"وجوه خلف وجوه".. متاهة تشكيلية تجمع فنانين لبنانيين وسوريين
ميموزا العراوي
الأربعاء 2022/08/10
وجوه هاربة من الواقع
كان الوجه البشري دائما مستفزا للإبداع، فهو أيقونة فنية تزيدها المشاعر والتعابير عمقا وجمالا ترصده ريشة أشهر الرسامين الذي يعيدون تصوير الوجوه والملامح وفق مدارس تشكيلية مختلفة، فتراهم يعيدون تصوير الواقع كما هو أو حتى خلق وجوه وشخوص جديدة تختصر نظرتهم الفنية للأوجه من حولهم.
الوجه الإنساني هو موضوع مُستعاد في الأعمال التشكيلية منذ أن كان هناك تشكيل فني. لم يفقد هذا الموضوع أهميته مع مرور الزمن، بل تنامت مع مرور السنوات. وتطور تصوير الوجه الإنساني في التشكيل الفني حتى تخطى الواقع بأشواط وبشكل يفوق الخيال، وكان ذلك ولا يزال مرتبطا ارتباطا وثيقا بالتحولات الشخصية والعامة المتعلقة بالعصر الذي ولدت فيه الأعمال الفنية.
ومن ضمن هذا المنطق نظمت معارض فنية فردية وجماعية تناولت هذا الموضوع. ومن تلك المعارض ما تقدمه اليوم صالة "موجو" اللبنانية تحت عنوان "وجوه خلف وجوه" وذلك بداية من 9 أغسطس الجاري.
وقد سبقت هذا المعرض في هذه الصالة عدة معارض جماعية أخرى جمعت فنانين كثر هم في أحيان كثيرة أصحاب وأصدقاء توافقوا على “الصمود” من خلال الفن. وليس هذا الكلام من قبيل المبالغة إذ أن العديد من الفنانين المشاركين في هذا المعرض كما في المعارض السابقة صرحوا في أيام الثورة وأيام الحجر الصحي والمآسي التي تتالت ولم تنته إلى اليوم بأن الفن نوع من الخلاص من اليأس، وإن بشكل افتراضي، وتشجيع للفنانين على مواصلة العمل الفني.
"وجوه خلف وجوه" شمل أعمالا متفاوتة جدا، سواء من ناحية الأسلوب أو النضج أو الأهمية الفنية
“وجوه خلف وجوه” هو معرض جماعي تنظمه صالة “موجو” اللبنانية في بيروت ويضم عددا كبير من الفنانين التشكيليين اللبنانيين والسوريين وأسماؤهم التالية ليست مدرجة وفقا لأهمية أعمالهم الفنية، وهم الفنانة رنا علوش والفنانة روان حيدر والفنانة غيتا ميلكي والفنانة تيريزا عبود والفنانة نيكول كرم والتشكيلي نعمان عيسى والفنانة التشكيلية غايدة أسعد والفنان إلياس أيوب والفنان اليوناني الجنسية فريكسوس بوليناكيس والفنان سمعان خوام والفنان صلاح ميسي والفنان راشد بحصلي والفنان رامي منصور.
والجدير بالذكر أن صالة “موجو “اشتهرت منذ يوم افتتاحها بأنها تهتم بإطلاق فناين تشكيليين في عالم الفن مع تقديمها لفنانين محترفين. ولعل أهم ما ميز هذه الصالة إلى يومنا هذا هو ميلها الشديد إلى تقديم معارض جماعية عوضا عن الفردية وتضم الكثير من الفنانين، وذلك ليس فقط في موسم الصيف الذي تخف فيه وتيرة النشاط الفني لدى صالات العرض.
ويقدم القيمون على الصالة الفنية المعرض الحالي من خلال بيان صحافي يذكر “ماذا نعرف عن الأشخاص الذي نصادفهم يوميا خلال حياتنا؟ نلتقي معهم ونتواصل، نعم. ولكن ماذا نعرف حقا عنهم؟ عين الفنان الفضولية تريد أن تسبر أغوار وجوه الشخوص التي نلتقي بها ولا تود أن تبقى على السطح، بل تحاول أن تعرف وتُظهر أكثر من خلال اللون والخط والتركيب ما هو خلف الوجوه من حالات وأسرار.
يلمس الفنان بنظرته روح الشخص الذي يمر أو يقف أمامه ليعبر عن مشاعر مختلفة قد نقبلها أو نرفضها لكنها موجودة ولا نستطيع نكرانها. من هي هذه الوجوه خلف الوجوه؟ هل هي أنا أم الآخر، أم هي الفنان الذي رسمها؟”.
التفاوت يبرز بين الخبرات والمواهب الفنية دون أن يشكل ذلك أيّ مشكلة بالنسبة إلى المشهد العام في المعرض بل يؤثر فقط على أصحاب النصوص الفنية
صحيح أن عدد الفنانين المشاركين في معرض “وجوه خلف الوجوه” كبير غير أن الخلطة الفنية أكبر بكثير، إذ شمل المعرض أعمالا متفاوتة جدا سواء من ناحية الأسلوب أو النضج أو الأهمية الفنية. وفي حين قد يرى البعض ذلك نوعا من الفوضى التي جمعت طرائق وتجارب شديدة التباين غير أنها تؤدي بشكل أكيد دورا كبيرا في تظهير غنى الموضوع الذي يدور حوله المعرض والذي يشارك فيه فنانون ينتمون إلى زمن مشترك ويعايشون ظروفا اجتماعية متقاربة.ويساهم المعرض كذلك في الإشارة إلى مدى الاختلاف الذي يستطيع أن يكون عليه الوجه وتعبيره حتى حدود قصوى إن من ناحية الأسلوب الفني أو من ناحية قوة التعبير والاختلاف ما بين المشاعر والمواقف الوجودية المُعبّر عنها، وكذلك الأمر من ناحية النضج الفني الذي وصل إليه فنان دون آخر.
وفي سياق الاختلاف الشديد بين الأعمال نذكر أعمالا تذكر بالتكعيبية كما في لوحة الفنان فريكسوس بوليناكيس التي فيها الكثير من الحدة، وأخرى تميل إلى أهمية الألوان وتدرجاتها في تشكيل الوجوه وتعابيرها، كما في لوحات الفنان إلياس أيوب الذي ثابر على تشكيل وجوهه واعتمد على قوة اللون مقترنا بجرأة في ضربات الريشة.
المعرض يؤشّر على مدى الاختلاف الذي يستطيع أن يكون عليه الوجه وتعبيره
وفي المعرض وجوه طفولية توّد إخفاء مشاعرها كما في لوحة للفنانة غايدا أسعد. وهي فنانة بلغت أوج تعبيرها الفني سنة 2017 وقدمت لوحات رائعة، ويبدو أنها تستمر في تطوير عملها الفني ضمن سياق يختلف بعض الشيء عما قدمته سابقا مع المحافظة على رقة المشاعر.
وحضرت في المعرض أيضا أعمال رائعة للفنان التشكيلي السوري نعمان عيسى، وهي أعمال غنية جدا من ناحية تعبيرها وقدرتها على إثارة الاستفهام والتساؤل في نفس المُشاهد. ويُذكر هنا أن الملصق الإعلاني للمعرض يحمل صورة عن إحدى لوحاته الموجودة في المعرض.
ويشارك في صالة “موجو” الفنان صلاح ميسسي بعدة لوحات، وهي لوحات مشغولة بالأسود والأبيض تختفي فيها الوجوه خلف الأيادي لتلعب دور التعبير عن مشاعر الأسى عوضا عن وجه الشخص المرسوم في اللوحة.
ونذكر أيضا مشاركة الفنانة اللبنانية لوما رباح بألوانها البهيجة المعهودة والخفة التي تضع فيها ريشتها على سطح القماش. وتشارك في المعرض أيضا الفنانة نيكول كرم التي قدمت أعمالا عديدة ومتفاوتة من ناحية القيمة الفنية خلال وبُعيد الانتفاضة الشعبية التي عاشها لبنان وخاصة العاصمة سنة 2019.
ويبرز في الصالة دون أدنى شك التفاوت بين الخبرات والمواهب الفنية، دون أن يشكل ذلك أيّ مشكلة بالنسبة إلى المشهد العام في الصالة بل يؤثر فقط على أصحاب النصوص الفنية التي فيها ضعف واضح من ناحية البراعة التقنية أو الثقل التعبيري.
ويستمر المعرض طوال شهر أغسطس وقد يتم تمديده كما يجري عادة بالنسبة إلى المعارض الجماعية في كل الصالات اللبنانية.