَّ من العسيرّ شرح هويتها أحيانًا، إلا إنَّها أدركت مؤخرًا أنَّ هذا اللقب هو من أكبر مواطن قوتها.
وتتابع سعد “وعليه اتجهت التجربة الفنية للباحثة نحو التجريد كملاذ بعيدًا عن صراع الثقافات أو كمحاولة لمزجها لعمل ثقافة أخرى شديدة الخصوصية تعبر عن أحاسيس التخبط أو الاختلاف، صراع البحث عن هُوية من خلال علاقات لونية وتكوينات تُنشئها كعالم خيالي خاص بها. وقد تنوعت تجاربها الفنية بين التجريدية الهندسية والتجريدية التعبيرية من حيث الأسلوب وبين الطباعة البارزة والخامات المتعددة من حيث التقنيات”.
وتتعرض الباحثة للتجارب الفنية التي نقلت من خلالها تأثير البيئة والمجتمع عليها، خلال فترة البحث من عام 2015 وحتى عام 2020. وقد نفذت فيها حوالي 30 عملًا، شملت تقنيات الطباعة من قوالب متعددة بارزة والرسم بأحبار مائية وأقلام ظلية والكولاج وطباعة الشاشة الحرارية.
البحث عن الأسباب
الباحثة تجد ملاذا بعيدًا عن صراع الثقافات أو كمحاولة لمزجها لعمل ثقافة أخرى شديدة الخصوصية تمثل أحاسيس الفردحول تجاربها في الفترة ما بين 2015 و2019 توضح “نُفذت تلك التجارب على فترات متباعدة حيث كان يشغلني موضوع البحث عن النفس عن الهوية، بعد الانتهاء من مرحلة الماجستير بدأت في فتح أبوابٍ وحدودٍ مكانية جديدة وخلال تلك المحاولات بدأت أخطو نحو ثقافة الشرق الأقصى لأكتشف عالمًا قد يبدو من خارجه مختلفًا عن مجتمعاتنا الشرقية إلا أنني اكتشفت أن الفروق أو الاختلافات هي فروق تبدو شكلية ولكن المرأة في غالبية تلك المجتمعات تحتكم إلى العادات والتقاليد، فجاء العمل الفني ‘لا تفعلي‘ إذ تظهر جمجمة مرسومة بخيوط بيضاء تخرج منها خيوط ووسط كل تلك الخيوط مكتوب جملة ‘لا تفعلي‘ بست لغات على خلفية تجريدية وتلك الجمل موزعة على أطراف العمل الفني، باعثًا رسالة لفتيات مجتمع البحث ‘افعلي‘ حتى وإن قالت الدنيا بكل اللغات لا تفعلي”.
وتتابع “تناولت التعبيرية التجريدية باستخدام عنصر الجمجمة المتشابكة الخيوط والمتشعبة منها أيضًا، لتأكيد أن كل تلك الجمل مختلفة اللغات باتت من الماضي، كما أظهرت العمل ليبدو كورقة لعب قديمة باستخدام درجات ألوان فاتحة كدرجة البنفسجي ودرجة الأزرق السماوي، الأمر الذي أضاف حالة من الضبابية إلى العمل. نُفذ العمل بتقنية الخامات المتعددة ما بين طبعة فنية مونوبرنت ورسم بالأحبار المائية وأقلام الدوكو وأقلام الخشب”.
وتضيف “حاولت دائمًا الوصول إلى حلول سواء على المستوى التقني أو مضمون العمل الفكري فتطرقت إلى تجربة الطباعة بالشاشة الحريرية لتظهر نتائج أولية تذهب بي إلى نفس الإشكالية التي تشغل بالي فتأتي الجوانب الخفية لتظهر على العمل بعد انتهائه، جاءت حالة الاغتراب الاجتماعي الذي أشعر به جليا في ذلك العمل ‘دون عنوان‘ فصورت نفسي في شكل بنت تجلس منحنية الرأس وممسكة بيديها، وفوق رأسها شبكة بيضاء لتبدو كسلك حديدي يحبسها، وسط صحراء بيضاء مع ظهور شجرة في خلفية العمل ولكنها تأتي باللون الأصفر، الأمر الذي وضع تساؤلا لماذا الأصفر مع الشجرة. لأؤكد لنفسي مدى تأثير البيئة الثانية ـ الصحراء ـ أكثر من البيئة الأولى ـ الريف ـ عليها”.
واستكمالًا لحالة التجريب جاء العمل الفني “وحدة” كاعتراف صريح من عباس بالحالة التي تعيشها، إذ تمكنت من بلورة الإحساس من خلال نظرة العينين كعنصر واحد معبر وسط مجموعة من المؤثرات اللونية، إذ يتوسط اللوحة بورتريه شخصي لها مع خلفية تجريدية بلون واحد، كما عمدت إلى استخدام أكثر من خامة كتأكيد على حالة التشتت فنفذت العمل عبر “الكولاج” باستخدام قصاصات من الورق والرسم بأقلام الحبر على ورق الهانجي الكوري ثم وضعته على خلفية من ورق قش الأرز ثم طباعة قالب بارز من اللينوليوم باللون الأخضر وفي النهاية بعض اللمسات من الطباعة المنفذة باللون الأحمر.
وتقول إن “عملي الفني “مجهول” جاء مختلفًا عن التجارب السابقة سواء من حيث العناصر أو حتى المجموعة اللونية، فلقد اختزلت الأمر كله في درجات الأسود وعبرت بعناصر جديدة في التناول بالنسبة إلي، فتظهر السمكة لأول مرة على سطح أحد أعمالي، وقد اعتمدت على السمكة كجسم مرئي محسوس لترميز ما هو خفي كالازدواجية أو رمزًا لمحاولات التغيير والتكيف. يظهر العمل مقسمًا نصفين، طولي أبيض، وأسود وتسبح سمكة في الجانب الأسود مع ظهور لكتلة سوداء في النصف الآخر تتوسطها عين سمكة كبيرة تربط بينهما بعض الخيوط المتصلة المنفصلة. نُفذ العمل بتقنية طباعة المونوبرنت والرسم بأقلام خشب سوداء”.
ومع استمرار محاولات التجريب والبحث عن صياغات جديدة، اتجهت الباحثة نحو التجهيز في الفراغ ولكن بشكل حثيث في العمل الفني “ديالكتية الحب.. أول آدم، أول حواء، أول حب”، وذلك باستخدام الرسم بأقلام الماركر على الحائط وتتدلى من السقف تفاحة حمراء حقيقية، مناقشةً من خلاله أول جدال بين آدم وحواء، لتبدو الباحثة كمن يُرجع الأمور إلى أصولها للبحث عن سبب حالات الجدال، البحث في إشكالية الخطيئة الأولى فعمدت إلى استخدام تفاحة باللون الأحمر شديد الوضوح للتركيز على أهم سبب للجدال هل كان العنصر لنفسه أم كان دلالة رمزية عن حالة الحب، وتؤكد ذلك من خلال الظل الواقع من التفاحة وسط الكتلتين التي تعبران عن آدم وحواء.
وتتناول الباحثة تجربتها الفنية “انتظار” التي أنجزتها في 2020 موضحة “الانتظار هو محنة، في الانتظار تتمزّق الأعضاء في الأنفس، في الانتظار يموت الزمن وهو يعلم موته، والمستقبل يرتكز على المقدمات الواضحة ولكنه يحمل النهايات المتناقضة فليعب كل ملهوف من قدح القلق ما شاء.لأنّ هناك أحداً لا يأتي في الموعد ولأنّ الانتظار يشبه الجلوس على الصفيح الساخن، أعاد عقارب الساعة اليدوية عشرين دقيقة إلى الخلف هكذا تمكن من أن يخفف عن نفسه عذاب الانتظار ونسي الأمر. الانتظار عند المرأة ليس بالوقت الضائع إنّه وقت مليء بالإحساس والحكايات، فالمرأة تنظر بعينين مفتوحتين إلى كل شيء والأذنين أيضاً، والذي تلمحه في لحظة، لا يتمكن الرجل من أن يدركه في ساعات، أصيب بهوس في رصد الاحتمالات الكثيرة”.
وتختتم فصلها الخاص بكشف تجليات تجربتها الفنية “أما بعد” 2021، تقول “الكلمات: مُسطّحة اللغة، نسقٌ مُغلق حول نفسه، هي الدلالات، الأكواد، والاستعارات، ولكنها تظل كلمات تَرجِع في أصلِها إلى النقطة. النقطة أصل الكون. بداية العناصر كلها. جامعة الروح والمادة معا، منها تخرج الدائرة، رمزية الوحدة والكمال. أما بعد.. كُتبت تلك الجوابات بهذا الشكل، لتصل إلى ما يُمْكنه لمس الكلمات وقراءتها بيده قبل عينيه. يُمْكنه السفر بينها ليشعر بقيمة الحب، الحنين، الشوق، ويتأثر بالفراق والبعد. قد تُعطي الكلمات معاني ولكن؛ تعطي تلك الجوابات دلالات وأكوادًا أكثر من ذلك. تم تنفيذ التجربة لتناسب ذوي الهمم ممن يمكنهم القراءة بطريقة “برايل”، واعتمدت على عنصر الدائرة لأنه أصل الأشياء وبدايتها فالنقطة دائرة والكون كله أوله دائرة