10نسخة مصدقة».. فلسفة كياروستامي وإبداع بينوش
*** أسـامة عسل
ما الذي يحدث للمشاعر الإنسانية، كيف تتوه منا؟، ولماذا أمام فخ الحياة الزوجية يهرب الحب بين الرجل والمرأة؟
الإجابة عن هذه الأسئلة قد نعرفها، لكن من الصعب التصريح بها، لأنها دائماً قاسية ومؤلمة، لكن من خلال فيلم «نسخة مصدقة» للمخرج الإيراني عباس كياروستامي الذي حصلت بطلته النجمة الفرنسية جولييت بينوش عن دورها فيه على جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان السينمائي ، واجهنا الحقيقة المرة وفرحنا بها رغم تألمنا، وضحكنا وصفقنا للسعادة التي أعطاها لنا خلال ساعتين تقريباً.
شاهدنا حالة استثنائية وسرداً غير نمطي عكس طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، وفي التباس بين الحقيقة والنسخة المصدقة عنها، عشنا تسعة مشاهد أو لوحات مرسومة بذكاء شديد شكّلت في مجملها الفيلم كاملاً.
وبحرفية عالية تميزت كعادة كياروستامي في أفلامه باللقطات الثابتة والحوارات الطويلة التي تصيب البعض بالملل أحياناً، حلمنا بانسجام الحب والسعادة والجمال، وتأثرنا بالمرأة في تقلباتها وإحباطاتها وشكواها وأحزانها وفرحها الصغير، واندمجنا مع الرجل في رحلة بحثه عن شيء ما موجود داخلنا.
إختلاف ما
لابد من القول إن هذا الفيلم فيه اختلاف ما، قد يرجع إلى خلفية عباس كياروستامي القادم من الفن التشكيلي وحبه للشعر (له ديوان شعر مطبوع)، وهذا واضح في جمعه بين الواقعية الدرامية وحس الأفلام الوثائقية، فالسرد السينمائي عنده مفعم بالتأمل والشاعرية وتحميل أعمق المعاني صورًا فريدة، ساعده ذلك في مزج الخيال بالحقيقة داخل المواقف والمشاهد، حيث يستعرض كل ما نراه بأسلوب هادئ غريب ومثير في الوقت ذاته.
وفي هذا الإطار الخاص يذهب بنا كياروستامي إلى حكاية تحمل الكثير من الالتباسات التي يظل يغزلها ويحيك خيوطها من خلال حكاية تجمع كاتبا بريطانيا جاء إلى إيطاليا من أجل توقيع النسخة الإيطالية من كتابه الجديد الذي يتحدث خلاله عن العلاقة بين الأصل والنسخة في العديد من الأعمال الفنية عبر التاريخ والعصور، وسيدة فرنسية تعمل في مجال الأنتيكات والمقتنيات النادرة.
المشهد الأول: يبدأ بظهور طاولة وعليها ميكروفونات وكتاب عنوانه (نسخة مصدقة) موضوع بشكل بارز لنجد أنفسنا في محاضرة يقيمها الكاتب مؤلف الكتاب (جيمس ميللر ـ وليم شيميل) الذي جاء بدعوة إلى تلك المدينة للحديث عن مؤلفه، تدخل (إيلي ـ جولييت بينوش) متأخرة إلى مكان المحاضرة ويدخل بعدها ابنها الشاب الصغير ليدور بينهما حوار صامت بالإشارات، تترك هي عنوانها وتليفونها لدى مدير الندوة مع دعوة للكاتب بزيارتها في محل الأنتيكات الذي تديره، وتخرج تحت ضغط ابنها الذي يعلن عن رغبته في الأكل لشعوره بالجوع، في حوار بينهما يوضح إعجابها الشديد وميلها تجاه الكاتب.
المشهد الثاني: يصل الكاتب إلى محل الأنتيكات الذي يشبه القبو، شبه معتم وتتوزع فيه تماثيل، تعلن إيلي أن تلك التماثيل ليست نسخاً أصلية، ويستغل كياروستامي المكان في الدلالة والرمز، حيث يحاصر الكاتب بتمثالين مع خلفية لمرآة تظهر إيلي من بعيد.
الطبيعة الجميلة
المشهد الثالث: يخرج ميللر وإيلي بالسيارة لتناول القهوة وتبدو معالم القرية والطبيعة الجميلة التي تحيط بهما من على زجاج السيارة، حوار عفوي تتدفق فيه إيلي وتتحدث عن نفسها وعن أختها وتطلب منه توقيع الكتاب، آراء في الفن والأدب وعن الأماكن المحيطة بتلك القرية، تأخذه إلى متحف البلدة وتريه صورة أخرى ويتحدثان عن الجيوكندا، ويدور بينهما حوار مطول عن الأصل والنسخ والصورة وجودة الأصل أو الصورة المنسوخة، في إطار من الحوار الفكري والفلسفي والثقافي العميق.
المشهد الرابع: مقهى إيطالي صغير، يجلسان لتناول القهوة، يدور بينهما حوار حول الزواج ومشاعر الحب والشعور بالوحدة والعزلة لغياب الحبيب، تتدخل نادلة المقهى للتخفيف من حزن إيلي خلال خروج ميللر للرد على مكالمة هاتفية، وتتحول إيلي فجأة إلى موقع الزوجة لذلك الكاتب.
المشهد الخامس: مكان يحتفل فيه المقبلون على الزواج بطقوس الأفراح والتقاط الصور التذكارية، لا تتردد إيلي في مشاركة عريس وعروسه تلك الصور بعدما تخبرهم بأنها كانت في المكان نفسه من 15 عاماً، وتفاؤلاً بكونها تعيش سعيدة مع زوجها يطلب العروسان من الكاتب ميللر مشاركتهم الصورة باعتباره ذلك الزوج.
صورة افتراضية
المشهد السادس: تجد إيلي نفسها فجأة أمام صورة افتراضية لزوج بديل آخر، بديل لمن افترقت عنه ربما، يتحولان معاً إلى حالة من المشاركة في هذا الإحساس داخل مطعم، يدفعها ذلك إلى أن تتزين لتعود إلى ميللر فتجده ثائراً منفعلاً لأن النبيذ لم يعجبه طعمه، ويترك المكان، تتخلى هي عن زينتها.
المشهد السابع: ساحة كبيرة تحتوي على نافورة مياه وسطها تمثال لرجل وامرأة في معنى بالغ للاحتواء والحب واعتمادهما على بعضهما البعض، تحدث مشادة بين إيلي وميللر يتدخل على إثرها سائح وزوجته لإزالة الخلاف العابر بينهما وفي نصيحة يطلب السائح من الكاتب قائلاً: «ضع يدك على كتف زوجتك، وستلاحظ التحسن»، وهذا ما يفعله ميللر في نهاية المشهد.
المشهد الثامن: أمام كنيسة تدخل إيلي وميللر، ويظن أنها ذهبت إلى الصلاة لكنها تذهب إلى هناك لتجد زاوية ما تتخلص فيها من حمالة الصدر التي ضايقتها، وعند الخروج يسبقهما رجل وامرأة في مرحلة الشيخوخة يستندان على بعضهما البعض، في إشارة واضحة إلى معنى عميق لا يحتاج إلى شرح.
المشهد الأخير: تستأجر إيلي غرفة في فندق قريب تربطه بها ذكرى عاطفية، تعيش تلك الذكرى نائمة على السرير، فيما يظل ميللر صامتاً، ينظر إلى وجهه طويلاً في المرآة وكمن يحدث نفسه عن الخطوة الآتية، هل يمضي معها إلى ما تتمخض عنه تلك الصدفة التي جمعتهما، أم يمضي سريعاً إلى محطة القطار عائداً إلى بيته في بريطانيا؟، سؤال لا يجاوب عنه الفيلم ويترك النهاية لمخيلة المشاهد، مع صورة جرس الكنيسة وصوته يعلن احتضار الروح الإنسانية في حال جمود الرجل وتخلفه وعجزه عن فهم الحب والجمال والحلم.
مفردات السيناريو
المدهش في فيلم «نسخة مصدقة» هو الأداء الإبداعي للنجمة الفرنسية جولييت بينوش التي كانت رائعة بكل المقاييس وكأن بينها وبين الكاميرا ثمة علاقة «كيميائية»، لكن الأكثر إدهاشاً بلوغ عباس كياروستامي بمفردات السيناريو ولغة الصورة مرحلة جديدة من التعاطي مع المضامين والتحليل المنهجي للشخصيات والأحداث وأيضاً الأبعاد الفكرية والفلسفية، وهي جوانب باتت للأسف نادرة اليوم في السينما العالمية التي انشغلت بالتسلية والإثارة على حساب الإبداع والمضمون.
*** أسـامة عسل
ما الذي يحدث للمشاعر الإنسانية، كيف تتوه منا؟، ولماذا أمام فخ الحياة الزوجية يهرب الحب بين الرجل والمرأة؟
الإجابة عن هذه الأسئلة قد نعرفها، لكن من الصعب التصريح بها، لأنها دائماً قاسية ومؤلمة، لكن من خلال فيلم «نسخة مصدقة» للمخرج الإيراني عباس كياروستامي الذي حصلت بطلته النجمة الفرنسية جولييت بينوش عن دورها فيه على جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان السينمائي ، واجهنا الحقيقة المرة وفرحنا بها رغم تألمنا، وضحكنا وصفقنا للسعادة التي أعطاها لنا خلال ساعتين تقريباً.
شاهدنا حالة استثنائية وسرداً غير نمطي عكس طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، وفي التباس بين الحقيقة والنسخة المصدقة عنها، عشنا تسعة مشاهد أو لوحات مرسومة بذكاء شديد شكّلت في مجملها الفيلم كاملاً.
وبحرفية عالية تميزت كعادة كياروستامي في أفلامه باللقطات الثابتة والحوارات الطويلة التي تصيب البعض بالملل أحياناً، حلمنا بانسجام الحب والسعادة والجمال، وتأثرنا بالمرأة في تقلباتها وإحباطاتها وشكواها وأحزانها وفرحها الصغير، واندمجنا مع الرجل في رحلة بحثه عن شيء ما موجود داخلنا.
إختلاف ما
لابد من القول إن هذا الفيلم فيه اختلاف ما، قد يرجع إلى خلفية عباس كياروستامي القادم من الفن التشكيلي وحبه للشعر (له ديوان شعر مطبوع)، وهذا واضح في جمعه بين الواقعية الدرامية وحس الأفلام الوثائقية، فالسرد السينمائي عنده مفعم بالتأمل والشاعرية وتحميل أعمق المعاني صورًا فريدة، ساعده ذلك في مزج الخيال بالحقيقة داخل المواقف والمشاهد، حيث يستعرض كل ما نراه بأسلوب هادئ غريب ومثير في الوقت ذاته.
وفي هذا الإطار الخاص يذهب بنا كياروستامي إلى حكاية تحمل الكثير من الالتباسات التي يظل يغزلها ويحيك خيوطها من خلال حكاية تجمع كاتبا بريطانيا جاء إلى إيطاليا من أجل توقيع النسخة الإيطالية من كتابه الجديد الذي يتحدث خلاله عن العلاقة بين الأصل والنسخة في العديد من الأعمال الفنية عبر التاريخ والعصور، وسيدة فرنسية تعمل في مجال الأنتيكات والمقتنيات النادرة.
المشهد الأول: يبدأ بظهور طاولة وعليها ميكروفونات وكتاب عنوانه (نسخة مصدقة) موضوع بشكل بارز لنجد أنفسنا في محاضرة يقيمها الكاتب مؤلف الكتاب (جيمس ميللر ـ وليم شيميل) الذي جاء بدعوة إلى تلك المدينة للحديث عن مؤلفه، تدخل (إيلي ـ جولييت بينوش) متأخرة إلى مكان المحاضرة ويدخل بعدها ابنها الشاب الصغير ليدور بينهما حوار صامت بالإشارات، تترك هي عنوانها وتليفونها لدى مدير الندوة مع دعوة للكاتب بزيارتها في محل الأنتيكات الذي تديره، وتخرج تحت ضغط ابنها الذي يعلن عن رغبته في الأكل لشعوره بالجوع، في حوار بينهما يوضح إعجابها الشديد وميلها تجاه الكاتب.
المشهد الثاني: يصل الكاتب إلى محل الأنتيكات الذي يشبه القبو، شبه معتم وتتوزع فيه تماثيل، تعلن إيلي أن تلك التماثيل ليست نسخاً أصلية، ويستغل كياروستامي المكان في الدلالة والرمز، حيث يحاصر الكاتب بتمثالين مع خلفية لمرآة تظهر إيلي من بعيد.
الطبيعة الجميلة
المشهد الثالث: يخرج ميللر وإيلي بالسيارة لتناول القهوة وتبدو معالم القرية والطبيعة الجميلة التي تحيط بهما من على زجاج السيارة، حوار عفوي تتدفق فيه إيلي وتتحدث عن نفسها وعن أختها وتطلب منه توقيع الكتاب، آراء في الفن والأدب وعن الأماكن المحيطة بتلك القرية، تأخذه إلى متحف البلدة وتريه صورة أخرى ويتحدثان عن الجيوكندا، ويدور بينهما حوار مطول عن الأصل والنسخ والصورة وجودة الأصل أو الصورة المنسوخة، في إطار من الحوار الفكري والفلسفي والثقافي العميق.
المشهد الرابع: مقهى إيطالي صغير، يجلسان لتناول القهوة، يدور بينهما حوار حول الزواج ومشاعر الحب والشعور بالوحدة والعزلة لغياب الحبيب، تتدخل نادلة المقهى للتخفيف من حزن إيلي خلال خروج ميللر للرد على مكالمة هاتفية، وتتحول إيلي فجأة إلى موقع الزوجة لذلك الكاتب.
المشهد الخامس: مكان يحتفل فيه المقبلون على الزواج بطقوس الأفراح والتقاط الصور التذكارية، لا تتردد إيلي في مشاركة عريس وعروسه تلك الصور بعدما تخبرهم بأنها كانت في المكان نفسه من 15 عاماً، وتفاؤلاً بكونها تعيش سعيدة مع زوجها يطلب العروسان من الكاتب ميللر مشاركتهم الصورة باعتباره ذلك الزوج.
صورة افتراضية
المشهد السادس: تجد إيلي نفسها فجأة أمام صورة افتراضية لزوج بديل آخر، بديل لمن افترقت عنه ربما، يتحولان معاً إلى حالة من المشاركة في هذا الإحساس داخل مطعم، يدفعها ذلك إلى أن تتزين لتعود إلى ميللر فتجده ثائراً منفعلاً لأن النبيذ لم يعجبه طعمه، ويترك المكان، تتخلى هي عن زينتها.
المشهد السابع: ساحة كبيرة تحتوي على نافورة مياه وسطها تمثال لرجل وامرأة في معنى بالغ للاحتواء والحب واعتمادهما على بعضهما البعض، تحدث مشادة بين إيلي وميللر يتدخل على إثرها سائح وزوجته لإزالة الخلاف العابر بينهما وفي نصيحة يطلب السائح من الكاتب قائلاً: «ضع يدك على كتف زوجتك، وستلاحظ التحسن»، وهذا ما يفعله ميللر في نهاية المشهد.
المشهد الثامن: أمام كنيسة تدخل إيلي وميللر، ويظن أنها ذهبت إلى الصلاة لكنها تذهب إلى هناك لتجد زاوية ما تتخلص فيها من حمالة الصدر التي ضايقتها، وعند الخروج يسبقهما رجل وامرأة في مرحلة الشيخوخة يستندان على بعضهما البعض، في إشارة واضحة إلى معنى عميق لا يحتاج إلى شرح.
المشهد الأخير: تستأجر إيلي غرفة في فندق قريب تربطه بها ذكرى عاطفية، تعيش تلك الذكرى نائمة على السرير، فيما يظل ميللر صامتاً، ينظر إلى وجهه طويلاً في المرآة وكمن يحدث نفسه عن الخطوة الآتية، هل يمضي معها إلى ما تتمخض عنه تلك الصدفة التي جمعتهما، أم يمضي سريعاً إلى محطة القطار عائداً إلى بيته في بريطانيا؟، سؤال لا يجاوب عنه الفيلم ويترك النهاية لمخيلة المشاهد، مع صورة جرس الكنيسة وصوته يعلن احتضار الروح الإنسانية في حال جمود الرجل وتخلفه وعجزه عن فهم الحب والجمال والحلم.
مفردات السيناريو
المدهش في فيلم «نسخة مصدقة» هو الأداء الإبداعي للنجمة الفرنسية جولييت بينوش التي كانت رائعة بكل المقاييس وكأن بينها وبين الكاميرا ثمة علاقة «كيميائية»، لكن الأكثر إدهاشاً بلوغ عباس كياروستامي بمفردات السيناريو ولغة الصورة مرحلة جديدة من التعاطي مع المضامين والتحليل المنهجي للشخصيات والأحداث وأيضاً الأبعاد الفكرية والفلسفية، وهي جوانب باتت للأسف نادرة اليوم في السينما العالمية التي انشغلت بالتسلية والإثارة على حساب الإبداع والمضمون.