سيمون دو بوفوار
تروي اضطراب حبها الأول الذي لم ينته
سيمون دو بوفوار
سامية عيسىمن الصعب المفاضلة بين سيمون دي بوفوار الفيلسوفة والأديبة. فهي برعت وأبدعت في الحقلين. وإن بدت رواية “صبيتان لا تفترقان” التي صدرت ترجمتها العربية حديثاً عن دار الآداب (ترجمة محمد آيت حنا) كأنها من نوع السيرة الذاتية المزدوجة لكل من دي بوفوار وحبها الأول “إليزابيث لاكوان” المعروفة بشخصية “زازا” في روايتها “مذكرات فتاة رصينة”، وحملت اسم “أندريه” في “صبيتان لا تفترقان”. وهذه الرواية كناية عن الجزء الثاني لـ”سيرة المرأتين” لكن بأسماء مستعارة. مع ذلك، حمل هذان النصان الأدبيان فضلاً عن رواية “ماندارين” كل المقومات الأدبية لفن الرواية الكلاسيكي. منحت دي بوفوار نفسها اسم سيلفي- التي أحبت أندريه من غير أي مقابل. وعلى الرغم من الاختلاف الجوهري في شخصيتيهما، فإن شيئاً واضحاً من التخييل السردي المبني على حقائق، تم حبكه لتتمكن دي بوفوار من إزاحة اللثام عن خفايا شخصية أندريه، وتفكيك تعقيداتها وتناقضاتها التي كانت لا تزال تعيشها غالبية الفتيات الفرنسيات في بدايات القرن العشرين. عطفاً على تشابكها مع أحداث الحرب العالمية الثانية واحتلال ألمانيا النازية لأجزاء كبيرة من فرنسا. كانت في ذلك الحين لا تزال الكثير من العائلات الفرنسية متمسكة بالعادات والتقاليد وتعاليم الكنيسة الكاثوليكية وتأثيراتها القوية في حياة المجتمع الفرنسي، على الرغم من النهضة الثقافية والفكرية التي عاشتها فرنسا منذ عصر الأنوار.عادات ومواجهةأندريه طفلة التسع سنوات تلتقي سيلفي في المدرسة الابتدائية التي لا تزال تحت تأثير العادات والتقاليد والقيم الدينية للكنيسة. وبينما تعيش أندريه في كنف عائلة كاثوليكية متزمتة وشديدة الورع، وتحافظ على الواجبات الكنسية الأسبوعية من تأدية الصلاة أيام الأحد، والمناولة وطقس الاعتراف، والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يتسبب بالإغواء ويزعزع الإيمان، ويعرض فضيلة الفتيات لأي خدش. عاشت سيلفي في كنف والدين على طرفي نقيض. فوالدة سيلفي أيضاً من الملتزمات بالطقوس الدينية للمجتمع الكاثوليكي وعاداته وتقاليده، بينما والدها يعتبر فرنسا دينه ومعبوده، ويزداد هذا الوله وعدم الاكتراث للدين حين تحتل ألمانيا النازية فرنسا إبان الحرب العالمية الأولى. تتأثر سيلفي بوالدها، لكن على الرغم من ذلك يبقى لوالدتها تأثير كبير في تربيتها في فترة الطفولة والمراهقة إلى أن بدأت تتفتح في روحها براعم التمرد.هذا الاختلاف بين الوالدين، وطموحات سيلفي العلمية والفكرية وشغفها بالقراءة الذي تتشارك فيه مع أندريه، يفتحان طريق سيلفي (سيمون دي بوفوار) للسير في رحلة التحرر الذي تبدأه بالتمرد على التقاليد، غير عابئة كثيراً بها وبالالتزامات الاجتماعية والدينية التي تفرضها والدتها، ويضع القراء وجهاً لوجه أمام المعضلات الفكرية التي تفتحت في شخصيتها باكراً مذ كانت طفلة ومن ثم مراهقة، ورسمت خطاً بيانياً تصاعدياً في تمردها الذي قادها بعد سنوات من الكفاح الذاتي والاجتماعي، إلى نشر رائعتها “الجنس الآخر” أحد أهم بل وأخطر الكتب التي مهدت للحركة النسوية والنضال من أجل تحرير المرأة من كل صنوف الاستعباد في العالم كله.رواية “صبيتان لا تفترقان” هي في الأساس قصة حب سيمون دي بوفوار لإليزابيث لاكوان. حب وصل حد الهوس بأندريه. ومع أنه كان حباً من طرف واحد، لم تبح به إلا متأخرة “خشية أن يفوت الأوان”، لكنه عنى لسيلفي/ سيمون كل شيء، بل كانت غير قادرة على التنفس من دونها أو حتى العيش إن ماتت أندريه. قالت لأندريه التي تأملتها بدهشة: “لم أخبرك قط بالأمر. ولكنني منذ أول يوم عرفتك فيه، صرت بالنسبة لي كل شيء. حتى إنني قررت: إن مت، فسوف أموت فورا”. ومع أن أندريه لم تبادلها الحب لا قبل اعتراف سيلفي لها ولا بعده، فهي تقبلتها كصديقة حميمة تشاركها الهموم والمغامرات وأسرارها العاطفية، سواء مع حبها الأول، حب الطفولة “برنار”، وحبها الثاني “باسكال” (موريس ميرلوبونتي) الذي تولهت به إلى درجة أنها فقدت صحتها، وهي في خضم صراع مرير بين الخضوع لتعليمات والدتها ونظرتها للحب والحياة الزوجية، والحب الكبير الذي حملته لـ”باسكال”. وهو الذي تربى كي يصبح راهباً، عدل لاحقاً عن ذلك، وإن بقي تأثره بهذه التربية جلياً في علاقته مع أندريه، وفي تفهمه لمتطلبات مدام غالار والدة أندريه وشروطها في إبعاد ابنتها عنه إلى إنجلترا، هذا الحب الجارف اصطدم بجدار أمها وتعليماتها القاسية، وقاد أندريه إلى حتفها وهي لما تزل في الثانية والعشرين من عمرها.البحث عن الذاتتصحبنا سيمون دي بوفوار من خلال “صبيتان لا تفترقان” في رحلة البحث عن الذات. ذاتها وذات أندريه. ففيما تسلك هي في هذا البحث طريق التمرد والانفتاح والمغامرات الفكرية المبكرة عن الحرية والإلحاد وكشف نفاق المجتمع تجاه بناته، وتقديمهن قرابين على مذبح الزواج والعادات والتقاليد، تمضي أندريه حياتها مطيعة- إلا من بعض اختراقات تقدم عليها في الخفاء- خشية الوقوع في الخطيئة وخدش فضيلتها على الرغم من القبلات القوية التي تبادلتها مع “برنار”- بحسب تعبيرها. يتخلل السرد الوصف البديع في جمل قصيرة وكلمات ثاقبة تعبر عن أعمق الأحاسيس والالتباسات والتخبط. ولا يفوت سيمون دي بوفوار الوصف البليغ مراراً لرحلاتها إلى الريف الفرنسي حيث البيت الكبير لعائلة لاكوان الغنية في بيتاري، وأيضاً إلى بيت جدها في ساديرناك. هو وصف كلاسيكي أدبي تميزت به كلاسيكيات الأدب الروائي العالمي في ذلك الحين.لم تنشر سيمون الرواية في حياتها، وتحفظ عليها صديقها ورفيق دربها جان بول سارتر، بسبب عجزها- كما يبدو- عن الإمساك فيها بشبح حبها الأول في الحياة الواقعية، فحاولت الإمساك بها على الورق. وكان هذا السبب في اعتقاد كثير من النقاد في ترددها بنشرها في حياتها إلى أن قامت ابنتها بالتبني سيلفي لوبون دي بوفوار بذلك عام 2020. فهي ظلت غير راضية عن النص، وتتملكها رغبة شديدة أن يليق بما كانت عليه أو عاشته أندريه أو بالحب الذي عرفته لأول مرة معها. عاشت أندريه “سجينة حب أمها وجدرانها الخانقة” على الرغم من كل ما توفر لها من ثقافة جمعتها من كتب أدبية لأشهر كتاب ذلك الزمن، تبادلت فيها متعة القراءة مع سيمون.وعلى الرغم من توفرها على موهبة موسيقية في العزف على البيانو والكمان اللذين كانا يمدان روح أندريه بطاقة غير محدودة في فضاء لا متناه، فهي لم تبتعد عن سطوة والدتها وتسلطها.تختفي المسافة في هذه الرواية عند سيمون دي بوفوار بين الصديقة والعشيقة في حبها لأندريه. مثلما تتضاءل بين الحب تجاه ذكر وأنثى. ربما لاقتناعها أن لدى معظم الفتيات ميولاً سحاقية تجاه من يمتلك نعومة بشرتها وتضاريس جسمها المرغوبة من الرجال. وهي ميول ليست من قبيل التفنن والتسلية- بحسب كتابات غير منشورة لسيمون. عزت تلك الميول إلى موقف غريزي تتخذه الفتيات والنساء كرد فعل على أوضاعها في المجتمع، التي تتسبب بها النظرة الذكورية للحب وما يحمله من تشييء للمرأة، بوصفها مخلوقاً أقل شأناً، وغرضاً للإمتاع سواء في العلاقة الجنسية والعاطفية أو في العلاقات الاجتماعية بشكل عام، تعكس علاقة السيد بالعبد، بل اعتبرت “الحب بين النساء نوعاً من التأمل، ينتفي فيه الانفصال، حيث لا قتال ولا هزيمة ولا نصر. كل منا ذات وموضوع، سيد وعبد في معاملة بالمثل”. وهو على الأغلب ما خلصت إليه باكراً من حبها لأندريه غير المتبادل الذي لم تكونا على الرغم من ذلك، تفترقان- بحسب العبارة التي لطالما رددتها معلماتهما وحملت عنوان هذه الرواية.مرحلة جديدةترى سيلفي لوبون دي بوفوار في مقدمة “صبيتان لا تفترقان” أن دور سيلفي/ سيمون الصديقة في هذه الرواية يقتصر على محاولة جعل أندريه مفهومة وسط هذا التخبط الذي تعيشه تحت حراسة أمها المشددة ورغباتها في الحب والتحرر من قيد التقاليد. لهذا تتوارى شخصية سيلفي/ سيمون وراء سيرة أندريه، كي تتعمق أكثر بسيرة أندريه وفهم تخبطاتها. ولذلك نرى سيلفي تمتص إهانات وإذلال مدام غالار كي تتمكن من تقليل تأثير سيلفي على ابنتها سواء في مظهرها البسيط أو ميول التمرد، فضلاً عن تعرض والدها للإفلاس والتبدل في وضع عائلتها الطبقي إلى مستوى عادي.وفيما تدخل الفتاتان معترك الحياة الجامعية تبدأ كلتاهما في مرحلة جديدة من العلاقة. تتعرف فيها أندريه إلى “باسكال” صديق سيلفي إلى أن يصبح حب حياتها. تدرس أندريه الأدب بينما تختار سيلفي الفلسفة. وهناك تتعرف سيمون إلى جان بول سارتر الذي معه يبدأ حبها لأندريه يتوارى أو يختفي، وإن بدا أنه حب لم تنسه طيلة حياتها، وترك بصماته في روحها وفكرها لا تمحى.في تلك البداية الجديدة للصديقتين ينفتح العالم مشرعاً أمام سيلفي، بينما تسير أندريه فيها صوب موتها. تعتقد سيلفي لوبون أن سيمون دي بوفوار في هذه الرواية وما قبلها تشعر بالذنب، لأن البقاء على قيد الحياة بعد موت أندريه هو بمعنى من المعاني خطيئة، لكن من المؤكد أن هاتين الصبيتين اللتين لا تفترقان، لم تفترقا أبداً. ظل شبح أندريه يرافق سيمون طوال حياتها، وهي في سعي دائم لإحيائها بالكلمات.يبقى أن الرواية التي تمنعت سيمون دي بوفوار عن نشرها في حياتها لسبعين عاماً من كتابتها وصدرت بعد 35 عاماً على موتها، لاقت إقبالاً عالمياً على ترجمتها. فمنذ صدورها بالفرنسية عام 2020، تحت عنوان “غير المنفصلتين”، أعقبها صدور ترجمتين باللغة الإنجليزية في 2021 واحدة أميركية عن دار “إكو” وأخرى في بريطانيا، ما لبثت أن تمت ترجمتها إلى اللغة البرازيلية والصينية الألمانية والإيطالية والإسبانية واليابانية، وتترجم حالياً للغة النرويجية. يعكس هذا الإقبال على ترجمتها مكانة الكاتبة نفسها، فضلاً عن كونها جزءاً من سيرة سيمون دي بوفوار الذاتية التي ظهرت في العديد من الروايات واختلطت بسير كتاب وكاتبات وأصدقاء وصديقات كان لهم/لهن الأثر البالغ في حياتها ككاتبة وإنسانة وامرأة أعطت معنى للحرية في أعمق تجلياتها. فمن يعرف زازا الفتاة التي اختتمت سيمون دي بوفوار الجزء الأول من سيرتها الذاتية بمشهد موتها المفجع على سرير عيادة في سان كلو بعد أن اختطفها التهاب غامض في دماغها، يشعر بغصة رافقت نجاحات سيمون دي بوفوار في التحرر مما لم تستطع أن تتحرر منه أندريه أو زازا أو إليزابيث، أو أياً كان اسمها في عالم ما زال يصر على تمزيق حيوات النساء بين سندان الدين والتقاليد والثقافة الذكورية ومطرقة التوق إلى الحرية.(اندبندنت عربية)
سيمون دي قوار
تروي اضطراب حبها الأول الذي لم ينته
سيمون دو بوفوار
سامية عيسىمن الصعب المفاضلة بين سيمون دي بوفوار الفيلسوفة والأديبة. فهي برعت وأبدعت في الحقلين. وإن بدت رواية “صبيتان لا تفترقان” التي صدرت ترجمتها العربية حديثاً عن دار الآداب (ترجمة محمد آيت حنا) كأنها من نوع السيرة الذاتية المزدوجة لكل من دي بوفوار وحبها الأول “إليزابيث لاكوان” المعروفة بشخصية “زازا” في روايتها “مذكرات فتاة رصينة”، وحملت اسم “أندريه” في “صبيتان لا تفترقان”. وهذه الرواية كناية عن الجزء الثاني لـ”سيرة المرأتين” لكن بأسماء مستعارة. مع ذلك، حمل هذان النصان الأدبيان فضلاً عن رواية “ماندارين” كل المقومات الأدبية لفن الرواية الكلاسيكي. منحت دي بوفوار نفسها اسم سيلفي- التي أحبت أندريه من غير أي مقابل. وعلى الرغم من الاختلاف الجوهري في شخصيتيهما، فإن شيئاً واضحاً من التخييل السردي المبني على حقائق، تم حبكه لتتمكن دي بوفوار من إزاحة اللثام عن خفايا شخصية أندريه، وتفكيك تعقيداتها وتناقضاتها التي كانت لا تزال تعيشها غالبية الفتيات الفرنسيات في بدايات القرن العشرين. عطفاً على تشابكها مع أحداث الحرب العالمية الثانية واحتلال ألمانيا النازية لأجزاء كبيرة من فرنسا. كانت في ذلك الحين لا تزال الكثير من العائلات الفرنسية متمسكة بالعادات والتقاليد وتعاليم الكنيسة الكاثوليكية وتأثيراتها القوية في حياة المجتمع الفرنسي، على الرغم من النهضة الثقافية والفكرية التي عاشتها فرنسا منذ عصر الأنوار.عادات ومواجهةأندريه طفلة التسع سنوات تلتقي سيلفي في المدرسة الابتدائية التي لا تزال تحت تأثير العادات والتقاليد والقيم الدينية للكنيسة. وبينما تعيش أندريه في كنف عائلة كاثوليكية متزمتة وشديدة الورع، وتحافظ على الواجبات الكنسية الأسبوعية من تأدية الصلاة أيام الأحد، والمناولة وطقس الاعتراف، والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يتسبب بالإغواء ويزعزع الإيمان، ويعرض فضيلة الفتيات لأي خدش. عاشت سيلفي في كنف والدين على طرفي نقيض. فوالدة سيلفي أيضاً من الملتزمات بالطقوس الدينية للمجتمع الكاثوليكي وعاداته وتقاليده، بينما والدها يعتبر فرنسا دينه ومعبوده، ويزداد هذا الوله وعدم الاكتراث للدين حين تحتل ألمانيا النازية فرنسا إبان الحرب العالمية الأولى. تتأثر سيلفي بوالدها، لكن على الرغم من ذلك يبقى لوالدتها تأثير كبير في تربيتها في فترة الطفولة والمراهقة إلى أن بدأت تتفتح في روحها براعم التمرد.هذا الاختلاف بين الوالدين، وطموحات سيلفي العلمية والفكرية وشغفها بالقراءة الذي تتشارك فيه مع أندريه، يفتحان طريق سيلفي (سيمون دي بوفوار) للسير في رحلة التحرر الذي تبدأه بالتمرد على التقاليد، غير عابئة كثيراً بها وبالالتزامات الاجتماعية والدينية التي تفرضها والدتها، ويضع القراء وجهاً لوجه أمام المعضلات الفكرية التي تفتحت في شخصيتها باكراً مذ كانت طفلة ومن ثم مراهقة، ورسمت خطاً بيانياً تصاعدياً في تمردها الذي قادها بعد سنوات من الكفاح الذاتي والاجتماعي، إلى نشر رائعتها “الجنس الآخر” أحد أهم بل وأخطر الكتب التي مهدت للحركة النسوية والنضال من أجل تحرير المرأة من كل صنوف الاستعباد في العالم كله.رواية “صبيتان لا تفترقان” هي في الأساس قصة حب سيمون دي بوفوار لإليزابيث لاكوان. حب وصل حد الهوس بأندريه. ومع أنه كان حباً من طرف واحد، لم تبح به إلا متأخرة “خشية أن يفوت الأوان”، لكنه عنى لسيلفي/ سيمون كل شيء، بل كانت غير قادرة على التنفس من دونها أو حتى العيش إن ماتت أندريه. قالت لأندريه التي تأملتها بدهشة: “لم أخبرك قط بالأمر. ولكنني منذ أول يوم عرفتك فيه، صرت بالنسبة لي كل شيء. حتى إنني قررت: إن مت، فسوف أموت فورا”. ومع أن أندريه لم تبادلها الحب لا قبل اعتراف سيلفي لها ولا بعده، فهي تقبلتها كصديقة حميمة تشاركها الهموم والمغامرات وأسرارها العاطفية، سواء مع حبها الأول، حب الطفولة “برنار”، وحبها الثاني “باسكال” (موريس ميرلوبونتي) الذي تولهت به إلى درجة أنها فقدت صحتها، وهي في خضم صراع مرير بين الخضوع لتعليمات والدتها ونظرتها للحب والحياة الزوجية، والحب الكبير الذي حملته لـ”باسكال”. وهو الذي تربى كي يصبح راهباً، عدل لاحقاً عن ذلك، وإن بقي تأثره بهذه التربية جلياً في علاقته مع أندريه، وفي تفهمه لمتطلبات مدام غالار والدة أندريه وشروطها في إبعاد ابنتها عنه إلى إنجلترا، هذا الحب الجارف اصطدم بجدار أمها وتعليماتها القاسية، وقاد أندريه إلى حتفها وهي لما تزل في الثانية والعشرين من عمرها.البحث عن الذاتتصحبنا سيمون دي بوفوار من خلال “صبيتان لا تفترقان” في رحلة البحث عن الذات. ذاتها وذات أندريه. ففيما تسلك هي في هذا البحث طريق التمرد والانفتاح والمغامرات الفكرية المبكرة عن الحرية والإلحاد وكشف نفاق المجتمع تجاه بناته، وتقديمهن قرابين على مذبح الزواج والعادات والتقاليد، تمضي أندريه حياتها مطيعة- إلا من بعض اختراقات تقدم عليها في الخفاء- خشية الوقوع في الخطيئة وخدش فضيلتها على الرغم من القبلات القوية التي تبادلتها مع “برنار”- بحسب تعبيرها. يتخلل السرد الوصف البديع في جمل قصيرة وكلمات ثاقبة تعبر عن أعمق الأحاسيس والالتباسات والتخبط. ولا يفوت سيمون دي بوفوار الوصف البليغ مراراً لرحلاتها إلى الريف الفرنسي حيث البيت الكبير لعائلة لاكوان الغنية في بيتاري، وأيضاً إلى بيت جدها في ساديرناك. هو وصف كلاسيكي أدبي تميزت به كلاسيكيات الأدب الروائي العالمي في ذلك الحين.لم تنشر سيمون الرواية في حياتها، وتحفظ عليها صديقها ورفيق دربها جان بول سارتر، بسبب عجزها- كما يبدو- عن الإمساك فيها بشبح حبها الأول في الحياة الواقعية، فحاولت الإمساك بها على الورق. وكان هذا السبب في اعتقاد كثير من النقاد في ترددها بنشرها في حياتها إلى أن قامت ابنتها بالتبني سيلفي لوبون دي بوفوار بذلك عام 2020. فهي ظلت غير راضية عن النص، وتتملكها رغبة شديدة أن يليق بما كانت عليه أو عاشته أندريه أو بالحب الذي عرفته لأول مرة معها. عاشت أندريه “سجينة حب أمها وجدرانها الخانقة” على الرغم من كل ما توفر لها من ثقافة جمعتها من كتب أدبية لأشهر كتاب ذلك الزمن، تبادلت فيها متعة القراءة مع سيمون.وعلى الرغم من توفرها على موهبة موسيقية في العزف على البيانو والكمان اللذين كانا يمدان روح أندريه بطاقة غير محدودة في فضاء لا متناه، فهي لم تبتعد عن سطوة والدتها وتسلطها.تختفي المسافة في هذه الرواية عند سيمون دي بوفوار بين الصديقة والعشيقة في حبها لأندريه. مثلما تتضاءل بين الحب تجاه ذكر وأنثى. ربما لاقتناعها أن لدى معظم الفتيات ميولاً سحاقية تجاه من يمتلك نعومة بشرتها وتضاريس جسمها المرغوبة من الرجال. وهي ميول ليست من قبيل التفنن والتسلية- بحسب كتابات غير منشورة لسيمون. عزت تلك الميول إلى موقف غريزي تتخذه الفتيات والنساء كرد فعل على أوضاعها في المجتمع، التي تتسبب بها النظرة الذكورية للحب وما يحمله من تشييء للمرأة، بوصفها مخلوقاً أقل شأناً، وغرضاً للإمتاع سواء في العلاقة الجنسية والعاطفية أو في العلاقات الاجتماعية بشكل عام، تعكس علاقة السيد بالعبد، بل اعتبرت “الحب بين النساء نوعاً من التأمل، ينتفي فيه الانفصال، حيث لا قتال ولا هزيمة ولا نصر. كل منا ذات وموضوع، سيد وعبد في معاملة بالمثل”. وهو على الأغلب ما خلصت إليه باكراً من حبها لأندريه غير المتبادل الذي لم تكونا على الرغم من ذلك، تفترقان- بحسب العبارة التي لطالما رددتها معلماتهما وحملت عنوان هذه الرواية.مرحلة جديدةترى سيلفي لوبون دي بوفوار في مقدمة “صبيتان لا تفترقان” أن دور سيلفي/ سيمون الصديقة في هذه الرواية يقتصر على محاولة جعل أندريه مفهومة وسط هذا التخبط الذي تعيشه تحت حراسة أمها المشددة ورغباتها في الحب والتحرر من قيد التقاليد. لهذا تتوارى شخصية سيلفي/ سيمون وراء سيرة أندريه، كي تتعمق أكثر بسيرة أندريه وفهم تخبطاتها. ولذلك نرى سيلفي تمتص إهانات وإذلال مدام غالار كي تتمكن من تقليل تأثير سيلفي على ابنتها سواء في مظهرها البسيط أو ميول التمرد، فضلاً عن تعرض والدها للإفلاس والتبدل في وضع عائلتها الطبقي إلى مستوى عادي.وفيما تدخل الفتاتان معترك الحياة الجامعية تبدأ كلتاهما في مرحلة جديدة من العلاقة. تتعرف فيها أندريه إلى “باسكال” صديق سيلفي إلى أن يصبح حب حياتها. تدرس أندريه الأدب بينما تختار سيلفي الفلسفة. وهناك تتعرف سيمون إلى جان بول سارتر الذي معه يبدأ حبها لأندريه يتوارى أو يختفي، وإن بدا أنه حب لم تنسه طيلة حياتها، وترك بصماته في روحها وفكرها لا تمحى.في تلك البداية الجديدة للصديقتين ينفتح العالم مشرعاً أمام سيلفي، بينما تسير أندريه فيها صوب موتها. تعتقد سيلفي لوبون أن سيمون دي بوفوار في هذه الرواية وما قبلها تشعر بالذنب، لأن البقاء على قيد الحياة بعد موت أندريه هو بمعنى من المعاني خطيئة، لكن من المؤكد أن هاتين الصبيتين اللتين لا تفترقان، لم تفترقا أبداً. ظل شبح أندريه يرافق سيمون طوال حياتها، وهي في سعي دائم لإحيائها بالكلمات.يبقى أن الرواية التي تمنعت سيمون دي بوفوار عن نشرها في حياتها لسبعين عاماً من كتابتها وصدرت بعد 35 عاماً على موتها، لاقت إقبالاً عالمياً على ترجمتها. فمنذ صدورها بالفرنسية عام 2020، تحت عنوان “غير المنفصلتين”، أعقبها صدور ترجمتين باللغة الإنجليزية في 2021 واحدة أميركية عن دار “إكو” وأخرى في بريطانيا، ما لبثت أن تمت ترجمتها إلى اللغة البرازيلية والصينية الألمانية والإيطالية والإسبانية واليابانية، وتترجم حالياً للغة النرويجية. يعكس هذا الإقبال على ترجمتها مكانة الكاتبة نفسها، فضلاً عن كونها جزءاً من سيرة سيمون دي بوفوار الذاتية التي ظهرت في العديد من الروايات واختلطت بسير كتاب وكاتبات وأصدقاء وصديقات كان لهم/لهن الأثر البالغ في حياتها ككاتبة وإنسانة وامرأة أعطت معنى للحرية في أعمق تجلياتها. فمن يعرف زازا الفتاة التي اختتمت سيمون دي بوفوار الجزء الأول من سيرتها الذاتية بمشهد موتها المفجع على سرير عيادة في سان كلو بعد أن اختطفها التهاب غامض في دماغها، يشعر بغصة رافقت نجاحات سيمون دي بوفوار في التحرر مما لم تستطع أن تتحرر منه أندريه أو زازا أو إليزابيث، أو أياً كان اسمها في عالم ما زال يصر على تمزيق حيوات النساء بين سندان الدين والتقاليد والثقافة الذكورية ومطرقة التوق إلى الحرية.(اندبندنت عربية)
سيمون دي قوار