الحضارة تفرض على الإنسان أنماطاً من القهر لإخضاع غرائزه
حسام الدين محم
التحضر ضد طبيعة الإنسان
ينتمي المفكر هربرت ماركيوز إلى الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت النقدية، حيث أنتج أفكارا نقدية بالغة الأهمية سعى من خلالها إلى كشف ممارسات ومفرزات العقلانية التقنية (نوع من التفكير في المجتمع الصناعي الحديث ويصفه ماركيوز بالتفكير ذي البعد الواحد، يتضح ذلك من خلال التفكير العلمي والتقني المعبّر عنه في الوضعية والبراغماتية أن العقل الأداتي هو منطق في التفكير وأسلوب في رؤية العالم) في المجتمع الصناعي المتقدم وانعكاساتها السلبية على الإنسان داخل ذلك المجتمع من خلال كتابه الشهير “الإنسان ذو البعد الواحد” الذي نقد فيه العقل الأداتي وما آلت إليه الحداثة الغربية الرأسمالية أو الاشتراكية عبر التطورات الاقتصادية والتكنولوجية التي شيّأت كل شيء حتى الإنسان، لذلك يعتبر مفهوم الإنسان ذو البعد الواحد من أهم المفاهيم التي حللها وناقشها ماركيوز وتعني “الإنسان البسيط غير المركّب”.
فالإنسان ذو البعـد الواحد هو نتاج المجتمع الحديث، وهو نفسه مجتمع ذو بعد واحد يسيطر عليه العقل الأداتي والعقلانية التكنولوجية والواحدية المادية، وشعاره بسيط هو التقدم العلمي والصناعي والمادي وتعظيم الإنتاجية المادية وتحقيق معدلات متزايدة من الوفرة والرفاهية والاستهلاك، بحيث تهيمن على هذا المجتمع الفلسفة الوضعية التي تطبق معايير العلوم الطبيعية على الإنسان، وتدرك الواقع من خلال نماذج “كمية – رياضية” وتظهر فيه مؤسسات إدارية ضخمة تغزو الفرد وتحتويه وترشّده وتنميطه وتشيئه وتوظفه لتحقيق الأهداف التي حددتها (حسام الدين فياض: المرجع نفسه، ص ص 122 – 123).
اعتمد ماركيوز على المنهج النقدي في نقده للمجتمع الصناعي المتقدم، ففي كـتابه “إيروس الحضارة” سعى ماركيوز من خلال هذا النتاج الفكري الهام إلى إعادة قراءة النصوص الفرويدية على ضوء تحوّلات المجتمع الصناعي، متسائلاً عن دلالات الرغبة والتصعيد اللاشعوري، وموقع الجنس في آليات الإغراء الحديثة وعلاقتها بالعملية الإنتاجية وعن المعاني الجديدة التي يتخذها الحب ضمن العلاقات الاجتماعية بالمجتمع الصناعي المتقدم (أبو النور حمدي أبوالنور حسن: يورجين هابرماس “الأخلاق والتواصل”، دار التنوير، بيروت، 2009، ص 59).
في حقيقة الأمر، اهتم ماركيوز بفكر فرويد كفيلسوف خاصةً بكتاباته التي أخذت الطابع الحضاري والفلسفي، حيث لم يبد ماركيوز أيّ اهتمام بكتابات فرويد التي تدور حول أساليب التحليل أو العلاج النفسي. ويمكن اعتبار هذا الاهتمام من قبل ماركيوز منطلقاً هاماً لتفسير الأسباب التي أدّت إلى قمع الإنسان المعاصر وفقدانه لحريته في مجتمعه، بعد أن أخفقت الماركسية في تقديم تفسير يتجاوز الوضع الراهن في المجتمع الصناعي المعاصر (Viencent Geoghegan: Reason and Eros. The Social Theory of Herbert Marcuse, Pluto Press, London, 1981, pp: 43-44 ).
يتفق ماركيوز مع فرويد على أن تاريخ الإنسان، هو تاريخ قمعه. ذلك أن الحضارة لا تفرض أشكال القسر على وجوده الاجتماعي فحسب، ولكن على وجوده البيولوجي أيضاً. فهي لا تحدّ من بعض أجزائه في الوجود الإنساني فقط، ولكنها تحدّ من بنيته الغريزية ذاتها. ومع ذلك فإن مثل هذا القسر هو وحده شرط التقدم الأولي (هربرت ماركيوز: الحب والحضارة، ترجمة: مطاع صفدي، دار الآداب، بيروت، ط2، 2007، ص19).
كما يذهب ماركيوز إلى أن فرويد عرض فكرة الإيروس (هو إله الحب في الأساطير اليونانية. وقد استعمل فرويد هذا اللفظ بمعنى “غريزة الحب”، وهي تتضمن مجموعتين من الغرائز. الأولى: هي الغرائز الجنسية التي تتطلب اللذة الجنسية (الليبيدو). والمجموعة الثانية: هي غرائز الأنا وهي التي تشرف على حفظ الذات، وتستعمل كلمة “إيروس” أحياناً بمعنى الغريزة الجنسية أو الطاقة الجنسية)- بوصفها الطاقة التي تكمن في أصل كل حضارة، حيث يرى أن الحضارة قائمة على إخضاع الغرائز الإنسانية للكبت، مما يؤدي إلى أن ارتواء الحاجات الغريزية عند الإنسان لا يتوافق مع المجتمع المتحضر. فالتنازل القسري، وتحصيل الارتواء، يؤلفان شرطيّ التقدم. ويقول فرويد في هذا الصدد “إن السعادة ليست قيمة حضارية”. إذ أن السعادة ينبغي أن ترتبط بنظام العمل من حيث هو انشغال مستمر، كما أنها ترتبط بنظام التناسل في ظل الزواج الأحادي (أي الزواج من امرأة واحدة فقط)، والقوانين ذات الطابع الاجتماعي، فالتضحية المنظمة بمبدأ الليبيدو، وتحويله قصراً إلى نشاطات وتظاهرات مفيدة اجتماعياً، إنما هو الحضارة (هربرت ماركيوز: الحب والحضارة، المرجع نفسه، ص 13).
بهذا المعنى، تفرض الحضارة على الإنسان أنماطاً من القهر، وأنواعاً من التحريمات. أي أن التحضر هو في أساسه تغيير لطبيعة الإنسان التي خلقت على الفطرة، عن طريق تنحيت مبدأ اللذة المباشرة في سبيل الخضوع للأمر الواقع، بمعنى أنه كلما ازدادت الحضارة نمواً انتصر مبدأ الواقع على مبدأ اللذة، وازداد التحكم في الغرائز الطبيعية عن طريق النظم والقوانين التي تفرضها الحضارة المتقدمة، مع الإشارة إلى أن مبدأ اللذة لا يختفي تماماً، وإنما يظل يعبر عن نفسه بواسطة صور غير مباشرة يحاول عبرها التخلص من سيطرة مبدأ الواقع عن طريق الأحلام والإبداع الفني والخيال، وبذلك تصبح تلك الصور عبارة عن متنفس ليعبّر المكبوت عن نفسه. فيصبح الكبت الثمن الذي يدفعه الإنسان لقاء تقدمه الحضاري (فؤاد زكريا: هربرت ماركيوز، دار الفكر المعاصر، القاهرة، ط1، 1978، ص ص 69 – 70).
كما يُفرض على الإنسان في ظل هذه الحضارة العمل لكي ينتج، بدلاً من أن يستجيب لدوافعه الطبيعية (الغريزية) وعلى وجه التحديد الجنسية. مادامت الموارد لا تكفي لجعل أفراد المجتمع بلا عمل، فالإيروس إذا ترك دون رقابة يمنع الإنسان من العمل، ويحرم المجتمع من وسائل العيش، من هنا كان لا بد من طرحه جانباً والتركيز على العمل والإنتاج، لأن الإيروس عاجز وبكل بساطة حسب تعبير فرويد عن إقامة الحضارة، لذلك كان من واجب إنكاره إذا أراد المجتمع أن يقيم لنفسه حضارة مرتكزة على الجهد والعمل. وفي هذا الجانب يفسر ماركيوز فكرة فرويد “على أن الحضارة هي قبل كل شيء تقدّم فيما يتعلق بالعمل، وبصورة أدق هي العمل لتحصيل خيرات الاستهلاك وزيادتها. وإن العمل لا يحتوى طبيعياً على أيّ ارتواء في ذاته. وهو برأي فرويد عمل دون لذة” (هربرت ماركيوز: الحب والحضارة، ص ص 93 – 94). وبذلك ينظر إلى العمل، ليس على اعتباره صفة ليبيدية (نسبةً إلى الليبيدو) بل على اعتباره جهدا، والجهد يعني دائماً انعدام اللذة، وإن حالة انعدام اللذة ينبغي أن تفرض على الإنسان. بمعنى أنه إذا كانت الحضارة هي من عمل إيروس بصورة رئيسية، فإنها قبل كل شيء هي بتر لليبيدو، لأن الحضارة تكتسب جانباً كبيراً من الطاقة النفسية توجهه إلى أهداف حضارية لتبعده بعيداً عن الحياة الجنسية (هربرت ماركيوز: الحب والحضارة، المرجع نفسه، ص95 ). لذا نجد أن الحضارة بكل إمكاناتها تسعى إلى تحويل الغرائز عن أهدافها المؤدية لبلوغ اللذة، عن طريق إحباطها بالنسبة لتحقيق هذه الأهداف، فمن الطبيعي أن تبدأ الحضارة بالتطور والارتقاء عند ما يصبح الهدف الأولي (وهو الارتواء الكامل للحاجات) لاغياً فعلاً (هربرت ماركيوز: الحب والحضارة، المرجع نفسه، ص 19).
ماركيوز يرفض أن يكون خضوع مبدأ اللذة لمبدأ الواقع أبدياً، مثلما ذهب إلى ذلك فرويد، حيث يرى ماركيوز أنه من الممكن إنتاج مبدأ جديد للواقع لا يكون قمعياً يتحرر فيه مبدأ اللذة
وتصبح التقلبات المصيرية للغرائز هي تقلبات الجهاز العقلي للحضارة، فالدوافع الحيوانية تصبح غرائز إنسانية بتأثير الواقع الخارجي. ويمكن لنا أن نرصد تبدل نظام القيم تبعاً لتطور الحضارة كالآتي:
آلية تبدل نظــام القيــم في المجتمعات الغربية
وضع القيم قبل المجتمع الصناعي
وضع القيم بعد المجتمع الصناعي
الارتواء المباشر
الارتواء المؤجل
اللذة
تقييد اللذة
السرور (اللعب)
التعب (العمل)
الانفعالية
الإنتاجية
غياب الكبت
الأمن
ويوضح لنا الجدول السابق كيف حدّد فرويد هذا التبدل باعتباره تغييرا في مبدأ اللذة إلى مبدأ الواقع. وإن التعبير عن هذا الجهاز العقلي من خلال حدود هذين المبدأين هو أمر أساسي في نظرية فرويد (هربرت ماركيوز: الحب والحضارة، المرجع نفسه، ص ص 20 – 21). ويري فرويد في هذا الجانب أن إبدال مبدأ اللذة بمبدأ الواقع هو أكبر حدث صادم في تطور الإنسانية على الإطلاق، حيث أخذت عملية التحول والسيطرة في المجتمع المعاصر شكل المؤسسات الاجتماعية والسياسية، لأن مبدأ الواقع اليوم يتحقق من خلال نظام من المؤسسات، فيتعلم الفرد من خلال التنشئة الاجتماعية في ظل هذا النظام ضرورات الخضوع لمبدأ الواقع، كما لو كانت ضرورات القانون أو النظام، فينقلها بدوره إلى الأجيال القادمة (هربرت ماركيوز: الحب والحضارة، المرجع نفسه، ص ص 23 – 24).
يتفق ماركيوز مع فرويد فيما تقدم حول قمعية الحضارة الراهنة ويوصّف المجتمع الصناعي الذي عاصره على الأساس الذي انطلق منه فرويد. ويرى ماركيوز أن الجنس ينحطّ ويبتذل على أوسع النطاق، ولكن في إطار من القمع الشديد، دون أن يصاحبه إشباع حقيقي أو متعة حقيقية، أنه أبعد ما يكون عن طبيعته الأصلية التلقائية. فكلّ شيء فيه مخطط ومدروس، يستهدف إغراق الإنسان المعاصر بالصّور والتعبيرات والإيماءات الجنسية التي تحفل بها الصحف وأفلام السينما، ولكن دون إشباع حقيقي ولو شئنا الدقة لقلنا إن ما يقدم إلى الإنسان المعاصر، ليس هو الجنس ذاته، بل بديل عنه، إنه خيالات وأوهام تحل محله وتزيد من طابع القمع المسيطر على نظرة المجتمع إلى الجنس، هذا النفاق ذو الوجه المزدوج، الذي لا يمكن أن يعدّ حرماناً، ولا إشباعاً لا بد أن ينتهي، لكي يحل محله انطلاق وتحرر لقوى الإنسان الغريزية، وعلى رأسها الجنس، وذلك من خلال حضارة الإيروس التي ينتهي بها القمع (فؤاد زكريا: هربرت ماركيوز، ص ص 76 – 77).
أي أن القمع الجنسي في المجتمع المعاصر لا يتم بصورة مباشرة ومعلنة، وإنما يتم بصورة تبدو تلقائية وطبيعية سوية، ولا تتعارض مع ما هو سائد من صور للحرية الجنسية، لذا يرى ماركيوز أنه من الممكن أن تصل الحرية الجنسية إلى أقصى مدى يتصوره الإنسان، لكنها لا تستطيع أن تتخطى الحدود التي وضعها النظام القائم للجنس (Herbert Marcuse: Counter – Revolution and Revolt, Beacon Press, Boston, 1972, pp: 130-132).
فهذا التحرر المزعوم في المجتمع الصناعي المتقدم، كما يراه ماركيوز “يسبّب انكماشاً في الحاجات الغريزية بدلاً من أن يكون عاملاً على اتساعها وتطورها، والواقع أن هذا التحرّر المزعوم يخدم القمع العام الراهن أكثر مما يناوئه” (هربرت ماركيوز: الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، ط 3، 1988، ص 110).
كما اختلفت النظريات النقدية في رؤيتها لمشروع الحداثة، نجد أنها اختلقت أيضاً في رؤيتها لمفهوم ما بعد الحداثة، لكن هذه الرؤية – في وقتنا المعاصر – أقل أيديولوجية وتشنّجاً
بذلك يرى ماركيوز أن المجتمع المعاصر يفرض قيوداً متعددة على مبدأ اللذة، فيتنازل الإنسان عن قسط كبير من حريته الجنسية، ويخضع لمتطلبات الواقع الاجتماعي، وإن مبدأ اللذة يواجه من خلال التلبية التي يأذن له بها المجتمع انكماشاً، بهذا يعاني الفرد من الحرمان لتقلص مطالبه غير القابلة للتوافق مع المجتمع القائم. فاللذة من هذا النوع تولد الخضوع (هربرت ماركيوز: الإنسان ذو البعد الواحد، المرجع نفسه، ص:111).
وفي المقابل يرفض ماركيوز أن يكون خضوع مبدأ اللذة لمبدأ الواقع أبدياً، مثلما ذهب إلى ذلك فرويد، حيث يرى ماركيوز أنه من الممكن إنتاج مبدأ جديد للواقع لا يكون قمعياً يتحرر فيه مبدأ اللذة.
وفي نهاية المطاف نجد أن ماركيوز يبدي اختلافاً واضحاً فيما بعد، مع آراء فرويد التي تدور حول آلية تصوره لحضارة القمع في المجتمع الصناعي المتقدم بغية تطويرها لا إلغائها، فقد جاء هذا الاختلاف بناءً على التطوّرات التكنولوجية الهائلة التي حدثت في تلك المجتمعات والتي عاصرها ماركيوز ولاحظ نتائجها، والتي لم يكتب لفرويد أن يعاصرها، لأن الفترة التي عاصرها فرويد كانت تفرض هذا النوع من التفكير حول القمع الحضاري الذي يمارس على الإنسان.
إلا أن ماركيوز يرفض التفسير الفرويدي فيما يخصّ هذا الموضوع لأنه ينطبق على المجتمعات السابقة التي كانت تعاني من ضيق نطاق الإنتاج، حيث يتم فيها تعبئة كل الموارد من أجل العمل، ويحتم على المجتمع بالتالي تجاهل الإيروس. لكن يرى ماركيوز أن المجتمعات الحالية ظهر فيها و لأول مرة إمكانية الاستغناء عن القمع وإقامة حضارة لا ترتكز على الكبت، وهذا ما تجلّى بالمجتمع الصناعي المتقدم الذي أصبح قادراً على تحقيق قدراً هائلاً من الوفرة عن طريق التقدم التكنولوجي وانتشار الآلية (الأوتوماتيكية) التي تسير بذاتها، ممّا يتيح للمجتمع الانتقال إلى شكل جديد من أشكال الحضارة لا يعود فيه العمل الشاق ضرورياً، بل يتفرّغ الإنسان لتحقيق طبيعته الحيوية، مما يؤدي إلى القضاء على كل أشكال الاغتراب التي يتعرّض لها الإنسان. بهذا نجد أن الإنتاجية الوفيرة لهذا المجتمع تكرس لصالح قواه الإنسانية التي تحقق ذاته لأول مرة في تاريخه الطويل ( فؤاد زكريا: هربرت ماركيوز، ص 71).
ويرى ماركيوز أن المجتمع الصناعي المعاصر لم يستغلّ هذه الوفرة الإنتاجية في القضاء على القمع والكبت الذي يعاني منه الإنسان، ولا في إشباع حاجاته الحقيقية، بل لإشباع جشع المنتجين إلى الرّبح وإلى المزيد من الإنتاج، فأصبح الكبت في العصر الحالي قمعاً إرادياً من صنع الإنسان ليس كما وصفه فرويد كبت بحكم الضرورة الطبيعية، بمعنى آخر يرى ماركيوز بالمحصلة أن العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية هي التي تؤدي إلى القمع السائد الآن، وهي تدفع المجتمع إلى تطبيق أساليب معينة في توزيع ثروته. وتحتّم سيطرة البعض على البعض الآخر.
وفي النهاية نرى أنه كما اختلفت النظريات النقدية في رؤيتها لمشروع الحداثة، نجد أنها اختلقت أيضاً في رؤيتها لمفهوم ما بعد الحداثة، لكن هذه الرؤية – في وقتنا المعاصر – أقل أيديولوجية وتشنّجاً، وأكثر مصداقية وقابلية للتعميم من ذي قبل، وتنطلق من مقولة أساسية أن التكنولوجيا هي التي تشكيل عالمنا الاجتماعي، أو كما يقال التكنولوجيا هي محرّك التغير، والمعرفة وقودها. وهكذا أصبحت معظم النظريات والمقاربات السوسيولوجية في مرحلة ما بعد الدولة القومية تركز على التكنولوجيا أكثر من الإنسان، إذ يجري الحديث عن سوسيولوجيا المعلومات والمعرفة ومجتمع الشبكة وثورة التكنولوجيا، فهي بهذا مشغولة ببنية هذه الثورة وطبيعتها، أكثر ممّا هي مشغولة بعالم الإنسان، ولعلها لن تكون قادرة على قراءته تماماً، بالنظر إلى أن ثورة المعلومات جعلت المجتمع في حالة من التغير اللامستقر والثورة الدائمة. هذه هي إحدى التحديات المعرفية التي تواجه علم الاجتماع الجديد، وهي سرعة تغير المعرفة السوسيولوجية وتقادمها، من جهة، وفقدان القدرة على التنبؤ الاجتماعي، من جهة أخرى، ودخول المجتمع في مرحلة من التغيير أشبه ما تكون بالثورة التكنولوجية الدائمة، التي لا تخدم النظام، بل تدمّره تدميراً خلاقاً، وتبعث عن هذا التدمير الخلاق مجتمعاً، تصبح فيه ثورة المعرفة هي النظام والإبداع، والثبات هو الفناء. إن جنون التكنولوجيا هو عنوان هذا التغيير، ودراسة أثرها على تشكيل السلوك الإنساني وإعادة إنتاجه بأنماط مختلفة هو موضوع العلوم الاجتماعية في الوقت الراهن (انظر كتاب عبد القادر عرابي: علم الاجتماع والعالم الجديد – مقاربة نظرية ومنهجية جديدة، دار الفكر، دمشق، ط1، 2018).