العلاقة
بالآخر القلق ما بين الصمت المطبق والمواجهة
د. سمير الخليل
د. سمير الخليلفي روايته القصيرة (أَحْ) الصادرة عن دار الآن- عمان الأردن2019، يتصدى المبدع “هيثم بهنام بردى” للحظة وجودية وتأريخية خطيرة مرَّ بها العراق إبان اجتياح الجيش الأمريكي ومن تحالف معه للدولة العراقية عام 2003 حاملين معهم أحدث تقاناتهم الحربية الأكثر تطوراً.
لقد انتقى لحظة مواجهة إنسانية بين جندي يتكلم اللغة الانكليزية وأديب عراقي من شمال الوطن. الجندي يحمل طفلاً رضيعاً بين يديه ويبحث له عن ملاذ آمن يقيه شر نار الحرب، والأديب جالس في بيته وسط مكتبته مطمئن للآمان البيتي الكاذب، وهو مستغرق بتأملاته الفكرية.
وبالصدفة يكون اختيار الجندي لبيت الأديب. يطرق الباب ويؤذن له بالدخول وبذلك يؤمن للطفل الرضيع فراشاً دافئاً وحليباً، ولأنه في حضرة أديب محلي يجلس في قلب مكتبته، يحاول استثمار هذا الحضور ليفهم الشيء الكثير عن هذا البلد المستباح، بلاد (ميزوبوتاميا) التي علّمت البشرية الحضارة من كتابة وزراعة وصناعة ورياضيات وفنون وجنائن معلقة وما إلى ذلك من أفولات غابرة، ولأن الحبكة الوحيدة هذه تتمركز في مكان واحد وزمن واحد وحدث واحد وبحدود عشر صفحات من القطع المتوسط فليس من الناجح والمفيد والمعقول أن تجنس على أنها رواية قصيرة، فهي قصة قصيرة ليس إلا، وباقي صفحات الرواية التي تصل إلى (45) صفحة ما هي إلا تأملات في التأريخ العراقي القديم وبعض الإستذكارات لكتب معينة.
صيغت القصة بلغة رومانسية مكتظة بالإستعارات والكنايات ومباهج البلاغة الأخرى التي أثبطت حرارة القراءة المندمجة مع النص الحربي. فشكلت هذه اللغة النخبوية نقطة شد إلى الوراء ولم تساعد النص في الوصول إلى عقل القارئ المكتوي بنار الواقع الملتهب ولم تحصل على التعاطف المطلوب مع الحدث ولعلّ هيثم يريد أن يعالج نار الحروب بلغة هادئة رومانسية عبقة تخفف عبء الواقع.
إذن، نحن إزاء جندي أجنبي مدجج بالسلاح جاء من وراء عشرات آلاف الكيلومترات ليغزو بلداً لم يسمع به في يوم ما، وأديب محلي سفّر عائلته إلى مكان آمن في أقصى شمال الوطن ليبقى في بيته يحمي مكتبته وممتلكاته من النهب الذي نشط في ظل الغزو والإجتياح وبينهما طفل رضيع ضائع هو كل ما تبقى من عائلة أكلتها القنابل والصواريخ الذكية. ليأخذا ناصية حوار حضاري استذكاري غير مقنع لأنه مملوء بالنضاجة والإدعاء والتكلف، وموبوء بتضخم الأنا المرضي، الأنا المستبطنة لكل أمجاد الماضي، ولكنها راهناً متخلفة تخلفاً رهيباً عن مجرى التاريخ العالمي والحاضر العالمي الذي هو عبارة عن عيد مستمر.
لقد دار في مواجهتهما تلك حوار طرشان حقيقي ولم ينقذه المؤلف إلا بتصويته (فونيمة) الـ(أَحْ) التي يطلقها الطفل الرضيع بين آونة وأخرى، وقد اتخذها المؤلف عنواناً للكتاب- القصة.
ومعناها وقد صدر به الكتاب: ((لفظة ينطقها ويطلقها بغضب الأطفال الرضع في العراق، مع تلويحة بقبضاتهم اللدنة، بقصد الضرب أو الصفع، وغالباً ما تكون دفاعاً عن النفس، ومعنى لفظة (أَحْ) بحسب المعاجم: حكاية صوت المتوجع أو السّاعل)). (ص5).
صحيح أن القوانين الدولية التي تحكم العلاقات بين الدول وبين الأقليات وبين الأفراد (قوانين حقوق الإنسان) صارمة وعادلة وتقف بالمرصاد ضد الاعتداءات والسلوكات الوحشية، ولكن المرحلة الراهنة التي نحياها اليوم لا تسمح بتشكيل لغة ديمقراطية حول العلاقات الدولية أو وضعية الأقليات. بؤر التوتر في بعض المناطق الساخنة من العالم وخاصة الشرق الأوسط، تنفي إرادة التعارف والإعتراف، لأن العلاقة بين الهوية والغيرية تبنى اليوم على أرضية المخاوف والإقصاءات.
لقد نجح بعض المنظرين الإنسانيين في ترويج نظريات التسامح وتقبل الآخر وشراكة الوجود ولكنهم أغفلوا القبليات الرمزية والصورية للمخاوف الجمة التي تكتنف العلاقة بين الأنا والآخر، مشكلة الصراع اليوم بين الثقافات هي مشكلة “الفكرة” أو “التصور” الذي نشكله حول الآخر، فالفكرة في الغالب فكرة “خيالية” ذهنية، صورية تتعامل مع الآخر كما يريد الوعي إظهاره وليس كما يبتدئ هذا الآخر للوعي. وقد توصل المؤلف إلى هذا الرأي عند نهاية القصة، ولنقرأ المنطوق الآتي:
((نظرت إليه بتساؤل فيما استطرد:
– أن تروّجوا لتأريخكم
وغب صمت: التأريخ المسكوت عنه بقصيدة، والمغيب عن الذاكرات عبر البحار البعيدة.
– شرح الآثاريون الكثير عن هذه الحضارة الرائدة.
– قد يكون هذا صحيحاً ولكنكم بحاجة إلى شيء مهم، إمّا تغافلتم عنه أو تجهلونه.
هززت رأسي مستفهماً، فأكمل:- الترويج.
لفظت الكلمة في فمي باللذة الساحرة للعلكة الجديدة أول مضغها واستمعت إليه:
– تقاعس فظيع في تقديم هذا البهاء إلى العالم)). (ص58).
ولكنه كان غير مصيب بالمرة، عندما اقترح الصمت المطبق كآلية في التعامل مع الآخر تيمناً بتجارب الشعوب التي خاضت حروباً مع الآخر- الغازي: ((أحسب أن الأدب الذي سنكتبه الآن لم يلم بكل المأساة التي أحاقت بنا وصورت كينوناتنا في مراحل الضياع المتلظية، نعم، لدينا شواهد في الأدب العالمي كتبت أثناء الحروب ولنا في الرواية الموسومة “صمت البحر” المنشورة عام 1943 كنموذج، حين جعل “فيركور” وهو اسم مستعار لروائي وفنان حفرغرافيكي فرنسي ولد عام 1902 وتوفي عام 1991 اسمه جان مارسيل بورللر، من شخصيتي روايته القصيرة هذه، الرجل والمرأة، يحاربان الضابط الألماني الذي فرضته القوات الألمانية الغازية كضيف دائم على العائلة، بالصمت كصمت البحر في الجوار، وكان سلاح الصمت فتاكاً… نعم، نحن بحاجة إلى صمت النهرين الجليلين كي نكتب تأريخ مدننا المستباحة)). (ص42، وما بعدها).
لُبّ المشكلة أن جدلية الهوية والغيرية تبقى على تخوم الواقع والخيال، وتتموقع في بؤرة الصراع أو التوتر بين واقع مركب يبدي الهويات كما هي في خصوصيتها الفردية وبين خيال متشعّب يضفي عليها تلوينات مغايرة، وبما أنه من الصعب عزل الخيال عن الواقع أو الشرط السايكولوجي عن الحدث المحايث، فإنه من الصعب أيضاً نفي الأرضية المتوترة التي تقف عليها الهوية والغيرية والتي هي في الوقت نفسه شرط إمكان العلاقات الساكنة بين الأنا والآخر، مشكل الإعتراف هو إذن ذو طبيعة إزدواجية تفيد التناقض والتوتر، فهو يستبعد الذات عن الغير (حروب وصراعات) بقدر ما ينمي فيهما الرغبة في الاعتراف (تعارف، تبادل، تواصل).
في هذا الزمن الرديء الذي تقدم فيه خطط الحرب والغزو معززة بجداول جدوى اقتصادية، في هذا الزمن الذي تجدد فيه الرأسمالية العالمية نفسها بالحروب وبخوض الاستباحات لم يعد التذكير بماضينا المجيد يجذي نفعاً مع الجندي الغازي، فمسلة حامورابي والجنائن المعلقة وأسوار بابل العملاقة وألواح الكتابة المسمارية والرقم الطينية الأولى والأختام الاسطوانية لا تعني (اليانكي الأمريكي) في شيء، ولا تثير اهتمام الانكليزي أو الفرنسي أو الغربي عموماً، ما يثيره ويشد أنفه هي رائحة النفط الخام التي تنتشر عابقة في أجواء (ميزوبوتاميا) أينما وجه أنفه وليس الآثار الغابرة المطمورة تحت ركام النسيان والتي تعد أصنام الكفرة الأولين في نظر الأصوليين والسلفيين، لذلك دمروها شر تدمير أينما وجدوها، تحت الأرض أو معروضة في المتاحف المحلية وصبوا جُلَّ إهتمامهم على استخراج الذهب الأسود وتسويقه بأدنى الأسعار.
إنَّ تلك الأفولات الغابرة بقدر ما عنت الكثير بالنسبة للعالم في يوم ما لم تعد تعني أحداً الآن من فقراء وأغنياء الشرق العربي بقدر ما تعنيه الثروات الباطنية المكنونة، إنه الفقر والعوز والحرمان يا صديقي ((ولو لا الخبز ما عبد الله)) حسب اعتقاد أول راديكالي في الإسلام “أبو ذر الغفاري”. فبسبب الفقر سيلغى سلّم القيم بالكامل وسيشطب حتى على الفلسفات الكبرى والأديان وكل غائية بلا غاية، فعن أية آثار وأمجاد تتكلم؟ وما كل هذا الاسترخاء المميت؟