المخرج مارتن سكورسيزي الاكثر إثارة للجدل،
حالة خاصة في السينما العالمية
نضال قوشحة
يعتبر مارتن سكورسيزي واحدا من أكبر السينمائيين الأميركيين عمرا وربما إثارة للجدل، وهو أحد السينمائيين الذين شكلوا الوجه الإيطالي في السينما الأميركية والسينمائي الذي ارتبط اسمه بمدينة نيويورك وكانت سينماه في معظمها عن العصابات والجريمة. فهو يقدم في أعماله شخوصا تحوطهم الأزمات ويتابع تطورات حياتهم بدقة وغالبا ما يكون ذلك بشكل صادم. وأخيرا صدر عنه كتاب جديد بعنوان “مارتن سكورسيزي: مأزق البطل المأزوم” للناقد السينمائي المصري أمير العمري.
في كتابه “مارتن سكورسيزي: مأزق البطل المأزوم” يتناول الناقد أمير العمري ملامح من الحياة السينمائية للمخرج الأميركي مارتن سكورسيزي الذي يعتبر اسما لافتا في تاريخ السينما.
ويحلل العمري في سبعة عشر مقالا نقديا عشرين فيلما أخرجها سكورسيزي، ومن عناوين المقالات “من ذا الذي يطرق بابي” و”تدريب على العنف” و”في الشوارع القذرة” و”من المغنية إلى سائق التاكسي” و”مأزق الثور الهائج” و”ثلاث شخصيات مأزومة” و”الأولاد الطيبون” و”العودة إلى العائلة” و”منطقة الرعب: المواجهة والانتقام والخلاص” و”الحلم الأميركي: هرم من ورق” و”عصابات نيويورك: تاريخ العنف الأميركي”.
سينما سكورسيزي
في تناول معمق للشخصية المأزومة عند سكورسيزي يتناول الناقد المصري في كتابه، الصادر عن دار رشم وبمشاركة مهرجان الأفلام السعودية، عدة أفلام وهو يكتب في تعريف الشخصية المأزومة عند سكورسيزي مبينا أن “المقصود بالشخصية المأزومة، تلك التي تعاني من عدم القدرة على الاتساق أو الاندماج مع محيطها، وقد يدفعها شعورها الحاد بالاغتراب إلى الجريمة والعنف. ومعظمها شخصيات لا تختار مصائرها تماما، بل تبدو مدفوعة بقوى قدرية تقودها نحو مصائرها”.
وهذه الشخصيات، كما يوضح الناقد، هي “شخصيات مركبة، تعبر أفضل ما يمكن عن المزاج الخاص بسكورسيزي نفسه، كإيطالي – أميركي من نيويورك، لا يكف منذ أول أفلامه عن توجيه سهام النقد للثقافة الأميركية السائدة، وللمجتمع الأميركي. إنه يكتب -على طريقته الخاصة- تاريخ أميركا الحديث كما يفهمه وكما يعرفه. ومن فيلم إلى آخر، كان يمضي ليكتشف ما خفي عنه في التكوين الأميركي، ويكتشف في الوقت ذاته إمكانيات أخرى تتيحها له لغة السينما وعناصر الأسلوب السينمائي. لهذا أصبح سكورسيزي أحد أهم السينمائيين في عصرنا”.
ويفسر العمري تاريخ هذه الشخصيات المأزومة في حيواتها قائلا “هذه الشخصيات لا تنطلق من اختيارات مسبقة، بل من أقدار وأحداث تتوالى، تجعلها تجد نفسها وقد أصبحت طرفا فاعلا فيها، أحيانا دون إرادتها أو رغبتها. إنها شخصيات كثيرا ما تبدو مدفوعة بالإغواء في تحقيق الثراء والصعود أيا كانت الوسيلة. وهي لا تستفيق سوى بعد أن تجد أن الهرم الذي صنعته من الرمال والأوهام، قد أصبح مهددا بالسقوط والانهيار”.
ويشكل وجود مارتن سكورسيزي حالة خاصة في المشهد السينمائي الهوليوودي والعالمي. فجذره الإيطالي ومنشؤه النيويوركي، ومن ثم دراسته غير العميقة لعلم اللاهوت ومقاربته لحياة رجال العصابات وقربه الشديد منهم في أيام طفولته، جعلت روحه مزيجا متضادا من الشخصيات التي لا يمكن أن تكون شخصا واحدا متسما بملامح أحادية التوجه. فشخصية سكورسيزي مركبة ومعقدة، وهو شخص كان يمكن أن يكون مجرما في عصابة ما بحكم نشأته في حي إيطاليا الصغيرة في نيويورك، وربما بالصدفة صار سينمائيا، لكنه رغم ذلك لم يبتعد عن عالم الجريمة، فأوجدها في سينماه كملمح أساسي في مسيرته السينمائية والتي عاد إليها أخيرا في فيلم الإيرلندي بعد غياب عنها لمدة ثلاثة عشر عاما.
في فيلمه الأشهر الذي نال عنه جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 1976 “سائق التاكسي” والذي قام ببطولته روبيرت دي نيرو، يقدم شخصية ترافيس، العائد من حرب فيتنام والذي يعيش حياة عزلة قاسية، ويمتلك شعورا دفينا بالغضب والرغبة في تطهير المدينة من مجتمعها القذر، فيعاني نتيجة ذلك من أزمة طاحنة في عالمه الداخلي، تجعله منحرفا في تحقيق أهدافه بحيث يتجه بفعله إلى الصغار وينجو منه الكبار.
يقول العمري في كتابه عن الشخصية المأزومة لترافيس”إن سكورسيزي يعود إلى اهتمامه الكبير بالشخصية في إطار المكان، مع الموسيقى التي تعمق لنا إحساسنا بالشخصية، أي بالبطل المأزوم الذي يندفع تدريجيا بتأثير عوامل عديدة، نحو الجنون، مع سيطرة فكرة التطهير عن طريق القتل”.
كذلك فإن الشخصية الأهم في فيلم “الإغواء الأخير للمسيح”، وهو الفيلم الذي اصطدم به مع الفاتيكان، هي شخصية مأزومة تعاني من حاجز التناقض العميق بين عالمين، الإلهي والبشري الذي يفكر فيه؛ يقول العمري في كتابه عن الفيلم وأزمة بطله “الفكرة الأساسية التي أغوت سكورسيزي في رواية نيكوس كازانتزاكيس، هي فكرة أن المسيح لم يكن كله كيانا مقدسا، أو ‘إله’، بل كان نصفه ‘بشريا’، أي أن الفيلم يقر بفكرة أنه ‘ابن الله’، لكنه يؤنسنه ويجعله إنسانا، ويجعل النصف الإنساني فيه يصارع النصف المقدس، ويقاوم فكرة المبعوث الإلهي ويتمرد عليها، ومن هنا ينشأ صراع داخلي عنيف بين الإنساني والمقدس، بل وحتى عندما يقوم المسيح بمعجزاته، مثل شفاء الأعمى، فإن الفيلم لا يقطع بوضوح ما إذا كان يمارس العلاج بالأعشاب كما كان مألوفا في عصره، أو يمارس شيئا آخر أقرب إلى ‘السحر’ أو كان يطبق المعجزة ذات الطبيعة القدسية”.
ويلفت إلى أن سكورسيزي قد صوره وهو يقف مشدوها أمام معجزاته، يشعر بالفزع. وكلما أدخل في روعه أنه “مبعوث” العناية الإلهية لهداية البشر وافتداء البشرية شعر بالفزع خشية تحمل ذلك الحمل الثقيل. ومن هنا تنشأ “أزمته”، ومن هنا نصبح، ليس أمام شخصية راضية عن نفسها وعما تفعله تماما، أي أمام كيان مقدس، إلهي، بل أمام شخصية “مأزومة” قريبة من البشر.
ويؤكد أن تقريب المسيح من البشر وتصوير الجانب “البشري” الإنساني في تكوينه لا ينفيان الجانب الآخر، بل يفسرانه بطريقة أكثر إقناعا، وأكثر قربا من العقل البشري. ولذلك ليس من الممكن اتهام سكورسيزي بهدم العقيدة المسيحية أو التشكيك في دعوة المسيح. صحيح أنه يترك المجال لخياله الخاص في المشاهد الأخيرة من الفيلم، التي يعود خلالها “المسيح” يحلم ويتغلب في حلمه على طبيعته المقدسة ويقبل العيش مثل البشر، يتزوج ويمارس الجنس وينجب الأطفال ويزرع الأرض، لكنه سيدرك فيما بعد أنه قد انحرف بفعل وسوسة الشيطان، وأن قدره هو ألا يعيش حياة عادية مثل سائر البشر على الأرض، بل أن يُصلب ويصعد إلى السماء، وبذلك يغفر للبشر خطاياهم. وهذا كله حسب الفيلم بالطبع.
يخصص الناقد أمير العمري جزءا من كتابه عن علاقة سكورسيزي بالسينما الأوروبية وأصوله الإيطالية التي يشاركه فيها عدد من مبدعي الفن السينمائي الذين صاروا أميركيين وشكلوا حضورا مميزا فيها مثل فرانسيس فورد كوبولا وروبيرت دي نيرو وريكاردو ديكابريو.
يقول العمري في مقدمة كتابه “سكورسيزي، عاشق كبير للسينما عموما، وللسينما الأوروبية بوجه خاص، ويمكن القول إنه ينتمي، قلبا وقالبا، إلى مجموعة من المخرجين الأميركيين – الإيطاليين أو ذوي الأصول الإيطالية، الذين تركوا بصمة شديدة الخصوصية على الفيلم الأميركي. ومن أكثر التقاليد التي تتبدى في أفلام سكورسيزي الارتباط بالعائلة، أو تقديس العائلة، والولاء للأقارب، والصداقة التي تجمع أبناء المجتمعات الصغيرة من ذوي الأصول الإيطالية، وحب الموسيقى واللهو، والاهتمام الكبير بالطعام وطهي الأطعمة الإيطالية الشهيرة وشرب النبيذ، والاهتمام بتصوير كيف أصبح ‘البادرون’ (أو كبير الجماعة أو ‘الأب الروحي – العراب’) بديلا عن سلطة الدولة، أي كيف أصبح هو الملجأ، مصدر الحماية والأمان، فهو مصدر ثقة أبناء الجالية أكثر من مؤسسات الدولة المتعددة الأصول.
وليس المقصود من شخصية ‘البادرون’ التي تظهر في الكثير من الأفلام زعماء المافيا فقط؛ هذه الشخصيات موجودة بالطبع، وبكثرة في أفلام سكورسيزي وكوبولا ودو بالما وشيمينو، ولكن المقصود شخصية ‘الرجل الكبير’ عموما، الذي يمنح الحماية، ويصبح هو الملجأ والملاذ. وقد برز هذا الدور أساسا كرد فعل على عنصرية التجمعات المهاجرة الأخرى إزاء الإيطاليين. وكان ‘البادرون’ قد أصبح دورا نمطيا في أفلام هوليوود قبل أن يصبح ‘أيقونة’ على أيدي الجيل الجديد من المخرجين -من أصل إيطالي- الذين ظهروا في الستينات والسبعينات، سواء كان هذا ‘الرجل الكبير’ شريرا أو رومانسيا أو مزيجا من الاثنين، كما أنه يبدو مدفوعا إلى الشر بحكم أشياء كثيرة أكبر منه، قوة قدرية”.
ذهنية سينمائية خاصة
◙ الذهاب إلى أعماق الشخصياتفي عام 1977 قدم سكورسيزي فيلم “نيويورك نيويورك”، وفشل الفيلم نقديا وجماهيريا وشكل عنده أزمة إبداعية كبرى، ورافقت ذلك مشاكل زوجية حاصرته وانتهت بالطلاق، الأمر الذي خلق فيه شخصا مأزوما، مثل الشخصيات التي يقدمها في سينماه، وما ضاعف خطر هذه المرحلة عنده تعرضه لعارض صحي بسبب تعاطي كمية كبيرة من المخدر كادت تودي بحياته ودخل بسببها إلى المستشفى، وعندما تم عرض فكرة إنجاز فيلم عن الملاكم جاك لاموتا الذي كان شخصية مأزومة يطمح إلى التطهير وافق على الفكرة وقدم الفيلم عام 1980 وحقق به نجاحا عالميا باهرا.
يكتب أمير العمري عن هذه التجربة في مقال بعنوان “مأزق الثور الهائج” أن “مفتاح شخصية جاك لاموتا -بطل الفيلم- يكمن تحديدا في فكرة “تدمير الذات” والعداء للمحيط الاجتماعي، والرغبة المستعرة في الصعود اعتمادا على قوته الذاتية، ورفض أي مساعدة من الآخرين، مع نزعة تمرد عنيفة، وعدم القدرة على تقدير عواقب اختياراته. وكان أهم ما توصل إليه المخرج والممثل (سكورسيزي ودي نيرو)، أنهما قررا عدم البدء من بداية رحلة صعود البطل المأزوم، بل من منتصف القصة، عندما كان جاك لاموتا قد بدأ يحقق انتصاراته في عام 1941″.
واختار سكورسيزي أن يصور الفيلم بالأبيض والأسود، أولا لكي يصبغ الفيلم بطابع الفترة، خصوصا مشاهد تصوير مباريات الملاكمة، وسماع صوت المعلق الرياضي الذي كان ينقل تلك المباريات عبر الراديو، وثانيا كنوع من المشاركة في حملة الاحتجاج التي ضمت عددا من السينمائيين في تلك الفترة، ضد بدعة “تلوين” الأفلام القديمة في هوليوود. ولأن فيلم “روكي” كان تقليديا في تصوير مشاهد القتال داخل الحلبة فقد اختار سكورسيزي أن يصور تلك المشاهد من داخل الحلبة، ومن وجهة نظر الملاكمين أنفسهم، وهو ما منحها طابعا جديدا، أكثر عنفا وصدمة، وكثيرا ما بدت مثل هذه المشاهد من وجهة نظر لاموتا، كما لو كانت تعكس رغبته في تدمير الذات أو معاقبة نفسه.
ولا يرضى سكورسيزي بسينما بسيطة تقدم جرعة ترفيهية أو تقدس أبطالا خارقين كالذي تقدمه بعض الإنتاجات السينمائية في هوليوود. ويرى في السينما بعدا أعمق تقدم من خلاله تجارب إنسانية حية ومفيدة، وهو يجاهر برأيه تجاه هذه السينما إذ سبق أن قال “إن الأفلام التي تتناول قصص أبطال خارقين، مثل التي تنتجها أستوديوهات مارفل، ليست سينما أنا لا أشاهدها، حاولت ذلك لكنني وجدت أنها ليست أفلاما سينمائية. أراها، بغض النظر عن الجهد المبذول فيها، أقرب إلى الترفيه؛ هي ليست السينما التي يحاول من خلالها أشخاص نقل تجارب نفسية وعاطفية إلى أشخاص آخرين”.
سكورسيزي وبحكم موقعه الفكري يمثل تيارا سينمائيا تشكل في ما يمكن تسميته السينما المستقلة الأميركية التي تأثرت بالأحداث السياسية الأميركية في حقبة الستينات وما بعدها والموجة الفرنسية الجديدة، فوجدت أسماء هامة فيها مثل جون كازافيتس بفيلمه “امرأة تحت التأثير” الذي يعتبره البعض بداية حقيقية لهذه الموجة وظهر فيها كوبولا وستانلي كوبريك وسكورسيزي.
وتمثُّلًا لهذه الذهنية التي تعارض السياسة الأميركية قام سكورسيزي عام 1970 بمونتاج مواد سينمائية صورها طلاب جامعة نيويورك السينمائيون وأعد منها فيلم “مشاهد من الشارع” الذي رصد حراك الناس في مظاهرات اندلعت في أميركا؛ حيث نشبت صدامات مع السلطات بسبب معارضة الحرب في فيتنام.
وسكورسيزي يتبوأ مكانة مرموقة في تاريخ السينما الأميركية، ويتضمن سجله المهني إنجازات هامة، منها ترشحه للأوسكار أربع عشرة مرة وفاز بها مرة واحدة عام 2007 عن فيلم “الراحلون”، كما نال جوائز عالمية في البافتا والغولدن غلوب، وكانت أهم جائزة له السعفة الذهبية في كان عام 1976 عن فيلم “سائق التاكسي”.
حالة خاصة في السينما العالمية
نضال قوشحة
يعتبر مارتن سكورسيزي واحدا من أكبر السينمائيين الأميركيين عمرا وربما إثارة للجدل، وهو أحد السينمائيين الذين شكلوا الوجه الإيطالي في السينما الأميركية والسينمائي الذي ارتبط اسمه بمدينة نيويورك وكانت سينماه في معظمها عن العصابات والجريمة. فهو يقدم في أعماله شخوصا تحوطهم الأزمات ويتابع تطورات حياتهم بدقة وغالبا ما يكون ذلك بشكل صادم. وأخيرا صدر عنه كتاب جديد بعنوان “مارتن سكورسيزي: مأزق البطل المأزوم” للناقد السينمائي المصري أمير العمري.
في كتابه “مارتن سكورسيزي: مأزق البطل المأزوم” يتناول الناقد أمير العمري ملامح من الحياة السينمائية للمخرج الأميركي مارتن سكورسيزي الذي يعتبر اسما لافتا في تاريخ السينما.
ويحلل العمري في سبعة عشر مقالا نقديا عشرين فيلما أخرجها سكورسيزي، ومن عناوين المقالات “من ذا الذي يطرق بابي” و”تدريب على العنف” و”في الشوارع القذرة” و”من المغنية إلى سائق التاكسي” و”مأزق الثور الهائج” و”ثلاث شخصيات مأزومة” و”الأولاد الطيبون” و”العودة إلى العائلة” و”منطقة الرعب: المواجهة والانتقام والخلاص” و”الحلم الأميركي: هرم من ورق” و”عصابات نيويورك: تاريخ العنف الأميركي”.
سينما سكورسيزي
في تناول معمق للشخصية المأزومة عند سكورسيزي يتناول الناقد المصري في كتابه، الصادر عن دار رشم وبمشاركة مهرجان الأفلام السعودية، عدة أفلام وهو يكتب في تعريف الشخصية المأزومة عند سكورسيزي مبينا أن “المقصود بالشخصية المأزومة، تلك التي تعاني من عدم القدرة على الاتساق أو الاندماج مع محيطها، وقد يدفعها شعورها الحاد بالاغتراب إلى الجريمة والعنف. ومعظمها شخصيات لا تختار مصائرها تماما، بل تبدو مدفوعة بقوى قدرية تقودها نحو مصائرها”.
◙ سكورسيزي لا يرضى بسينما بسيطة تقدم جرعة ترفيهية أو تقدس أبطالا خارقين كالذي تقدمه بعض الإنتاجات السينمائية
وهذه الشخصيات، كما يوضح الناقد، هي “شخصيات مركبة، تعبر أفضل ما يمكن عن المزاج الخاص بسكورسيزي نفسه، كإيطالي – أميركي من نيويورك، لا يكف منذ أول أفلامه عن توجيه سهام النقد للثقافة الأميركية السائدة، وللمجتمع الأميركي. إنه يكتب -على طريقته الخاصة- تاريخ أميركا الحديث كما يفهمه وكما يعرفه. ومن فيلم إلى آخر، كان يمضي ليكتشف ما خفي عنه في التكوين الأميركي، ويكتشف في الوقت ذاته إمكانيات أخرى تتيحها له لغة السينما وعناصر الأسلوب السينمائي. لهذا أصبح سكورسيزي أحد أهم السينمائيين في عصرنا”.
ويفسر العمري تاريخ هذه الشخصيات المأزومة في حيواتها قائلا “هذه الشخصيات لا تنطلق من اختيارات مسبقة، بل من أقدار وأحداث تتوالى، تجعلها تجد نفسها وقد أصبحت طرفا فاعلا فيها، أحيانا دون إرادتها أو رغبتها. إنها شخصيات كثيرا ما تبدو مدفوعة بالإغواء في تحقيق الثراء والصعود أيا كانت الوسيلة. وهي لا تستفيق سوى بعد أن تجد أن الهرم الذي صنعته من الرمال والأوهام، قد أصبح مهددا بالسقوط والانهيار”.
ويشكل وجود مارتن سكورسيزي حالة خاصة في المشهد السينمائي الهوليوودي والعالمي. فجذره الإيطالي ومنشؤه النيويوركي، ومن ثم دراسته غير العميقة لعلم اللاهوت ومقاربته لحياة رجال العصابات وقربه الشديد منهم في أيام طفولته، جعلت روحه مزيجا متضادا من الشخصيات التي لا يمكن أن تكون شخصا واحدا متسما بملامح أحادية التوجه. فشخصية سكورسيزي مركبة ومعقدة، وهو شخص كان يمكن أن يكون مجرما في عصابة ما بحكم نشأته في حي إيطاليا الصغيرة في نيويورك، وربما بالصدفة صار سينمائيا، لكنه رغم ذلك لم يبتعد عن عالم الجريمة، فأوجدها في سينماه كملمح أساسي في مسيرته السينمائية والتي عاد إليها أخيرا في فيلم الإيرلندي بعد غياب عنها لمدة ثلاثة عشر عاما.
في فيلمه الأشهر الذي نال عنه جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 1976 “سائق التاكسي” والذي قام ببطولته روبيرت دي نيرو، يقدم شخصية ترافيس، العائد من حرب فيتنام والذي يعيش حياة عزلة قاسية، ويمتلك شعورا دفينا بالغضب والرغبة في تطهير المدينة من مجتمعها القذر، فيعاني نتيجة ذلك من أزمة طاحنة في عالمه الداخلي، تجعله منحرفا في تحقيق أهدافه بحيث يتجه بفعله إلى الصغار وينجو منه الكبار.
يقول العمري في كتابه عن الشخصية المأزومة لترافيس”إن سكورسيزي يعود إلى اهتمامه الكبير بالشخصية في إطار المكان، مع الموسيقى التي تعمق لنا إحساسنا بالشخصية، أي بالبطل المأزوم الذي يندفع تدريجيا بتأثير عوامل عديدة، نحو الجنون، مع سيطرة فكرة التطهير عن طريق القتل”.
كذلك فإن الشخصية الأهم في فيلم “الإغواء الأخير للمسيح”، وهو الفيلم الذي اصطدم به مع الفاتيكان، هي شخصية مأزومة تعاني من حاجز التناقض العميق بين عالمين، الإلهي والبشري الذي يفكر فيه؛ يقول العمري في كتابه عن الفيلم وأزمة بطله “الفكرة الأساسية التي أغوت سكورسيزي في رواية نيكوس كازانتزاكيس، هي فكرة أن المسيح لم يكن كله كيانا مقدسا، أو ‘إله’، بل كان نصفه ‘بشريا’، أي أن الفيلم يقر بفكرة أنه ‘ابن الله’، لكنه يؤنسنه ويجعله إنسانا، ويجعل النصف الإنساني فيه يصارع النصف المقدس، ويقاوم فكرة المبعوث الإلهي ويتمرد عليها، ومن هنا ينشأ صراع داخلي عنيف بين الإنساني والمقدس، بل وحتى عندما يقوم المسيح بمعجزاته، مثل شفاء الأعمى، فإن الفيلم لا يقطع بوضوح ما إذا كان يمارس العلاج بالأعشاب كما كان مألوفا في عصره، أو يمارس شيئا آخر أقرب إلى ‘السحر’ أو كان يطبق المعجزة ذات الطبيعة القدسية”.
ويلفت إلى أن سكورسيزي قد صوره وهو يقف مشدوها أمام معجزاته، يشعر بالفزع. وكلما أدخل في روعه أنه “مبعوث” العناية الإلهية لهداية البشر وافتداء البشرية شعر بالفزع خشية تحمل ذلك الحمل الثقيل. ومن هنا تنشأ “أزمته”، ومن هنا نصبح، ليس أمام شخصية راضية عن نفسها وعما تفعله تماما، أي أمام كيان مقدس، إلهي، بل أمام شخصية “مأزومة” قريبة من البشر.
ويؤكد أن تقريب المسيح من البشر وتصوير الجانب “البشري” الإنساني في تكوينه لا ينفيان الجانب الآخر، بل يفسرانه بطريقة أكثر إقناعا، وأكثر قربا من العقل البشري. ولذلك ليس من الممكن اتهام سكورسيزي بهدم العقيدة المسيحية أو التشكيك في دعوة المسيح. صحيح أنه يترك المجال لخياله الخاص في المشاهد الأخيرة من الفيلم، التي يعود خلالها “المسيح” يحلم ويتغلب في حلمه على طبيعته المقدسة ويقبل العيش مثل البشر، يتزوج ويمارس الجنس وينجب الأطفال ويزرع الأرض، لكنه سيدرك فيما بعد أنه قد انحرف بفعل وسوسة الشيطان، وأن قدره هو ألا يعيش حياة عادية مثل سائر البشر على الأرض، بل أن يُصلب ويصعد إلى السماء، وبذلك يغفر للبشر خطاياهم. وهذا كله حسب الفيلم بالطبع.
يخصص الناقد أمير العمري جزءا من كتابه عن علاقة سكورسيزي بالسينما الأوروبية وأصوله الإيطالية التي يشاركه فيها عدد من مبدعي الفن السينمائي الذين صاروا أميركيين وشكلوا حضورا مميزا فيها مثل فرانسيس فورد كوبولا وروبيرت دي نيرو وريكاردو ديكابريو.
يقول العمري في مقدمة كتابه “سكورسيزي، عاشق كبير للسينما عموما، وللسينما الأوروبية بوجه خاص، ويمكن القول إنه ينتمي، قلبا وقالبا، إلى مجموعة من المخرجين الأميركيين – الإيطاليين أو ذوي الأصول الإيطالية، الذين تركوا بصمة شديدة الخصوصية على الفيلم الأميركي. ومن أكثر التقاليد التي تتبدى في أفلام سكورسيزي الارتباط بالعائلة، أو تقديس العائلة، والولاء للأقارب، والصداقة التي تجمع أبناء المجتمعات الصغيرة من ذوي الأصول الإيطالية، وحب الموسيقى واللهو، والاهتمام الكبير بالطعام وطهي الأطعمة الإيطالية الشهيرة وشرب النبيذ، والاهتمام بتصوير كيف أصبح ‘البادرون’ (أو كبير الجماعة أو ‘الأب الروحي – العراب’) بديلا عن سلطة الدولة، أي كيف أصبح هو الملجأ، مصدر الحماية والأمان، فهو مصدر ثقة أبناء الجالية أكثر من مؤسسات الدولة المتعددة الأصول.
وليس المقصود من شخصية ‘البادرون’ التي تظهر في الكثير من الأفلام زعماء المافيا فقط؛ هذه الشخصيات موجودة بالطبع، وبكثرة في أفلام سكورسيزي وكوبولا ودو بالما وشيمينو، ولكن المقصود شخصية ‘الرجل الكبير’ عموما، الذي يمنح الحماية، ويصبح هو الملجأ والملاذ. وقد برز هذا الدور أساسا كرد فعل على عنصرية التجمعات المهاجرة الأخرى إزاء الإيطاليين. وكان ‘البادرون’ قد أصبح دورا نمطيا في أفلام هوليوود قبل أن يصبح ‘أيقونة’ على أيدي الجيل الجديد من المخرجين -من أصل إيطالي- الذين ظهروا في الستينات والسبعينات، سواء كان هذا ‘الرجل الكبير’ شريرا أو رومانسيا أو مزيجا من الاثنين، كما أنه يبدو مدفوعا إلى الشر بحكم أشياء كثيرة أكبر منه، قوة قدرية”.
ذهنية سينمائية خاصة
◙ الذهاب إلى أعماق الشخصياتفي عام 1977 قدم سكورسيزي فيلم “نيويورك نيويورك”، وفشل الفيلم نقديا وجماهيريا وشكل عنده أزمة إبداعية كبرى، ورافقت ذلك مشاكل زوجية حاصرته وانتهت بالطلاق، الأمر الذي خلق فيه شخصا مأزوما، مثل الشخصيات التي يقدمها في سينماه، وما ضاعف خطر هذه المرحلة عنده تعرضه لعارض صحي بسبب تعاطي كمية كبيرة من المخدر كادت تودي بحياته ودخل بسببها إلى المستشفى، وعندما تم عرض فكرة إنجاز فيلم عن الملاكم جاك لاموتا الذي كان شخصية مأزومة يطمح إلى التطهير وافق على الفكرة وقدم الفيلم عام 1980 وحقق به نجاحا عالميا باهرا.
يكتب أمير العمري عن هذه التجربة في مقال بعنوان “مأزق الثور الهائج” أن “مفتاح شخصية جاك لاموتا -بطل الفيلم- يكمن تحديدا في فكرة “تدمير الذات” والعداء للمحيط الاجتماعي، والرغبة المستعرة في الصعود اعتمادا على قوته الذاتية، ورفض أي مساعدة من الآخرين، مع نزعة تمرد عنيفة، وعدم القدرة على تقدير عواقب اختياراته. وكان أهم ما توصل إليه المخرج والممثل (سكورسيزي ودي نيرو)، أنهما قررا عدم البدء من بداية رحلة صعود البطل المأزوم، بل من منتصف القصة، عندما كان جاك لاموتا قد بدأ يحقق انتصاراته في عام 1941″.
واختار سكورسيزي أن يصور الفيلم بالأبيض والأسود، أولا لكي يصبغ الفيلم بطابع الفترة، خصوصا مشاهد تصوير مباريات الملاكمة، وسماع صوت المعلق الرياضي الذي كان ينقل تلك المباريات عبر الراديو، وثانيا كنوع من المشاركة في حملة الاحتجاج التي ضمت عددا من السينمائيين في تلك الفترة، ضد بدعة “تلوين” الأفلام القديمة في هوليوود. ولأن فيلم “روكي” كان تقليديا في تصوير مشاهد القتال داخل الحلبة فقد اختار سكورسيزي أن يصور تلك المشاهد من داخل الحلبة، ومن وجهة نظر الملاكمين أنفسهم، وهو ما منحها طابعا جديدا، أكثر عنفا وصدمة، وكثيرا ما بدت مثل هذه المشاهد من وجهة نظر لاموتا، كما لو كانت تعكس رغبته في تدمير الذات أو معاقبة نفسه.
سكورسيزي ينتمي إلى مجموعة من المخرجين ذوي الأصول الإيطالية، الذين تركوا بصمة شديدة الخصوصية على الفيلم الأميركي
ولا يرضى سكورسيزي بسينما بسيطة تقدم جرعة ترفيهية أو تقدس أبطالا خارقين كالذي تقدمه بعض الإنتاجات السينمائية في هوليوود. ويرى في السينما بعدا أعمق تقدم من خلاله تجارب إنسانية حية ومفيدة، وهو يجاهر برأيه تجاه هذه السينما إذ سبق أن قال “إن الأفلام التي تتناول قصص أبطال خارقين، مثل التي تنتجها أستوديوهات مارفل، ليست سينما أنا لا أشاهدها، حاولت ذلك لكنني وجدت أنها ليست أفلاما سينمائية. أراها، بغض النظر عن الجهد المبذول فيها، أقرب إلى الترفيه؛ هي ليست السينما التي يحاول من خلالها أشخاص نقل تجارب نفسية وعاطفية إلى أشخاص آخرين”.
سكورسيزي وبحكم موقعه الفكري يمثل تيارا سينمائيا تشكل في ما يمكن تسميته السينما المستقلة الأميركية التي تأثرت بالأحداث السياسية الأميركية في حقبة الستينات وما بعدها والموجة الفرنسية الجديدة، فوجدت أسماء هامة فيها مثل جون كازافيتس بفيلمه “امرأة تحت التأثير” الذي يعتبره البعض بداية حقيقية لهذه الموجة وظهر فيها كوبولا وستانلي كوبريك وسكورسيزي.
وتمثُّلًا لهذه الذهنية التي تعارض السياسة الأميركية قام سكورسيزي عام 1970 بمونتاج مواد سينمائية صورها طلاب جامعة نيويورك السينمائيون وأعد منها فيلم “مشاهد من الشارع” الذي رصد حراك الناس في مظاهرات اندلعت في أميركا؛ حيث نشبت صدامات مع السلطات بسبب معارضة الحرب في فيتنام.
وسكورسيزي يتبوأ مكانة مرموقة في تاريخ السينما الأميركية، ويتضمن سجله المهني إنجازات هامة، منها ترشحه للأوسكار أربع عشرة مرة وفاز بها مرة واحدة عام 2007 عن فيلم “الراحلون”، كما نال جوائز عالمية في البافتا والغولدن غلوب، وكانت أهم جائزة له السعفة الذهبية في كان عام 1976 عن فيلم “سائق التاكسي”.