فن النحت يحوّل ورق الكرتون إلى منمنمات ومجسمات عن الواقع
حنان مبروك
..لا يعدّ فن النحت فنا حديث، بل هو فن قديم متجدد، يعرفنا ممارسوه كل فترة بمواهب مختلفة تنحت وتصنع أشكالا بمواد لا يخطر على بال الإنسان العادي أنها يمكن في يوم ما أن تتحول إلى مجسمات ومنمنمات فنية.
والنحت عامة هو فن قديم جداً، حيث اشتهرت به العديد من الحضارات، على غرار المصريين القدماء الذين عرفوا بإتقانهم لهذا الفن، وقاموا بنحت العديد من التماثيل في الصخر والجبال، فصمدت في وجه تأثيرات الزمن وتغيرات المناخ لتخبرنا بقصص وحكايات عن عالمهم، وتكشف لنا بعضا من المعجزات التي أنجزوها بطرق يعجز الإنسان الآن عن فهمها، كما أنهم اهتموا بعلم التصوير عامة، وكانوا ينحتون الملوك والحيوانات والأشياء الثمينة من حولهم.
محمود نظير، حفيد هؤلاء المبدعين، الذي لم يكن يعلم يوما أن شغفه بالقص واللصق خلال طفولته سيجعل منه فنانا ذا موهبة فريدة، وتبهرك مجسماته من الكرتون منذ رؤيتها من الوهلة الأولى حيث لم يترك شيئا في حياتنا اليومية إلا وصنع له مجسمًا مصغّرا بالكرتون بدءا من المقدسات الدينية الإسلامية كالمسجد الحرام بمكة إلى وسائل النقل من طائرة وسيارة وتوك توك ثم الآلات الموسيقية المختلفة وأدوات التصوير وتحف الزينة والمأكولات وغيرها كثير، فالفنان لا يترك شيئا يستخدمه الإنسان في حياته اليومية دون أن يحاول أن يصنع منه مجسما مطابقا من الورق والكرتون.
فن النحت الورقي يعد الأصعب من بين أصناف فن النحت، لأنه يشمل مهارات الرسم والتصميم ومهارات صنع النماذج والأنماط المعقدة
يبلغ هذا الفنان الآن أربعين عاما وهو أحد أبناء محافظة القاهرة، وهو فنان عصامي يحوّل كل الأشياء من حولنا والتي يحتاجها الإنسان إلى مجسمات من ورق الكرتون وينشئ تصميمات مصغرة عن عديد المنتجات والمناطق الأثرية، التي تلقى إعجاب أعضاء مجموعات التواصل الاجتماعي، وتبادر بمتابعة فيديوهاته على موقع يوتيوب والتي يشرح فيها طريقته في صناعة المنمنمات بورق الكرتون المقوى.
استطاع نظير، بأنامله المحبة للورق، أن يحول الكرتون الذي نخزن فيه مقتنياتنا ويأتينا ملآنا بالعلب والمأكولات، إلى تحف فنية، بعضها على هيئة طيور وحيوانات، وبعضها نماذج عن تصميمات داخلية لمنازل وغرف معيشة، في ما يجسّد البعض الآخر على هيئة معدات منزلية تستخدمها النسوة بشكل دوري.
وتحافظ منحوتات الفنان للأشياء الصناعية على تفاصيل التصميم الأصلي حتى أن بعض متابعيه على مواقع التواصل الاجتماعي صاروا يدعونه لتوظيفها كعائد مادي يحصل من خلاله على أرباح لنحت منتجات ورقية لشركات عالمية. لكن الفنان يؤكد بشكل دوري أنه لا يتخذ من موهبته مصدرا للرزق، وإنما هي هواية تفسح له المجال للتحاور مع الآخر وتعريفه بأن الفن لا يقتصر على الفنون التقليدية أو يتطلب موادا باهظة الثمن.
وربما يظن المتفرج النحت على الورق أو الكرتون أمرا سهلا وبسيطا، لكن فيديوهات الفنان التي تنقل مراحل إنجاز المنمنمات تؤكد عكس ذلك، فالكرتون أو الورق المقوى مادة لينة مقارنة بالحجارة والطين والجبس، وتحتاج إلى الكثير من الجهد لتطويعها وإعادة تشكيلها وقصها وفق حسابات دقيقة. كما أنه يتطلب لصقه وتجفيفه ومن ثمة حمايته من المياه والرياح والأوزان الثقيلة كي لا يتلف بسرعة ويضيع مجهود أيام بخطأ بسيط لا يتجاوز الثواني.
ويعد فن النحت الورقي الأصعب من بين أصناف فن النحت عامة، لأنه يشمل مهارات الرسم والتصميم ومهارات صنع النماذج والأنماط المعقدة. ويفرض على ممارسه معرفة بالهندسة والحساب. ويعد الكرتون والورق المقوى من أكثر المواد استخدامًا في الفنون والحرف. حيث أنها مناسبة لمجموعة واسعة من التقنيات ويمكن تشكيلها بعدة طرق مثل، طيها، ثنيها، قصها، لصقها، تشكيلها وكذلك وضعها على شكل طبقات.
ويقول نظير الذي يصرّ على التعريف بموهبته فقط عبر مواقع التواصل الاجتماعي إنه يواجه يوميا العديد من الصعوبات، ومن أبرزها صعوبة الحصول على الموارد التي تستخدم في التصميمات لأنها غير متوفرة في أماكن كثيرة.
ويعد الورق غير مكلف نسبيًا ومتوفرا بسهولة ويسهل التعامل معه مقارنة بالوسائط الأكثر تعقيدًا التي تستخدم عادة في إنشاء أعمال فنية ثلاثية الأبعاد، مثل السيراميك والخشب والمعادن، إلا أنه صار في مرمى الأزمات العالمية، وصار سلعة تباع وتشترى ويعاد استخدامها، لذلك يجد الفنانون أنفسهم أمام واقع صعب يفرض عليهم شراء الورق بأسعار مرتفعة، وأحيانا يشكون من شح المادة في السوق.
كما يوضح الفنان أن بعض الأعمال تتطلب منه فترات طويلة لإنجازها نظرا إلى دقة تفاصيلها وكثرتها، ومنها تصميم مصغّر للمسجد الحرام كان قد أنجزه منذ فترة.
محمود نظير فنان عصامي يحوّل كل الأشياء من حولنا والتي يحتاجها الإنسان إلى مجسمات من ورق الكرتون
وكان هذا المجسّم سبب شهرة الفنان على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أثارت المنحوتة الورقية (150 في 40 سم) إعجاب الكثيرين.
ومن المواقف التي لا ينساها نظير تواصل صاحب شركة أدوات كهربائية كبيرة معه بعد نشره مجسما لآلة كهربائية طلبت منه زوجته شراءها لها لكن ثمنها لم يمكنه من ذلك، فاختار أن يصنع لها مجسما كرتونيا صغيرا كهدية بسيطة، إلى أن فوجئ بعد فترة بموظف الشركة يخبره بأنه فاز بجهاز كهربائي كهدية لزوجته نظير المجسم الذي نشر صورة له على شبكات التواصل الاجتماعي.
وتقتصر أعمال نظير على الموهبة فقط، فهو لم يتلق تعليما في التصميم أو الرسم أو الهندسة أو حتى مجالات ذات صلة بها، إلا أنه صار يفاجأ بسبب براعته وإتقانه ودقة تصميماته، بطلبات من بعض طلاب كلية الهندسة المعمارية لمساعدتهم في تصميم ماكيتات للمباني، ومجسمات مصغرة للمقطورات الضخمة والمباني العملاقة.
“موهبتي كلها كرتون”، هكذا يختزل الفنان موهبته ويعنون كل أعماله، فالكرتون بالنسبة إليه هو المادة المنسية التي يستعملها الإنسان في كل مجال تقريبا سوى الفن، إلا ما ندر.
ومحمود نظير، من القلائل الذين يحملون شعار “الفن من أجل الفن” فهو رغم موهبته المحدّثة في مجال النحت والمجسمات إلا أنه يتبنى فكر الفنانين القدماء الذين كان أغلبهم يعتبر الفن فعلا شخصيا يمارس من خلاله الإنسان ما يحبه ولا يسعى إلى بيع منحوتات أو ينزعج لعدم إقبال الجهات الرسمية وغير الرسمية على اقتنائها بأثمان باهظة، وإنما يكتفي بإبهار متابعيه ولفت انتباه المهتمين