للرجال بركة" مونودراما تسخر بجرأة وتصارح بتلقائية
محمد ناصر المولهي
امرأة تطل من نافذة الوحدة العالية
يبقى المسرح الفن الأكثر صعوبة في علاقته المباشرة مع الجمهور، جمهور من مختلف المشارب، لا أحد يضمن ردات فعله، لذا غالبا ما تواجه المسرحيات الجريئة الكثير من التحديات، إنها لعبة مستمرة منذ قرون في المسرح، لعبة قليل من المسرحيين من اجتازها محافظا على مساحة حريته وأفكاره، هذه المساحة نجدها حاضرة في العرض المونودرامي التونسي “للرجال بركة”.
ضمن فعاليات دورته السادسة والخمسين قدم مهرجان الحمامات الدولي مساء الاثنين الثامن من أغسطس الجاري العرض المسرحي “للرجال بركة” إخراج توفيق العايب وتمثيل نجوى ميلاد.
تنتمي المسرحية إلى المونودراما التي تقوم على ممثل واحد فوق الخشبة، وقد تمكنت نجوى ميلاد من شد الجمهور بحكاياتها التي تجسدها بصدق مقتحمة عوالم ما بين الفردي الخاص والجماعي المشترك.
الذاتي والجماعي
الراوية "رفيقة" لم تتوقف عن الولوج إلى مواضيع مختلفة تتنقل بسلاسة بين ما هو ذاتي واجتماعي وسياسي
تنطلق مونودراما “للرجال بركة” من مشهد حفل زفاف نفهم أنه ابن الراوية التي ستواصل على امتداد العرض سرد حكايتها وآرائها بتلقائية وجرأة، متنقلة بين الماضي والحاضر وبين ذاتها وتجربتها وواقع البلاد.
سينوغرافيا بسيطة من كنبة وطاولة وستار خشبي صغير تغير خلفه الممثلة ملابسها، يمكننا اعتباره من باب التغريب، ووظيفته أن يلغي جوانب اللعبة المسرحية الخفية، ومن شأنه أن يقرب أكثر الممثل من الجمهور، وهنا نفهم أهمية عناصر السينوغرافيا على بساطتها إذا تم توظيفها بعناية ووعي.
إذن نحن أمام راوية اسمها رفيقة، ممثلة مسرحية، في حفل زفاف ابنها الوحيد، من الفوضى والضجيج اللذين يرافقان حفلات الأعراس، تتطرق الراوية إلى العديد من التفاصيل البسيطة، التي ترافق عادة مثل هذه الحفلات، من حلويات وكراء قاعة أفراح والفرقة الموسيقية والأحاديث “النسائية”، ولا نقصد بالنسائية النسوية أو حتى التصنيف الجندري، بل هي نمائم وثرثرات قد تبدو بلا وعي، فيما تخفي خلفها منظومة اجتماعية كاملة قائمة على المظاهر والتركيز على توافه الأمور وإهمال الجوهر.
عادات اجتماعية تالفة تنقدها الراوية التي تحتج في حفل زفاف ابنها، وصولا إلى المشهد الموالي وعودتها إلى منزلها بمفردها، لتعود امرأة وحيدة، تتوسد عكازها، تقول “عكاز دنيا محطة ومرحلة يعيشها بنو آدم بهمها، بفرحتها وبقهرتها”، عودة إلى العجز وبرد الوحدة ومكابدة أبسط تفاصيل الحياة لوحدها.
امرأة لم يبق لها غير العكاز كما تقول. حتى محاولاتها طرد الفتيات اللواتي حاولن الارتباط بابنها فشلت أخيرا، لينفصل الابن عنها إلى حياته الجديدة، وهي التي منحته عمرا بأكمله متخلية عن أبيه وعن الحب والشهرة وغيرها من مغريات لتكرس حياتها له، وها هو يهجرها، إنها دورة الحياة القاسية. والأم وحيدة تنادي على ابنها بعد أن تكيل له الشتائم “يا قلب أمك المجروح”.
من تلك الوحدة الباردة تعود بنا رفيقة إلى طفولتها، تحكي لنا حكاية طريفة عن عدم نطقها لحرف الراء في مفارقات مضحكة، تحكي لنا لاحقا عن شبابها، وأيام الجامعة، حين كانت من بين الطلبة الشيوعيين، وصولا إلى مرحلة احتراف التمثيل، وما واجهته في هذا العالم المعقد.
لم تتوقف الراوية “رفيقة” عن الولوج إلى مواضيع مختلفة، تتنقل بسلاسة بين ما هو اجتماعي، تنقد الذكورية والعقليات الرجعية ومدعي التحرر وعشاق المظاهر من خلال علاقاتها بالرجال مثلا، تفكك من الداخل علاقة الأم بابنها الذي يتركها في النهاية إلى حياة جديدة، تنقد علاقات النفاق والاستغلال والكذب المنتشرة في المجتمع.
ولا تغفل الرواية التطرق إلى الواقع السياسي، مثل إحالاتها على القضية الفلسطينية والحرب على العراق، وخاصة حديثها عن العلاقات التي تحكم بعض الشباب اليساري، ووهم التحرر الذي يحركهم وفي النهاية ينكشف أن كل ذلك ما هو إلا قشور لحجب تخلف اجتماعي متأصل في الذوات، لا تنزعه ولا تذيبه الأفكار التي يشهرها “الرفاق”.
تنقد كذلك الواقع الفني وما تتعرض له خاصة المرأة المبدعة، إذ عانت كمملثة من التحرش والأساليب الملتوية، التي تعاني منها العديد من الممثلات في تونس وخارجها أيضا، إذ تحكم اللعبة في قطاع المسرح وحتى الدراما والسينما منظومة تقوم على الاستغلال، وأبرز مظاهره الاستغلال الجنسي لطالبات الشهرة.
جرأة وتلقائية
“للرجال بركة” مونودراما تسخر بجرأة من الشعارات الرنانة، شعارات النضال وحرية الجسد والحب والمرأة، وتقف في منطقة المكاشفة التي لا يخشى الاقتراب منها الكثيرون، خوفا من الجمهور.
وربما لن يشجع الجو العام المنتشر اليوم بين الجماهير في تونس على الجرأة، بل سيدفع الكثيرين إلى السكوت والمواربة وتجنب المواضيع الساخنة، إذ باتت الجماهير تتحرك بعدائية نلمسها حتى على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما تعرضت له الممثلة نجوى ميلاد نفسها من تشويه وغيره.
يحسب لنجوى ميلاد شجاعتها في القول والأداء والكشف دون خوف أو مواربة، إنها تقول الأمور كما هي، لا بإسفاف أو محاولات للإضحاك بأي طريقة، وإنما بوعي وخاصة بتلقائية، فكأننا بالفنانة تتحدث في النهاية عن نفسها وعمّا كابدته في عملها لعقود في المسرح، وما عاشته في حياتها الخاصة.
ما بين الممثلة نجوى ميلاد وشخصية رفيقة تشابه ربما، لكن لا مجال للمطابقة بين شخصها والشخصية التي أعطتها الكثير من ذاتها.
لم يقم العرض على التقمص الذي يؤديه عادة الشخص لشخصيات عديدة في المونودراما، بل قام على غرار عروض أخرى كثيرة على تقنية الحكي الذي تقوده راوية، وهي تقنية صعبة للغاية خاصة مع مزاج الجماهير التي قد تمل بسرعة من رتابة الحكي، وهو ما تجنبه العرض بتنقلاته السلسة بين المواضيع، أو ببعض المفارقات الكوميدية أو الموسيقى أو الاتصال المباشر مع الجمهور.
محمد ناصر المولهي
امرأة تطل من نافذة الوحدة العالية
يبقى المسرح الفن الأكثر صعوبة في علاقته المباشرة مع الجمهور، جمهور من مختلف المشارب، لا أحد يضمن ردات فعله، لذا غالبا ما تواجه المسرحيات الجريئة الكثير من التحديات، إنها لعبة مستمرة منذ قرون في المسرح، لعبة قليل من المسرحيين من اجتازها محافظا على مساحة حريته وأفكاره، هذه المساحة نجدها حاضرة في العرض المونودرامي التونسي “للرجال بركة”.
ضمن فعاليات دورته السادسة والخمسين قدم مهرجان الحمامات الدولي مساء الاثنين الثامن من أغسطس الجاري العرض المسرحي “للرجال بركة” إخراج توفيق العايب وتمثيل نجوى ميلاد.
تنتمي المسرحية إلى المونودراما التي تقوم على ممثل واحد فوق الخشبة، وقد تمكنت نجوى ميلاد من شد الجمهور بحكاياتها التي تجسدها بصدق مقتحمة عوالم ما بين الفردي الخاص والجماعي المشترك.
الذاتي والجماعي
الراوية "رفيقة" لم تتوقف عن الولوج إلى مواضيع مختلفة تتنقل بسلاسة بين ما هو ذاتي واجتماعي وسياسي
تنطلق مونودراما “للرجال بركة” من مشهد حفل زفاف نفهم أنه ابن الراوية التي ستواصل على امتداد العرض سرد حكايتها وآرائها بتلقائية وجرأة، متنقلة بين الماضي والحاضر وبين ذاتها وتجربتها وواقع البلاد.
سينوغرافيا بسيطة من كنبة وطاولة وستار خشبي صغير تغير خلفه الممثلة ملابسها، يمكننا اعتباره من باب التغريب، ووظيفته أن يلغي جوانب اللعبة المسرحية الخفية، ومن شأنه أن يقرب أكثر الممثل من الجمهور، وهنا نفهم أهمية عناصر السينوغرافيا على بساطتها إذا تم توظيفها بعناية ووعي.
إذن نحن أمام راوية اسمها رفيقة، ممثلة مسرحية، في حفل زفاف ابنها الوحيد، من الفوضى والضجيج اللذين يرافقان حفلات الأعراس، تتطرق الراوية إلى العديد من التفاصيل البسيطة، التي ترافق عادة مثل هذه الحفلات، من حلويات وكراء قاعة أفراح والفرقة الموسيقية والأحاديث “النسائية”، ولا نقصد بالنسائية النسوية أو حتى التصنيف الجندري، بل هي نمائم وثرثرات قد تبدو بلا وعي، فيما تخفي خلفها منظومة اجتماعية كاملة قائمة على المظاهر والتركيز على توافه الأمور وإهمال الجوهر.
عادات اجتماعية تالفة تنقدها الراوية التي تحتج في حفل زفاف ابنها، وصولا إلى المشهد الموالي وعودتها إلى منزلها بمفردها، لتعود امرأة وحيدة، تتوسد عكازها، تقول “عكاز دنيا محطة ومرحلة يعيشها بنو آدم بهمها، بفرحتها وبقهرتها”، عودة إلى العجز وبرد الوحدة ومكابدة أبسط تفاصيل الحياة لوحدها.
امرأة لم يبق لها غير العكاز كما تقول. حتى محاولاتها طرد الفتيات اللواتي حاولن الارتباط بابنها فشلت أخيرا، لينفصل الابن عنها إلى حياته الجديدة، وهي التي منحته عمرا بأكمله متخلية عن أبيه وعن الحب والشهرة وغيرها من مغريات لتكرس حياتها له، وها هو يهجرها، إنها دورة الحياة القاسية. والأم وحيدة تنادي على ابنها بعد أن تكيل له الشتائم “يا قلب أمك المجروح”.
من تلك الوحدة الباردة تعود بنا رفيقة إلى طفولتها، تحكي لنا حكاية طريفة عن عدم نطقها لحرف الراء في مفارقات مضحكة، تحكي لنا لاحقا عن شبابها، وأيام الجامعة، حين كانت من بين الطلبة الشيوعيين، وصولا إلى مرحلة احتراف التمثيل، وما واجهته في هذا العالم المعقد.
لم تتوقف الراوية “رفيقة” عن الولوج إلى مواضيع مختلفة، تتنقل بسلاسة بين ما هو اجتماعي، تنقد الذكورية والعقليات الرجعية ومدعي التحرر وعشاق المظاهر من خلال علاقاتها بالرجال مثلا، تفكك من الداخل علاقة الأم بابنها الذي يتركها في النهاية إلى حياة جديدة، تنقد علاقات النفاق والاستغلال والكذب المنتشرة في المجتمع.
ولا تغفل الرواية التطرق إلى الواقع السياسي، مثل إحالاتها على القضية الفلسطينية والحرب على العراق، وخاصة حديثها عن العلاقات التي تحكم بعض الشباب اليساري، ووهم التحرر الذي يحركهم وفي النهاية ينكشف أن كل ذلك ما هو إلا قشور لحجب تخلف اجتماعي متأصل في الذوات، لا تنزعه ولا تذيبه الأفكار التي يشهرها “الرفاق”.
تنقد كذلك الواقع الفني وما تتعرض له خاصة المرأة المبدعة، إذ عانت كمملثة من التحرش والأساليب الملتوية، التي تعاني منها العديد من الممثلات في تونس وخارجها أيضا، إذ تحكم اللعبة في قطاع المسرح وحتى الدراما والسينما منظومة تقوم على الاستغلال، وأبرز مظاهره الاستغلال الجنسي لطالبات الشهرة.
جرأة وتلقائية
“للرجال بركة” مونودراما تسخر بجرأة من الشعارات الرنانة، شعارات النضال وحرية الجسد والحب والمرأة، وتقف في منطقة المكاشفة التي لا يخشى الاقتراب منها الكثيرون، خوفا من الجمهور.
وربما لن يشجع الجو العام المنتشر اليوم بين الجماهير في تونس على الجرأة، بل سيدفع الكثيرين إلى السكوت والمواربة وتجنب المواضيع الساخنة، إذ باتت الجماهير تتحرك بعدائية نلمسها حتى على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما تعرضت له الممثلة نجوى ميلاد نفسها من تشويه وغيره.
يحسب لنجوى ميلاد شجاعتها في القول والأداء والكشف دون خوف أو مواربة، إنها تقول الأمور كما هي، لا بإسفاف أو محاولات للإضحاك بأي طريقة، وإنما بوعي وخاصة بتلقائية، فكأننا بالفنانة تتحدث في النهاية عن نفسها وعمّا كابدته في عملها لعقود في المسرح، وما عاشته في حياتها الخاصة.
ما بين الممثلة نجوى ميلاد وشخصية رفيقة تشابه ربما، لكن لا مجال للمطابقة بين شخصها والشخصية التي أعطتها الكثير من ذاتها.
لم يقم العرض على التقمص الذي يؤديه عادة الشخص لشخصيات عديدة في المونودراما، بل قام على غرار عروض أخرى كثيرة على تقنية الحكي الذي تقوده راوية، وهي تقنية صعبة للغاية خاصة مع مزاج الجماهير التي قد تمل بسرعة من رتابة الحكي، وهو ما تجنبه العرض بتنقلاته السلسة بين المواضيع، أو ببعض المفارقات الكوميدية أو الموسيقى أو الاتصال المباشر مع الجمهور.