ربيعة رنيشي فنانة تونسية تخلق نساء خياليات يعدن إنشاء ماض جديد
محمد ناصر المولهي
ألوان وروائح وأصوات من حقل خيالي
لو تأملنا في الكثير من الأعمال التشكيلية العالمية وحتى العربية، لا نكاد نجد فنانا أو فنانة لم يرسم المرأة، ولكل فنان طريقته في رسم المرأة. لكن رسم المرأة للمرأة يبدو الأكثر إثارة وصعوبة ودقة، فكيف ترسم ذاتك أو عوالمك التي قد لا يحيط الرجل بخفاياها الكثيرة؟ وكم هي عميقة عوالم النساء ومتشابكة، ففي محاولة الإحاطة بعالم المرأة توجد محاولة للإحاطة بعالم الإنسان الخفي، وهذا ما حاولت الفنانة التونسية ربيعة رنيشي الاشتغال عليه في معرضها الجديد “رحلة”.
افتتح مساء السبت الرابع عشر من مايو الجاري في فضاء دار الثقافة بمحافظة نابل التونسية معرض تشكيلي جديد للفنانة التونسية ربيعة رنيشي بعنوان “رحلة”، وقد حضرته “العرب”.
ويستمر المعرض الذي قدم أعمالا في الرسم والنحت والتنصيبة إلى موفى شهر مايو الجاري، مقدمة للحضور تجربة حسية فريدة من نوعها، نجحت من خلالها الفنانة في التأسيس لعوالم مدهشة في تشكلها وألوانها وفي شخصياتها النسائية غير الواقعية، واللواتي يأخذن من يشاهدهن إلى أسرار بعيدة له أن يشكلها معهن ومع أحاديثهن كما يشاء.
لماذا النساء
نساء ثرثارات بلا هواجس جنسية
تسأل “العرب” الفنانة عن سبب اختيارها الاقتصار على رسم النساء، لتجيبنا “شغلي الشاغل هو النساء، يمكن أن يكون ذلك بسبب أن النساء مؤثرات في حياتي، منذ فتحت عيني وجدت أمي امرأة مثابرة، كما كان حضور النساء أكثر من حضور الرجل، وهذا ليس مقصودا وإنما بطريقة عفوية أجد نفسي أرسم النساء بشكل خاص”.
ونسألها لماذا أكثر من امرأة في كل لوحة؟ فتقول “أنا يهمني
الحوار ولا أحبذ العزلة، دائما هناك اثنان أو أكثر في كل لوحة، في كل لوحة حوار، مثلا اثنتان تتحدثان والأخرى تتفرج، وهكذا”.
ونجد أكثر من عنوان في لوحات رنيشي تحيل إلى الحوارات مثل “حدثيني عنك” و”أحاديث ضاحكة” و”حديث ممتع” و”لا تعبسي” و”تنصيبة: عالم الأنثى.. ثرثرة مفرطة”، وعن ذلك تقول الفنانة رنيشي “محيطي الريفي البسيط أثر في أعمالي، حيث تجتمع النسوة للحديث والثرثرة، لذلك سميت مجمل لوحاتي بأسماء تحيل إلى الحوار والثرثرة”.
ماذا تقول النساء، خاصة وأن نظراتهن تخفي الكثير من المشاكسة والنظرة القوية واللاعبة والمختلفة الزوايا؟
تجيب “أنا لا أتعمد هذا، ربما يحكم المسألة لاوعيي أكثر، فنسائي هن من وحي خيالي المحض وأنا لا أحاكي الواقع، الأعين مدورة والأيدي، ربما استقيت هذا من محيطي الريفي ومن اتساع أعين الأبقار والانفتاح على محيط كامل من الحياة”.
نجد مثلا أن أنوف نساء رنيشي المتخيلات تحتل مساحة ثلثي وجوههن، أنوف مشغولة لتتوسط الأوجه في تلونها، ربما إذن هي حاسة الشم. هي خلقت هذا الجو من الألوان الممتزجة في خلطة عجيبة زاهية تتنقل بين القوة والهدوء والمرح والسطوع والخفوت، وهو ما ترجعه الفنانة مرة أخرى إلى تأثير بيئة الريف في خلق نسائها.
وتقول رنيشي لـ”العرب”، “أتذكر نفسي في طفولتي أيام الرعي وسط الورد والعشب الأخضر والتقاء البحر والحقل. البحر لا لون له، هو انعكاس، موجات الألوان هي موجة من الخيال، أحاول دفع المتلقي إلى التخيل”.
حنين ملون
ألوان قوس قزح تشكلها الفنانة بخطوط لا حدّة فيها، خطوط منسابة متموجة في تداخل نسوتها وتعالقهنرغم أن اللوحات نوع من الحنين فإنها لم تتوسل كثيرا باللون البني الأقرب إلى جو الحنين الهادئ إلا في بعض التفاصيل، مانحة إياه مساحة صغيرة، بل سارت الفنانة إلى حنين آخر، من خلال ألوان أخرى ركزت عليها أكثر؛ فنجد مثلا الأخضر بما يمثله من رمز للخصب والربيع والطبيعة المفتوحة في هدوء نفسي.
كما نجد الأزرق لون الماء والسماء في المخيال الطفولي، ونجد الأرجواني اللون الحالم المستمد قوته وطاقته من تمازج اللونين الأحمر والأزرق، ونجد الأصفر حاضرا بقوة أيضا. ورغم أنه يمثل عادة الجانب المنطقي الساطع في عملية التفكير، فإنه يحضر هنا في تكامله مع بقية الألوان كدلالة ربما على الحصاد، وكأنه أرض مفتوحة لتقف عليها النسوة للتحدّث. ونجد ألوانا عديدة أخرى كالبرتقالي والوردي وحتى الأحمر في حضور نادر.
إننا أمام ألوان طيف الضوء أو قوس قزح، تشكلها الفنانة بخطوط لا حدّة فيها، خطوط منسابة ومتموجة في تداخل نسوتها وتحاضنهن وتعالقهن في فضاء لا مكاني، بل هو لوني تؤثثه بعض الأزهار والكثير من الحركة، حركة هادئة خفية للأيدي والأعين وحتى شكل الأنف وطريقة النظرة، وأخرى مستفزة أو هي مستثارة بكلمة ما من أحاديث النسوة.
خطوط منسابة ومتموجة في تداخل نسوتها وتحاضنهن وتعالقهنوللون أهمية بالغة لا في مساحة الخيال فحسب بل في أن يكون بديلا عن الكلام؛ فكما كانت مثلا “المرحلة الزرقاء” لبيكاسو بما ضمته من أجساد منكسرة وحركات يملأها الإحباط كانت فترة الحزن والألم بامتياز في تاريخ الفنان. من هنا نفهم أهمية اللون من جهة وأهمية أن يكون اللون لغة الفنان أو المبدع الخاصة؛ فكما كان الأبيض لون الموت أو العدم أو المطلق في قصائد محمود درويش، كانت تشكيلة رنيشي في ألوان قوس قزح لعبة التذكر وسط حقول بعيدة، لعبة تخوضها نيابة عن الفنانة نساء متعددات ومتشابهات وبعيدات عن الواقع وقريبات منه ومتخيلات، ولكنهن حقيقيات في أرض تبتكرها الفنانة من الألوان المنمشة بالزهور.
من ناحية أخرى لم يكن جو التذكر أو الالتفات إلى الماضي البعيد جو حسرة أو تأملات حزينة، غالبا ما يسقط فيها الكثير من الفنانين والشعراء والكتاب وغيرهم، بل أعادت الفنانة صياغة ماضيها؛ نساؤها نساء أخريات، غير نساء دي لا كروا مثلا وغير نساء بيكاسو وما تتابع من مدرستين متباعدتين من تفرعات.
نساء الفنانة لا مفاتن لهن، لا هواجس جنسية أو معالم جسدية واضحة التعابير، فقط أعينهن المفتوحة ونصف المفتوحة وأنوفهن الكبيرة وألوانهن المشغولة بمخيلة منطلقة، وحركاتهن المتشابكة، نساء يمثلن ربما لا الماضي الحقيقي بقدر ما يمثلن صورة منتقاة التفاصيل لعالم اختفى. نساء مرحات تشم ألوانهن المحملة بالربيع وتسمع أصواتهن الخافتة وهي تتهامس بحديث ما.
ونلاحظ أن النساء بأيديهن من ثلاثة أصابع أو أقدامهن التي تستبدلها الفنانة بحوافر، فيما شعورهن قصيرة؛ كل هذا يبعدنا عن صور النساء المعهودة في الفن التشكيلي، حتى التكعيبي الذي حول المرأة إلى فكرة لكنه لم يلغ التركيز على بعدها الجنسي، هنا نساء بفساتين من طراز قديم مرقطة بزهور وأشكال على طراز الفساتين ومناديل الرأس التي كانت دارجة في ثمانينات القرن الماضي، قبل أن ينقلب الحال إلى فكر يدعي أنه محافظ.
عالم آخر
للون أهمية بالغة لا في مساحة الخيال فحسب بل في أن يكون بديلا عن الكلامتجمع الفنانة بين اختصاصات فنيّة مختلفة وهي الرسّم والمنحوتة والتنصيبة، وهذه الأخيرة التي أنجزتها رنيشي على الخشب المسطح حاولت فيها أن تقدم صورة من الأمام والخلف، وكان في اختيار وضع الصور وسط القاعة ليتجول الجمهور بينها ذكاء لإقحام المشاهد في لعبة تجمّع هؤلاء النسوة بأجسادهن الغريبة والعجيبة، إنها لعبة الثرثرة بما تخفيه من حميمية ومشاعر.
تسأل “العرب” الفنانة رنيشي: لو نسمّ عالم النساء من جديد ماذا سنسميه؟ فتجيب “سأسميه رحلة في الروح، في الذاكرة، في الخيال”.
وتضيف “لا أنكر أنه فعلا جاء من ذاكرتي، من حنيني إلى الماضي البعيد الذي لا يعود، حتى نساء الريف تغيرن، خفتت الحوارات وتباعد الناس وصرنا في عزلة اجتماعية”.
إذن الرحلة هي استعادية من ناحية ولكنها من ناحية أخرى تريد تأسيس عالم آخر يأخذ من الماضي روائحه وألوانه وأصواته ويؤسس لعالم متخيل له رومانسيته الخاصة ومرحه المثير، وهذا لا عبر النظر فحسب وإنما عبر تحفيز المتلقي على معايشة عوالم الفنانة والتعرف على نسائها وهن مرسومات على اللوحات أو على التنصيبات التي كما أسلفنا لها بعدان من الأمام والخلف، كما يمكن لمسها والتفاعل معها.
إن التأسيس لعالم محسوس بالكامل وتشغيل حواس الإنسان الأكثر تأثيرا نجح فيهما معرض “رحلة” ليعيدنا إلى ماضينا الذي نعرفه ولا نعرفه، إنه مرح طفولي يسعى لحماية إنسانياتنا من الاضمحلال في برودة الواقع وسذاجة التذكر الحزين.
ويذكر أن معرض “رحلة” يستمر إلى غاية الحادي والثلاثين من مايو بدار الثقافة نابل لينتقل في الفترة الممتدة بين الرابع والرابع عشر من يونيو إلى المركب الثقافي بالمنستير، وينتقل بعد ذلك إلى المركب الثقافي أسد بن الفرات في القيروان حيث يستمر إلى موفى يونيو، وفي نوفمبر ينتقل إلى مدينة تونس.
محمد ناصر المولهي
ألوان وروائح وأصوات من حقل خيالي
لو تأملنا في الكثير من الأعمال التشكيلية العالمية وحتى العربية، لا نكاد نجد فنانا أو فنانة لم يرسم المرأة، ولكل فنان طريقته في رسم المرأة. لكن رسم المرأة للمرأة يبدو الأكثر إثارة وصعوبة ودقة، فكيف ترسم ذاتك أو عوالمك التي قد لا يحيط الرجل بخفاياها الكثيرة؟ وكم هي عميقة عوالم النساء ومتشابكة، ففي محاولة الإحاطة بعالم المرأة توجد محاولة للإحاطة بعالم الإنسان الخفي، وهذا ما حاولت الفنانة التونسية ربيعة رنيشي الاشتغال عليه في معرضها الجديد “رحلة”.
افتتح مساء السبت الرابع عشر من مايو الجاري في فضاء دار الثقافة بمحافظة نابل التونسية معرض تشكيلي جديد للفنانة التونسية ربيعة رنيشي بعنوان “رحلة”، وقد حضرته “العرب”.
ويستمر المعرض الذي قدم أعمالا في الرسم والنحت والتنصيبة إلى موفى شهر مايو الجاري، مقدمة للحضور تجربة حسية فريدة من نوعها، نجحت من خلالها الفنانة في التأسيس لعوالم مدهشة في تشكلها وألوانها وفي شخصياتها النسائية غير الواقعية، واللواتي يأخذن من يشاهدهن إلى أسرار بعيدة له أن يشكلها معهن ومع أحاديثهن كما يشاء.
لماذا النساء
نساء ثرثارات بلا هواجس جنسية
تسأل “العرب” الفنانة عن سبب اختيارها الاقتصار على رسم النساء، لتجيبنا “شغلي الشاغل هو النساء، يمكن أن يكون ذلك بسبب أن النساء مؤثرات في حياتي، منذ فتحت عيني وجدت أمي امرأة مثابرة، كما كان حضور النساء أكثر من حضور الرجل، وهذا ليس مقصودا وإنما بطريقة عفوية أجد نفسي أرسم النساء بشكل خاص”.
ونسألها لماذا أكثر من امرأة في كل لوحة؟ فتقول “أنا يهمني
الحوار ولا أحبذ العزلة، دائما هناك اثنان أو أكثر في كل لوحة، في كل لوحة حوار، مثلا اثنتان تتحدثان والأخرى تتفرج، وهكذا”.
ونجد أكثر من عنوان في لوحات رنيشي تحيل إلى الحوارات مثل “حدثيني عنك” و”أحاديث ضاحكة” و”حديث ممتع” و”لا تعبسي” و”تنصيبة: عالم الأنثى.. ثرثرة مفرطة”، وعن ذلك تقول الفنانة رنيشي “محيطي الريفي البسيط أثر في أعمالي، حيث تجتمع النسوة للحديث والثرثرة، لذلك سميت مجمل لوحاتي بأسماء تحيل إلى الحوار والثرثرة”.
ماذا تقول النساء، خاصة وأن نظراتهن تخفي الكثير من المشاكسة والنظرة القوية واللاعبة والمختلفة الزوايا؟
تجيب “أنا لا أتعمد هذا، ربما يحكم المسألة لاوعيي أكثر، فنسائي هن من وحي خيالي المحض وأنا لا أحاكي الواقع، الأعين مدورة والأيدي، ربما استقيت هذا من محيطي الريفي ومن اتساع أعين الأبقار والانفتاح على محيط كامل من الحياة”.
نجد مثلا أن أنوف نساء رنيشي المتخيلات تحتل مساحة ثلثي وجوههن، أنوف مشغولة لتتوسط الأوجه في تلونها، ربما إذن هي حاسة الشم. هي خلقت هذا الجو من الألوان الممتزجة في خلطة عجيبة زاهية تتنقل بين القوة والهدوء والمرح والسطوع والخفوت، وهو ما ترجعه الفنانة مرة أخرى إلى تأثير بيئة الريف في خلق نسائها.
وتقول رنيشي لـ”العرب”، “أتذكر نفسي في طفولتي أيام الرعي وسط الورد والعشب الأخضر والتقاء البحر والحقل. البحر لا لون له، هو انعكاس، موجات الألوان هي موجة من الخيال، أحاول دفع المتلقي إلى التخيل”.
حنين ملون
ألوان قوس قزح تشكلها الفنانة بخطوط لا حدّة فيها، خطوط منسابة متموجة في تداخل نسوتها وتعالقهنرغم أن اللوحات نوع من الحنين فإنها لم تتوسل كثيرا باللون البني الأقرب إلى جو الحنين الهادئ إلا في بعض التفاصيل، مانحة إياه مساحة صغيرة، بل سارت الفنانة إلى حنين آخر، من خلال ألوان أخرى ركزت عليها أكثر؛ فنجد مثلا الأخضر بما يمثله من رمز للخصب والربيع والطبيعة المفتوحة في هدوء نفسي.
كما نجد الأزرق لون الماء والسماء في المخيال الطفولي، ونجد الأرجواني اللون الحالم المستمد قوته وطاقته من تمازج اللونين الأحمر والأزرق، ونجد الأصفر حاضرا بقوة أيضا. ورغم أنه يمثل عادة الجانب المنطقي الساطع في عملية التفكير، فإنه يحضر هنا في تكامله مع بقية الألوان كدلالة ربما على الحصاد، وكأنه أرض مفتوحة لتقف عليها النسوة للتحدّث. ونجد ألوانا عديدة أخرى كالبرتقالي والوردي وحتى الأحمر في حضور نادر.
إننا أمام ألوان طيف الضوء أو قوس قزح، تشكلها الفنانة بخطوط لا حدّة فيها، خطوط منسابة ومتموجة في تداخل نسوتها وتحاضنهن وتعالقهن في فضاء لا مكاني، بل هو لوني تؤثثه بعض الأزهار والكثير من الحركة، حركة هادئة خفية للأيدي والأعين وحتى شكل الأنف وطريقة النظرة، وأخرى مستفزة أو هي مستثارة بكلمة ما من أحاديث النسوة.
خطوط منسابة ومتموجة في تداخل نسوتها وتحاضنهن وتعالقهنوللون أهمية بالغة لا في مساحة الخيال فحسب بل في أن يكون بديلا عن الكلام؛ فكما كانت مثلا “المرحلة الزرقاء” لبيكاسو بما ضمته من أجساد منكسرة وحركات يملأها الإحباط كانت فترة الحزن والألم بامتياز في تاريخ الفنان. من هنا نفهم أهمية اللون من جهة وأهمية أن يكون اللون لغة الفنان أو المبدع الخاصة؛ فكما كان الأبيض لون الموت أو العدم أو المطلق في قصائد محمود درويش، كانت تشكيلة رنيشي في ألوان قوس قزح لعبة التذكر وسط حقول بعيدة، لعبة تخوضها نيابة عن الفنانة نساء متعددات ومتشابهات وبعيدات عن الواقع وقريبات منه ومتخيلات، ولكنهن حقيقيات في أرض تبتكرها الفنانة من الألوان المنمشة بالزهور.
من ناحية أخرى لم يكن جو التذكر أو الالتفات إلى الماضي البعيد جو حسرة أو تأملات حزينة، غالبا ما يسقط فيها الكثير من الفنانين والشعراء والكتاب وغيرهم، بل أعادت الفنانة صياغة ماضيها؛ نساؤها نساء أخريات، غير نساء دي لا كروا مثلا وغير نساء بيكاسو وما تتابع من مدرستين متباعدتين من تفرعات.
نساء الفنانة لا مفاتن لهن، لا هواجس جنسية أو معالم جسدية واضحة التعابير، فقط أعينهن المفتوحة ونصف المفتوحة وأنوفهن الكبيرة وألوانهن المشغولة بمخيلة منطلقة، وحركاتهن المتشابكة، نساء يمثلن ربما لا الماضي الحقيقي بقدر ما يمثلن صورة منتقاة التفاصيل لعالم اختفى. نساء مرحات تشم ألوانهن المحملة بالربيع وتسمع أصواتهن الخافتة وهي تتهامس بحديث ما.
ونلاحظ أن النساء بأيديهن من ثلاثة أصابع أو أقدامهن التي تستبدلها الفنانة بحوافر، فيما شعورهن قصيرة؛ كل هذا يبعدنا عن صور النساء المعهودة في الفن التشكيلي، حتى التكعيبي الذي حول المرأة إلى فكرة لكنه لم يلغ التركيز على بعدها الجنسي، هنا نساء بفساتين من طراز قديم مرقطة بزهور وأشكال على طراز الفساتين ومناديل الرأس التي كانت دارجة في ثمانينات القرن الماضي، قبل أن ينقلب الحال إلى فكر يدعي أنه محافظ.
عالم آخر
للون أهمية بالغة لا في مساحة الخيال فحسب بل في أن يكون بديلا عن الكلامتجمع الفنانة بين اختصاصات فنيّة مختلفة وهي الرسّم والمنحوتة والتنصيبة، وهذه الأخيرة التي أنجزتها رنيشي على الخشب المسطح حاولت فيها أن تقدم صورة من الأمام والخلف، وكان في اختيار وضع الصور وسط القاعة ليتجول الجمهور بينها ذكاء لإقحام المشاهد في لعبة تجمّع هؤلاء النسوة بأجسادهن الغريبة والعجيبة، إنها لعبة الثرثرة بما تخفيه من حميمية ومشاعر.
تسأل “العرب” الفنانة رنيشي: لو نسمّ عالم النساء من جديد ماذا سنسميه؟ فتجيب “سأسميه رحلة في الروح، في الذاكرة، في الخيال”.
وتضيف “لا أنكر أنه فعلا جاء من ذاكرتي، من حنيني إلى الماضي البعيد الذي لا يعود، حتى نساء الريف تغيرن، خفتت الحوارات وتباعد الناس وصرنا في عزلة اجتماعية”.
إذن الرحلة هي استعادية من ناحية ولكنها من ناحية أخرى تريد تأسيس عالم آخر يأخذ من الماضي روائحه وألوانه وأصواته ويؤسس لعالم متخيل له رومانسيته الخاصة ومرحه المثير، وهذا لا عبر النظر فحسب وإنما عبر تحفيز المتلقي على معايشة عوالم الفنانة والتعرف على نسائها وهن مرسومات على اللوحات أو على التنصيبات التي كما أسلفنا لها بعدان من الأمام والخلف، كما يمكن لمسها والتفاعل معها.
إن التأسيس لعالم محسوس بالكامل وتشغيل حواس الإنسان الأكثر تأثيرا نجح فيهما معرض “رحلة” ليعيدنا إلى ماضينا الذي نعرفه ولا نعرفه، إنه مرح طفولي يسعى لحماية إنسانياتنا من الاضمحلال في برودة الواقع وسذاجة التذكر الحزين.
ويذكر أن معرض “رحلة” يستمر إلى غاية الحادي والثلاثين من مايو بدار الثقافة نابل لينتقل في الفترة الممتدة بين الرابع والرابع عشر من يونيو إلى المركب الثقافي بالمنستير، وينتقل بعد ذلك إلى المركب الثقافي أسد بن الفرات في القيروان حيث يستمر إلى موفى يونيو، وفي نوفمبر ينتقل إلى مدينة تونس.