السماء الزرقاء (1/3)
غاستون باشلار
ترجمة: سعيد بوخليط”يجب أن يكون في مقدورك التعبير عن الأشياء الأكثر نقاء”
(أندريه جيد، يوميات ،الأعمال الكاملة، ص 491)
وحدها زُرقة السماء، تقتضي دراسة طويلة حتى نحيط بقيم صورها العديدة، بحيث سنرى في غضون ذلك تجليا لمختلف أنماط الخيال المادي، تبعا للعناصر الجوهرية : للماء، والنار، والأرض، والهواء. بمعنى ثان، بوسعنا حين التركيز فقط على موضوع السماء الزرقاء، تصنيف الشعراء إلى أربعة أصناف :
* الذين يرون السماء الجامدة بمثابة سائل مائع، ينتعش جراء أقل سحابة.
*آخرون يعيشون السماء الزرقاء كشعلة هائلة. أزرق”يطبخ”، تقول الكونتيسة دو نويل (القِوى الأبدية ،ص 119 ).
*فريق ثالث يتأمل السماء مثل زُرقة متوطدة، قبَّة ترسم”لازورد متماسكا وصلبا” تضيف كذلك الكونتيسة دو نويل(ص 154) .
*أخيرا الذين يتقاسمون حقا الطبيعة الهوائية لزُرقة السماء.
طبعا، إلى جانب شعراء كبار يقتفون غريزيا آثار الإلهامات الأولية، سنكتشف بسهولة، بخصوص صورة مشتركة جدا، قوافي عدة أدركت باستمرار”زرقة السماء” كمفهوم، وليس كصورة أولى.تكابد شاعرية السماء، نتيجة هذا التوجيه،نفاية واسعة الأرجاء. في هذا الإطار، نفهم تقريبا دلالة احتقار ألفريد دي موسي حين نعته اللون الأزرق بلون أبله.ثم يصبح على الأقل، لدى الشعراء المتكلِّفين، لون براءة متبجِّحة : من هنا الياقوت الأزرق وكذا أزهار الكتَّان.
لايعني ذلك، حظرا لهذا النوع من الصور: لكن القصيدة أيضا بمثابة انخراط للكبير في الصغير، وكذا مشاركة للكبير من لدن الصغير.بيد أننا لانعيش ذلك، بمجرد تجاور بين اسمي السماء والأرض، بل نحتاج شاعرا كبيرا، كي يعثر ثانية، بكيفية ما، دون استنساخ أدبي، على سماء زرقاء عبر زهرة وسط الحقول.
لكن لنترك جانبا سجالا سهلا ضد الصور الخاطئة،والباهتة،قصد التطلع صوب تأمل واقعة أثارت انتباهي دائما.
إحدى المعطيات التي فاجأتني، خلال قراءتي لنصوص شعراء متنوعين جدا،تتمثل في ملاحظة مدى ندرة الصور حيث زُرقة السماء هوائية حقا. يعود ذلك، إلى ندرة الخيال الهوائي بحيث لم يرتق بعد نحو حضور خيالات النار، الأرض أو الماء.لكنه يتأتى أساسا من كون هذا الأزرق اللانهائي، البعيد، والهائل، وإن حظي بإحساس روح هوائية، يحتاج إلى أن يتجسَّد كي تتضمنه صورة أدبية.
تلمِّح كلمة أزرق، دون أن تبدي قط.تختلف كليا إشكالية صورة زُرقة السماء بين الرسام ثم الشاعر.فإذا شكَّلت بالنسبة للكاتب موضوعا شعريا وليس مجرد خلفية ،فلا يمكنها إذن الانتعاش سوى بين طيات مجاز.يجدر بالشاعر أن يجعلنا نحلم باللون وليس الاكتفاء بتأويله.
زُرقة السماء بسيطة للغاية مما يدفعنا للاعتقاد بعدم إمكانية النجاح في جعلها حالمة دون تجسيمها بداية. غير أننا نبالغ، إبان ذلك. هكذا، تصبح السماء الزرقاء صلبة جدا،فِجَّة جدا، سميكة جدا، حارقة جدا، لامعة جدا.غالبا، تنظر إلينا السماء بإمعان مفرط. لذلك، نضفي عليها كثيرا من المادة، والثبات،لأننا لم نهتد بالروح صوب حياة المادة الأولي.نجعل زُرقة السماء نَغَميا بجعله ”يهتز”مثل بلورة رنَّانة، بينما لاتعكس بالنسبة للأرواح الهوائية حقا سوى نغمة النَّفَس.
لذلك، وبناء على كثافة زائدة، كتبت الكونتيسة دو نويل(الهيمنة ص 203) : ”اليوم بدت السماء الزرقاء قوية جدا، تصيب بالعمى من يتأملها طويلا؛ تفقِد الأعصاب، تجعلكَ تدور مثل إعصار. مثقلة بمحالِق ذهبية، جليد ساخن، وكذا قطع ألماس حادة، مشعَّة، سهام، وذباب فضي”.
تكمن حسب اعتقادي السمة الهوائية حقا،ضمن وجهة أخرى.تستند في الواقع،على ديناميكية إزالة الطابع المادي. زُرقة السماء هوائية،حينما يتم الحلم بها مثل لون يشحب قليلا، شحوب يتوخى النعومة، نعومة نتخيَّلها وقد غدت ليِّنة بين الأصابع مثل مداعبة قماش ناعم، يقول بول فاليري :
تلك الحَبَّة الغامضة عند أقصى الأعالي(1)
ثم تقدم لنا السماء الزرقاء حِكْمة هدوئها وخفتها :
سماء فوق السقف،
زرقاء جدا، وهادئة للغاية !
يتحسَّر بول فيرلان من داخل سجنه، تحت وطأة ذكريات غير قابلة للصفح.ربما هدوء تكتنفه الكآبة، يحس الكائن الحالم أكثر من ذي قبل، بأنه لن يمتلك زُرقة السماء :”ماجدوى شعارات تسلّق أولي ومريح، مادمتُ لن أبلغ قط خلال هذا المساء ذاك الأزرق ، أقصد تحديدا زُرقة السماء”(2).
لكن عندما نجوب سُلَّم إزالة الطابع المادي عن زرقة السماء، بوسعنا حينئذ تلمّس فاعلية التأمل الشارد الهوائي. هكذا، ندرك بأن الأمر يتعلق بمماثلة الهوائي، انصهار الكائن الحالم بين طيات عالم مختلف قدر مايمكنه السعي، عالم أزرق وناعم،لانهائي وبدون شكل، قدر إمكان الجوهر.
هاهو السُلَّم السريع لأربعة وثائق، وحدها الوثيقة الرابعة، تكشف عن وجهة نظر هوائية محضة.
*– بداية وثيقة لستيفان مالارميه، بحيث يعيش الشاعر نتيجة ”سأم ثمين”وسط ”مستنقعات أثيرية”، ويكابد ”سخرية” سماء زرقاء.لقد اكتشف لازورد مفرط العدوانية يسعى إلى :
”أن يسدَّ بيد لا تكلّ أبدا، تلك الحفر الزرقاء الكبيرة التي تصنعها وقاحة طيور “.
لكن لازورد أقوى ، يجعل الأجراس تغني :
“وتكتسي روحي صوتا،
كي لايرعبني قط انتصاره الفظّ،
وينبعث المعدن الحي في أجراس إنجيلوس زرقاء ”(3) .
كيف لايمكننا الإحساس، في خضم هذه المنافسة بين لازورد والطائر، بأن الشاعر يتحمل سماء زرقاء صلبة جدا، تفرض أيضا على الحالم من خلال”انتصار لئيم”كثيرا من المادة؟ ولأن القارئ المتأثر بالشاعر مالارميه، سيحلم ربما بلازورد أقل عدوانية، مرهفا أكثر، أقل ارتجاجا، حيث يرنّ الجرس من تلقاء ذاته لوظيفته الهوائية، كليا هذه المرة ،دون استعادة قط لذاكرة شفته البرونزية(4).
*في سياق هذه المبارزة التي انطلقت بين زُرقة السماء ومختلف الموضوعات المترتبة عن ذلك، نحس غالبا جراء الجرح الذي تحدثه الأشياء بخصوص الأزرق النقي، بأننا نحيا داخل كينونتنا رغبة غريبة تتجه صوب كَمَال السماء الزرقاء. بوسعنا حسب نظرية للشكل الصاعد تبعا للإيقاع الكوني، القول بأن السماء الزرقاء بمثابة الموضوع المطلق. أضحت الحساسية البليغة، نحو ذاك الجرح، جيدة بما يكفي بين فقرات صفحة كتبها إميل زولا.ذلك أن سيرج موري، شخص غير آبه بماضيه، بل غير واعٍ بالمأساة الروحية التي يعيشها في مدينة بارادو، يراقب انطلاقا من فراشه إبان نقاهته السماء الزرقاء، الباعث الوحيد لتأمل شارد ماثل : ”كانت أمامه سماء شاسعة، لاشيء سوى الأزرق،أزرق بكيفية لانهائية؛ يغتسل في خضم ذلك من وجعه، مستسلما لهذه الرغبة، المماثلة لتهدهد خفيف، حيث يرتشف العذوبة، الصفاء، ثم الفتوة. فقط، الغصن الذي رأى ظله يتجاوز النافذة،كي يصل البحر الأزرق باخضرار شديد؛ سيتشكَّل معه تدفق قوي جدا، لحساسية مرضه الذي يتأذى من تلويث طيور السنونو المحلِّقة صوب الأفق”(إميل زولا، غلطة الكاهن موري، فاسكيل ص150 ) .
هنا أيضا، مثلما في مقاطع مالارميه، يبدو بأنَّ تحليق الطائر،من خلال سمته البليغة، يحدث جرحا بالنسبة لعالم يرغب في المحافظة على وحدة لونه البسيط، وحدة خِفَّة كائن يحتاج إلى بساطة وعذوبة النقاهة.يتمثل المبدأ الأساسي لهذا التأمل الشارد في الشعار التالي :” أنْ لا يؤزم شيء السماء الزرقاء !”.
الغصن، الطائر الذي يمر،حاجز التقاطع الحاد جدا الذي يزعج التأمل الشارد الهوائي، ويعيق انصهار الكائن وسط هذا الأزرق الكوني، النزيه…لكن صفحة زولا مختصرة. فالروائي، بتركيزه الكلي على خياله المتعلق بثراء الحسي،لاترضيه ضمن هذا الحدس، صورة أولية. صدفة، وقف زولا هنا على صور الخيال الهوائي.
* الوثيقة الثالثة ،ستكون بدورها، متداخلة جدا لاسيما بدايتها ،تُستحضر هنا كي أستخلص بشكل أفضل نقاء الوثيقة الرابعة :”تأخذ السماء، أمام العين، يقول صامويل كولريدج (أورده وترجمه جون شاربونتي في دراسته المعنونة ب”كولريدج المُسرنِم العظيم”)، شكل قَدَح مقلوب، وسط حوض ياقوت أزرق، منتهى جمال الشكل واللون.أما بالنسبة للفكر، فالسماء تعكس الضخامة. لكن العين تشعر، تقريبا، بقدرتها على الرؤية من خلالها، وتحس في هذا الإطار على نحو مبهم بانعدام أيِّ مقاومة. لا تختبر العين تحديدا الحسّ الذي تبعثه الأشياء الصلبة والمتناهية: تشعر بأن الاحتواء يكمن في سلطتها أمام اللامتناهي كي تجعله يسمو بما تراه”.
للأسف، تؤدي المقارنات مع القَدَح والياقوت الأزرق إلى ”تصلُّب” الإحساس بالحدِّ اللانهائي ويبدو أنها تضع حدا للافتراض الهائل المتعلق بتأمل السماء الزرقاء. بالتالي،حين قراءة صفحة كولريدج بناء على نزوعات هوائية، فلن نتأخر كي نكتشف بأن العين والذهن، يتخيَّلان معا، سماء زرقاء دون مقاومة؛ يحلمان بمادة لانهائية تنطوي على اللون ضمن كتلتها، دون تحقق إمكانية احتجازها رغم صورة الكتب القديمة عن القَدَح المقلوب.
من جهة ثانية، تنتهي صفحة كولريدج عند إشارة ثمينة جدا بخصوص مقاربة نفسية وميتافيزيقية للخيال :”رؤية السماء العميقة، في خضم مختلف الانطباعات، تقترب أكثر من إحساس معين. الإحساس بأنها شيء بصري، أو بالأحرى انصهار مطلق، وتآلف كلي بين الإحساس والنظر”.
يلزم تأمل معطى المظهر الخاص جدا للتماثل الهوائي. إنه انصهار تخلَّص من انطباعات الدفء الذي يحسه فؤاد ساخن حينما يغدو شغفه مماثلا لشغف العالم. تبخُّرٌ تخفف، نتيجة انبهاره بجزالة عطاء الأشكال والألوان، من حمولة انطباعات الثراء التي تكتنف فؤادا أرضيا” تعددت جوانبه”.
يميز هذا الفقد للكائن وسط سماء زرقاء، تفرّد عاطفي ببساطته الأولية تماما. يرفض ”خليط الألوان” والمزيج وكذا الوقائع.
هكذا، بوسعنا حقا التكلم عن “إحساس بسماء زرقاء”،يمكننا مقارنته مع ”الإحساس بالوردة الزرقاء الصغيرة”. في خضم هذه المقارنة، سيتجلى إحساس السماء الزرقاء مثل تمدُّد دون خط. لايوجد خاطف وسط سماء ذات زُرقة ناعمة. يصبح التماثل الهوائي، بفضل تفرُّده الأزرق، فوق مختلف الأحداث، والنزاعات، ثم الحكايات. لقد قيل كل شيء حينما ردَّدنا مع كولريدج، التالي :” إنه بالأحرى شعور، أكثر من كونه شيئا بَصَريا”.
السماء الزرقاء،التي يتأملها الخيال المادي، حالة عاطفية خالصة؛ عاطفة بدون موضوع. يمكنها تقديم رمز تسامٍ تجرد عن أيِّ مشروع،ومراوغ.
*أخيرا ستمنحنا الوثيقة الرابعة انطباعا رائعا جدا، عن التجريد المادي المتخيَّل، وكذا تغيّر للَّون العاطفي، يجعلنا ندرك حقا،عندما نطيح بالمجازات، أن زُرقة السماء على غير منوال مايتأتى لنا بواسطة النظر، لاواقعية، غير قابلة للإدراك الحسي، محمَّلة بحلم. نعتقد بأننا نرى سماء زرقاء. فجأة، الأخيرة من تنظر إلينا.نستلهم هذه الوثيقة التي تتميز بصفاء مذهل، من كتاب بول إيلوار ” Donner à voir”(ص 11) : ”وأنا صغير جدا، فتحت ذراعي للصفاء. بدا الأمر مجرد خفقان أجنحة وجهة سماء خلودي… لحظتها لم يعد بإمكاني السقوط ثانية”.
حياة من لايصادف صعوبة بعينها كي يحيا، وكذا رشاقة عدم الاهتمام بمجازفة السقوط، ثم الجوهر الذي يمتلك وحدة اللون والصفة، جميعها تجلت أمام الحالم الهوائي وفق يقينها المباشر.يتناول الشاعر هنا، النقاء مثل معطى مباشر للوعي الشعري.بالنسبة لخيالات أخرى، يعتبر النقاء منطقيا، وليس حدسيا أو فوريا. مما يقتضي صياغته وفق معالجة بطيئة.
على العكس، يحيا الشاعر الهوائي كلِّيا أولى خيوط الصباح الباكر، لأنه مدعو إلى النقاء الهوائي :” يحرضه لغز ينعدم معه أيَّ دور للأشكال. يتطلع نحو سماء بلا لون، تحظر الطيور والسحب.أغدو مملوكا لعيني الخيالين والعذراوين،غير آبهة بالعالم بل وذاتها. أمحو بقوة هادئة المرئي واللامرئي، ثم أنغمس داخل مِرآة بلا هيكل”.
سماء تلاشى لونها، لكنها لازالت زرقاء ، مِرآة بلا هيكل، ذات شفافية لانهائية، صارت منذئذ موضوعا كافيا بالنسبة لذات حالمة. إنها بوتقة انطباعات متباينة عن الحضور والإبعاد. سيكون بالتأكيد مفيدا دراسة التأمل الشارد،المعيار الجمالي الكلي لهذه الموضوعة المُبَسَّطة.
لنسرد باقتضاب بعض الملاحظات الميتافيزيقية.
هوامش :
مصدر المقالة :
Gaston Bachelard :Lair et Les songes .Essai sur l imagination du mouvement(1943).pp186-201.
(1) أشعار :إفراط المساء،قصيدة مهْمَلة.
(2) روني كروفيل : أنا وجسدي، ص 25
(3) مالارميه : لازورد.
(4) ترهف الكونتيسة دو نويل، سمعها لأصوات “شفافة”(الوجه الممتلئ دهشة، ص 96 )،مما جعلها تأْمل في :”جرس يرنّ من تلقاء ذاته، مثل شدو طائر، وكذا وردة تزهر، بفضل ظروف هوائية ناعمة”.
غاستون باشلار
ترجمة: سعيد بوخليط”يجب أن يكون في مقدورك التعبير عن الأشياء الأكثر نقاء”
(أندريه جيد، يوميات ،الأعمال الكاملة، ص 491)
وحدها زُرقة السماء، تقتضي دراسة طويلة حتى نحيط بقيم صورها العديدة، بحيث سنرى في غضون ذلك تجليا لمختلف أنماط الخيال المادي، تبعا للعناصر الجوهرية : للماء، والنار، والأرض، والهواء. بمعنى ثان، بوسعنا حين التركيز فقط على موضوع السماء الزرقاء، تصنيف الشعراء إلى أربعة أصناف :
* الذين يرون السماء الجامدة بمثابة سائل مائع، ينتعش جراء أقل سحابة.
*آخرون يعيشون السماء الزرقاء كشعلة هائلة. أزرق”يطبخ”، تقول الكونتيسة دو نويل (القِوى الأبدية ،ص 119 ).
*فريق ثالث يتأمل السماء مثل زُرقة متوطدة، قبَّة ترسم”لازورد متماسكا وصلبا” تضيف كذلك الكونتيسة دو نويل(ص 154) .
*أخيرا الذين يتقاسمون حقا الطبيعة الهوائية لزُرقة السماء.
طبعا، إلى جانب شعراء كبار يقتفون غريزيا آثار الإلهامات الأولية، سنكتشف بسهولة، بخصوص صورة مشتركة جدا، قوافي عدة أدركت باستمرار”زرقة السماء” كمفهوم، وليس كصورة أولى.تكابد شاعرية السماء، نتيجة هذا التوجيه،نفاية واسعة الأرجاء. في هذا الإطار، نفهم تقريبا دلالة احتقار ألفريد دي موسي حين نعته اللون الأزرق بلون أبله.ثم يصبح على الأقل، لدى الشعراء المتكلِّفين، لون براءة متبجِّحة : من هنا الياقوت الأزرق وكذا أزهار الكتَّان.
لايعني ذلك، حظرا لهذا النوع من الصور: لكن القصيدة أيضا بمثابة انخراط للكبير في الصغير، وكذا مشاركة للكبير من لدن الصغير.بيد أننا لانعيش ذلك، بمجرد تجاور بين اسمي السماء والأرض، بل نحتاج شاعرا كبيرا، كي يعثر ثانية، بكيفية ما، دون استنساخ أدبي، على سماء زرقاء عبر زهرة وسط الحقول.
لكن لنترك جانبا سجالا سهلا ضد الصور الخاطئة،والباهتة،قصد التطلع صوب تأمل واقعة أثارت انتباهي دائما.
إحدى المعطيات التي فاجأتني، خلال قراءتي لنصوص شعراء متنوعين جدا،تتمثل في ملاحظة مدى ندرة الصور حيث زُرقة السماء هوائية حقا. يعود ذلك، إلى ندرة الخيال الهوائي بحيث لم يرتق بعد نحو حضور خيالات النار، الأرض أو الماء.لكنه يتأتى أساسا من كون هذا الأزرق اللانهائي، البعيد، والهائل، وإن حظي بإحساس روح هوائية، يحتاج إلى أن يتجسَّد كي تتضمنه صورة أدبية.
تلمِّح كلمة أزرق، دون أن تبدي قط.تختلف كليا إشكالية صورة زُرقة السماء بين الرسام ثم الشاعر.فإذا شكَّلت بالنسبة للكاتب موضوعا شعريا وليس مجرد خلفية ،فلا يمكنها إذن الانتعاش سوى بين طيات مجاز.يجدر بالشاعر أن يجعلنا نحلم باللون وليس الاكتفاء بتأويله.
زُرقة السماء بسيطة للغاية مما يدفعنا للاعتقاد بعدم إمكانية النجاح في جعلها حالمة دون تجسيمها بداية. غير أننا نبالغ، إبان ذلك. هكذا، تصبح السماء الزرقاء صلبة جدا،فِجَّة جدا، سميكة جدا، حارقة جدا، لامعة جدا.غالبا، تنظر إلينا السماء بإمعان مفرط. لذلك، نضفي عليها كثيرا من المادة، والثبات،لأننا لم نهتد بالروح صوب حياة المادة الأولي.نجعل زُرقة السماء نَغَميا بجعله ”يهتز”مثل بلورة رنَّانة، بينما لاتعكس بالنسبة للأرواح الهوائية حقا سوى نغمة النَّفَس.
لذلك، وبناء على كثافة زائدة، كتبت الكونتيسة دو نويل(الهيمنة ص 203) : ”اليوم بدت السماء الزرقاء قوية جدا، تصيب بالعمى من يتأملها طويلا؛ تفقِد الأعصاب، تجعلكَ تدور مثل إعصار. مثقلة بمحالِق ذهبية، جليد ساخن، وكذا قطع ألماس حادة، مشعَّة، سهام، وذباب فضي”.
تكمن حسب اعتقادي السمة الهوائية حقا،ضمن وجهة أخرى.تستند في الواقع،على ديناميكية إزالة الطابع المادي. زُرقة السماء هوائية،حينما يتم الحلم بها مثل لون يشحب قليلا، شحوب يتوخى النعومة، نعومة نتخيَّلها وقد غدت ليِّنة بين الأصابع مثل مداعبة قماش ناعم، يقول بول فاليري :
تلك الحَبَّة الغامضة عند أقصى الأعالي(1)
ثم تقدم لنا السماء الزرقاء حِكْمة هدوئها وخفتها :
سماء فوق السقف،
زرقاء جدا، وهادئة للغاية !
يتحسَّر بول فيرلان من داخل سجنه، تحت وطأة ذكريات غير قابلة للصفح.ربما هدوء تكتنفه الكآبة، يحس الكائن الحالم أكثر من ذي قبل، بأنه لن يمتلك زُرقة السماء :”ماجدوى شعارات تسلّق أولي ومريح، مادمتُ لن أبلغ قط خلال هذا المساء ذاك الأزرق ، أقصد تحديدا زُرقة السماء”(2).
لكن عندما نجوب سُلَّم إزالة الطابع المادي عن زرقة السماء، بوسعنا حينئذ تلمّس فاعلية التأمل الشارد الهوائي. هكذا، ندرك بأن الأمر يتعلق بمماثلة الهوائي، انصهار الكائن الحالم بين طيات عالم مختلف قدر مايمكنه السعي، عالم أزرق وناعم،لانهائي وبدون شكل، قدر إمكان الجوهر.
هاهو السُلَّم السريع لأربعة وثائق، وحدها الوثيقة الرابعة، تكشف عن وجهة نظر هوائية محضة.
*– بداية وثيقة لستيفان مالارميه، بحيث يعيش الشاعر نتيجة ”سأم ثمين”وسط ”مستنقعات أثيرية”، ويكابد ”سخرية” سماء زرقاء.لقد اكتشف لازورد مفرط العدوانية يسعى إلى :
”أن يسدَّ بيد لا تكلّ أبدا، تلك الحفر الزرقاء الكبيرة التي تصنعها وقاحة طيور “.
لكن لازورد أقوى ، يجعل الأجراس تغني :
“وتكتسي روحي صوتا،
كي لايرعبني قط انتصاره الفظّ،
وينبعث المعدن الحي في أجراس إنجيلوس زرقاء ”(3) .
كيف لايمكننا الإحساس، في خضم هذه المنافسة بين لازورد والطائر، بأن الشاعر يتحمل سماء زرقاء صلبة جدا، تفرض أيضا على الحالم من خلال”انتصار لئيم”كثيرا من المادة؟ ولأن القارئ المتأثر بالشاعر مالارميه، سيحلم ربما بلازورد أقل عدوانية، مرهفا أكثر، أقل ارتجاجا، حيث يرنّ الجرس من تلقاء ذاته لوظيفته الهوائية، كليا هذه المرة ،دون استعادة قط لذاكرة شفته البرونزية(4).
*في سياق هذه المبارزة التي انطلقت بين زُرقة السماء ومختلف الموضوعات المترتبة عن ذلك، نحس غالبا جراء الجرح الذي تحدثه الأشياء بخصوص الأزرق النقي، بأننا نحيا داخل كينونتنا رغبة غريبة تتجه صوب كَمَال السماء الزرقاء. بوسعنا حسب نظرية للشكل الصاعد تبعا للإيقاع الكوني، القول بأن السماء الزرقاء بمثابة الموضوع المطلق. أضحت الحساسية البليغة، نحو ذاك الجرح، جيدة بما يكفي بين فقرات صفحة كتبها إميل زولا.ذلك أن سيرج موري، شخص غير آبه بماضيه، بل غير واعٍ بالمأساة الروحية التي يعيشها في مدينة بارادو، يراقب انطلاقا من فراشه إبان نقاهته السماء الزرقاء، الباعث الوحيد لتأمل شارد ماثل : ”كانت أمامه سماء شاسعة، لاشيء سوى الأزرق،أزرق بكيفية لانهائية؛ يغتسل في خضم ذلك من وجعه، مستسلما لهذه الرغبة، المماثلة لتهدهد خفيف، حيث يرتشف العذوبة، الصفاء، ثم الفتوة. فقط، الغصن الذي رأى ظله يتجاوز النافذة،كي يصل البحر الأزرق باخضرار شديد؛ سيتشكَّل معه تدفق قوي جدا، لحساسية مرضه الذي يتأذى من تلويث طيور السنونو المحلِّقة صوب الأفق”(إميل زولا، غلطة الكاهن موري، فاسكيل ص150 ) .
هنا أيضا، مثلما في مقاطع مالارميه، يبدو بأنَّ تحليق الطائر،من خلال سمته البليغة، يحدث جرحا بالنسبة لعالم يرغب في المحافظة على وحدة لونه البسيط، وحدة خِفَّة كائن يحتاج إلى بساطة وعذوبة النقاهة.يتمثل المبدأ الأساسي لهذا التأمل الشارد في الشعار التالي :” أنْ لا يؤزم شيء السماء الزرقاء !”.
الغصن، الطائر الذي يمر،حاجز التقاطع الحاد جدا الذي يزعج التأمل الشارد الهوائي، ويعيق انصهار الكائن وسط هذا الأزرق الكوني، النزيه…لكن صفحة زولا مختصرة. فالروائي، بتركيزه الكلي على خياله المتعلق بثراء الحسي،لاترضيه ضمن هذا الحدس، صورة أولية. صدفة، وقف زولا هنا على صور الخيال الهوائي.
* الوثيقة الثالثة ،ستكون بدورها، متداخلة جدا لاسيما بدايتها ،تُستحضر هنا كي أستخلص بشكل أفضل نقاء الوثيقة الرابعة :”تأخذ السماء، أمام العين، يقول صامويل كولريدج (أورده وترجمه جون شاربونتي في دراسته المعنونة ب”كولريدج المُسرنِم العظيم”)، شكل قَدَح مقلوب، وسط حوض ياقوت أزرق، منتهى جمال الشكل واللون.أما بالنسبة للفكر، فالسماء تعكس الضخامة. لكن العين تشعر، تقريبا، بقدرتها على الرؤية من خلالها، وتحس في هذا الإطار على نحو مبهم بانعدام أيِّ مقاومة. لا تختبر العين تحديدا الحسّ الذي تبعثه الأشياء الصلبة والمتناهية: تشعر بأن الاحتواء يكمن في سلطتها أمام اللامتناهي كي تجعله يسمو بما تراه”.
للأسف، تؤدي المقارنات مع القَدَح والياقوت الأزرق إلى ”تصلُّب” الإحساس بالحدِّ اللانهائي ويبدو أنها تضع حدا للافتراض الهائل المتعلق بتأمل السماء الزرقاء. بالتالي،حين قراءة صفحة كولريدج بناء على نزوعات هوائية، فلن نتأخر كي نكتشف بأن العين والذهن، يتخيَّلان معا، سماء زرقاء دون مقاومة؛ يحلمان بمادة لانهائية تنطوي على اللون ضمن كتلتها، دون تحقق إمكانية احتجازها رغم صورة الكتب القديمة عن القَدَح المقلوب.
من جهة ثانية، تنتهي صفحة كولريدج عند إشارة ثمينة جدا بخصوص مقاربة نفسية وميتافيزيقية للخيال :”رؤية السماء العميقة، في خضم مختلف الانطباعات، تقترب أكثر من إحساس معين. الإحساس بأنها شيء بصري، أو بالأحرى انصهار مطلق، وتآلف كلي بين الإحساس والنظر”.
يلزم تأمل معطى المظهر الخاص جدا للتماثل الهوائي. إنه انصهار تخلَّص من انطباعات الدفء الذي يحسه فؤاد ساخن حينما يغدو شغفه مماثلا لشغف العالم. تبخُّرٌ تخفف، نتيجة انبهاره بجزالة عطاء الأشكال والألوان، من حمولة انطباعات الثراء التي تكتنف فؤادا أرضيا” تعددت جوانبه”.
يميز هذا الفقد للكائن وسط سماء زرقاء، تفرّد عاطفي ببساطته الأولية تماما. يرفض ”خليط الألوان” والمزيج وكذا الوقائع.
هكذا، بوسعنا حقا التكلم عن “إحساس بسماء زرقاء”،يمكننا مقارنته مع ”الإحساس بالوردة الزرقاء الصغيرة”. في خضم هذه المقارنة، سيتجلى إحساس السماء الزرقاء مثل تمدُّد دون خط. لايوجد خاطف وسط سماء ذات زُرقة ناعمة. يصبح التماثل الهوائي، بفضل تفرُّده الأزرق، فوق مختلف الأحداث، والنزاعات، ثم الحكايات. لقد قيل كل شيء حينما ردَّدنا مع كولريدج، التالي :” إنه بالأحرى شعور، أكثر من كونه شيئا بَصَريا”.
السماء الزرقاء،التي يتأملها الخيال المادي، حالة عاطفية خالصة؛ عاطفة بدون موضوع. يمكنها تقديم رمز تسامٍ تجرد عن أيِّ مشروع،ومراوغ.
*أخيرا ستمنحنا الوثيقة الرابعة انطباعا رائعا جدا، عن التجريد المادي المتخيَّل، وكذا تغيّر للَّون العاطفي، يجعلنا ندرك حقا،عندما نطيح بالمجازات، أن زُرقة السماء على غير منوال مايتأتى لنا بواسطة النظر، لاواقعية، غير قابلة للإدراك الحسي، محمَّلة بحلم. نعتقد بأننا نرى سماء زرقاء. فجأة، الأخيرة من تنظر إلينا.نستلهم هذه الوثيقة التي تتميز بصفاء مذهل، من كتاب بول إيلوار ” Donner à voir”(ص 11) : ”وأنا صغير جدا، فتحت ذراعي للصفاء. بدا الأمر مجرد خفقان أجنحة وجهة سماء خلودي… لحظتها لم يعد بإمكاني السقوط ثانية”.
حياة من لايصادف صعوبة بعينها كي يحيا، وكذا رشاقة عدم الاهتمام بمجازفة السقوط، ثم الجوهر الذي يمتلك وحدة اللون والصفة، جميعها تجلت أمام الحالم الهوائي وفق يقينها المباشر.يتناول الشاعر هنا، النقاء مثل معطى مباشر للوعي الشعري.بالنسبة لخيالات أخرى، يعتبر النقاء منطقيا، وليس حدسيا أو فوريا. مما يقتضي صياغته وفق معالجة بطيئة.
على العكس، يحيا الشاعر الهوائي كلِّيا أولى خيوط الصباح الباكر، لأنه مدعو إلى النقاء الهوائي :” يحرضه لغز ينعدم معه أيَّ دور للأشكال. يتطلع نحو سماء بلا لون، تحظر الطيور والسحب.أغدو مملوكا لعيني الخيالين والعذراوين،غير آبهة بالعالم بل وذاتها. أمحو بقوة هادئة المرئي واللامرئي، ثم أنغمس داخل مِرآة بلا هيكل”.
سماء تلاشى لونها، لكنها لازالت زرقاء ، مِرآة بلا هيكل، ذات شفافية لانهائية، صارت منذئذ موضوعا كافيا بالنسبة لذات حالمة. إنها بوتقة انطباعات متباينة عن الحضور والإبعاد. سيكون بالتأكيد مفيدا دراسة التأمل الشارد،المعيار الجمالي الكلي لهذه الموضوعة المُبَسَّطة.
لنسرد باقتضاب بعض الملاحظات الميتافيزيقية.
هوامش :
مصدر المقالة :
Gaston Bachelard :Lair et Les songes .Essai sur l imagination du mouvement(1943).pp186-201.
(1) أشعار :إفراط المساء،قصيدة مهْمَلة.
(2) روني كروفيل : أنا وجسدي، ص 25
(3) مالارميه : لازورد.
(4) ترهف الكونتيسة دو نويل، سمعها لأصوات “شفافة”(الوجه الممتلئ دهشة، ص 96 )،مما جعلها تأْمل في :”جرس يرنّ من تلقاء ذاته، مثل شدو طائر، وكذا وردة تزهر، بفضل ظروف هوائية ناعمة”.