.
الحمد لله _قصة قصيرة
ابراهيم محمود
عدت من مدرستي قرب العصر، وكنت تعبا للغاية، فقد لعبت الكرة مع الأولاد في الحوش الواسع، وجريت كثيرا وكثيرا.
ألقيت بنفسي فوق فراشي. ودخلت أمي.
ـ قم أغتسل.
لم استطع حتي أن ارد عليها، فقد كان صدري يعلو ويهبط في عنف شديد.
اقتربت مني ووضعت يدها فوق رأسي.
قالت في خوف:
ـ حرارتك مرتفعة!
ثم وضعت يدها علي صدري، وتفاجأت أيضا لدقات صدري السريعة.
قالت في خوف أنها ستأخذني للطبيب.
وخفت من خوفها علي، فطلبت منها أن لا تفعل. وأن الأمر لن يتعدى دقائق قليلة ثم أقوم كـ "الشيطان" كما كانت تنعتني.
ابتسمت لي وقامت.
ـ سأعود لك بعد هذه الدقائق يا شيطاني الصغير.
حاولت أن أعتدل لكني لم استطع.
كان ألما فظيعا يضرب في جنبي تحت عضلة قلبي، ولم يكن يتوقف. بل يزيد بحيث لم أعد أستطيع احتماله.
تأوهت بصوت خافت كي لا تسمعني أمي، لكنها اقتحمت غرفتي فجأة وارتمت علي تفحصني في رعب.
ثم أطلقت صرخة أنتفض لها كياني.
ذهبنا للطبيب.
كان شابا ذو ذقن خفيفة.
قال لأمي:
ـ من الأفضل له أن يخرج، في المستشفى "كانتين" يستطيع أن يذهب له.
ناولتني أمي جنيهين، ثم خرجت.
لم أذهب للكانتين، بل أخذت أتمشي في المستشفى، وأحرص ألا أبتعد عن غرفة الطبيب.
كان العدد كثيرا جدا، أحسست أن كل الناس تعاني من أمراض، وأنه لا مكان للأصحاء في هذه الدنيا.
كانوا متفاوتي الأعمار، ومنهم من كان في مثل سني.
لم ألعب مع أحد أو أقترب من أحد، خوفا من أن يكون أحدهم مصابا بمرض خطير فينتقل لي.
وسمعت أمي تناديني.
مشينا سويا ولاحظت أنها واجمة. حاولت أن أداعب كفها التي تمسك بي في حرص، لكنها ابتسمت ابتسامة خفيفة.
قلت لها:
ـ ماذا قال الطبيب؟
نظرت لي في دهشة، ثم هزت رأسها، وقالت:
ـ لا شيء. تحتاج للراحة فقط.
ـ نعم أنا أحتاج للراحة. ولكن إلى متي؟
لم ترد. أعدت سؤالي، فقالت:
ـ تلزمك راحة طويلة بعض الشيء.
فقلت متهللا:
ـ هل لن أذهب للمدرسة؟
ردت علي الفور:
ـ ستذهب كل يوم لتتعلم. ولكن. لن تلعب مع أصدقائك.
قلت في خوف:
ـ ماذا؟
لم ترد مجددا.
ظللنا ماشيين حتي عدنا للبيت.
ودخلت غرفتي.
كان صدري يؤلمني من صعود السلم، وكنت متفاجئ من التغيرات التي تنبأني بها أمي. لقد ظلت صامتة طوال الوقت حتي ابلغتني في صرامة أنه لا لعب مع الأولاد. لا جري في الصالة ولا تنطيط فوق السرير. لا مشي كثير ولا حتي حمل أشياء ثقيلة.
كادت الدهشة والذعر أن يميتاني، وهي لم تمنحني حتي الفرصة للاعتراض.
كانت حزينة أكثر مني، وكنت ألمح دموعها تتساقط وتخفيها بكفها في سرعة.
أمسكت جنبي ورقدت متألما.
والغريبة أني نمت.
في الصباح كانت تلبسني الثياب ولم نتبادل كلمة. كررت أوامرها الجديدة في صرامة، وقالت أنها أتصلت بالمدرسين ليراقبوني.
وخرجت متبرما.
دعاني الأولاد للعب في الفسحة، لكني لم أفعل. جلست فوق حجر في الحوش أراقبهم، وهم يلعبون. كنت أريد مشاركتهم، لكن الوجع كان في جنبي لا زال. أتت الكرة إلى جواري، فناولتها لهم بيدي. لما أيقنت بأنني لم أعد أصلح للعب، قمت في يأس وحملت شنطتي.
في البيت.
قابلتني أمي بوجهها الحزين، فهمت ما بي من نظرة.
أتت خلفي ورقدت علي السرير تتصنع الضحك لي، ثم أخرجت ألعاب خفيفة من شنطة بلاستيكية، ظنت أنها قد تنسيني ألعابي التي تعتمد علي الجري والصياح. لكنني مللت من اللعب بها، ما أن لمستها أصابعي، ولويت وجهي نجو الحائط. ودون أرادة مني، نزلت دموعي.
قالت أمي أخيرا لي الحقيقة. أنني أصبحت مريضا بمرض في القلب. ويتحتم علي عدم الإنفعال بأي شيء، وألا عرضت نفسي لألم فظيع وربما الموت.
كانت تقطع شرحها بالبكاء أيضا، وأنا كنت مرعوبا من ما أسمع.
لم أكن لأتخيل حياتي جامدة بلا روح.
أن أحيا بلا حركة كعجوز في أخريات أيامه، وأن أمنع نفسي عن كل نشاط، وأن أكبح زمام نفسي في كل شيء ذلك أمر، ما كنت اطيقه وما كان يناسب طبيعتي أبدا.
خرجت من غرفتي، وتركتني لحالي من البكاء والعويل. زاد "النغز" في جنبي الأيسر. حاولت أن أتجاهله لكنني لم استطع. حرمني من النوم الهانئ السريع.
وفي المدرسة كنت وحيدا أتطلع للجميع.
والكل يتطلع إلى في رثاء، فقد شاع الخبر، وأصبح تختي الصغير مزارا من الطلبة والمدرسين، لكنه أيضا قد خلا ألا مني. لم يقبل أي من الأولاد أن يجلس إلى جواري. فاكتسبت وحدة جديدة تضاف إلى نصيبي من الحياة.
وفي الفسحة رأيتهم يشكلون فريقين، ولم ينقصهم إلا لاعب. وتطلعوا حولهم ليبحثوا عمن يشاركهم، فوجدوني أتجه نحوهم. قلت في تحد:
ـ سألعب معكم.
نظروا إلى بعضهم في دهشة، قالوا أن المدرسون حذروهم من حالتي الجديدة، لكنني عاندتهم بل وتوسلت إليهم. فلم أكن قد لمست الكرة بقدمي منذ شهر.
طلبوا أن أقف في المرمي، لكنني رفضت، صممت أن ألعب في الوسط معهم. وبالفعل لعبت. انطلقت فرحا أمارس مهارات في اللعب لم أتوقعها في، وجريت كما لم أكن أجري من قبل. حتي انهم تحمسوا لي، وصاروا يعتمدون علي في اللعب.
لكنني سقطت فجأة.
نعم سقطت فجأة، وأثرت في قلوبهم الرعب جميعا.
فللحظة واحدة دب نغز شديد في صدري، نغز لم يكن لي أن أتحمله أبدا، نغز كالسكين وربما أقوي.
سقطت، وكنت أريد أن أصرخ ألما، لكني لم أفعل.
فالتفوا حولي في رعب.
وفي البيت قالت أمي في صرامة، بعينيها الدامعتين:
ـ لا مفر. لقد طلبت من المدرسة أن تدرس هنا في البيت. وقد وافقوا.
ثم خرجت وأغلقت الباب.
تطلعت إلى الحائط.
هذه المرة لم أمنع نفسي من الصراخ والبكاء.
بدا علي أنني قد فهمت أخيرا المرحلة التي يجب أن أتعايش علي اساسها. مرحلة أنني مريض بالقلب، والمريض يحرم من الاستمتاع بالحياة.
فكرت في نصيبي من الحياة، وشكوت إلى الله ظلمه كونه اختارني أنا لهذا المرض ولم يختر غيري. وذكرت له في إصرار أكثر من عشرين شخص يستحقون المرض المؤلم أكثر مني.
ثم بكيت في النهاية بمنتهي الحرقة، بعدما تأكدت من وضعي الحالي والذي سيستمر للأبد.
كنت أعلم أن أمي في الخارج تبكي أيضا.
لكنني في النهاية لم أجد البكاء علاجا ناجعا لأي شيء، وأن محنتي لن تتأثر ببكائي مهما كان فصمت وتنهدت طويلا.
ثم وجدتني أهمس دون أن أدري: الحمد لله. مرددا جملة خطرت في ذهني من حيث لا أدري، واذا بي يخف من وجعي شيئا ما!
الحمد لله _قصة قصيرة
ابراهيم محمود
عدت من مدرستي قرب العصر، وكنت تعبا للغاية، فقد لعبت الكرة مع الأولاد في الحوش الواسع، وجريت كثيرا وكثيرا.
ألقيت بنفسي فوق فراشي. ودخلت أمي.
ـ قم أغتسل.
لم استطع حتي أن ارد عليها، فقد كان صدري يعلو ويهبط في عنف شديد.
اقتربت مني ووضعت يدها فوق رأسي.
قالت في خوف:
ـ حرارتك مرتفعة!
ثم وضعت يدها علي صدري، وتفاجأت أيضا لدقات صدري السريعة.
قالت في خوف أنها ستأخذني للطبيب.
وخفت من خوفها علي، فطلبت منها أن لا تفعل. وأن الأمر لن يتعدى دقائق قليلة ثم أقوم كـ "الشيطان" كما كانت تنعتني.
ابتسمت لي وقامت.
ـ سأعود لك بعد هذه الدقائق يا شيطاني الصغير.
حاولت أن أعتدل لكني لم استطع.
كان ألما فظيعا يضرب في جنبي تحت عضلة قلبي، ولم يكن يتوقف. بل يزيد بحيث لم أعد أستطيع احتماله.
تأوهت بصوت خافت كي لا تسمعني أمي، لكنها اقتحمت غرفتي فجأة وارتمت علي تفحصني في رعب.
ثم أطلقت صرخة أنتفض لها كياني.
ذهبنا للطبيب.
كان شابا ذو ذقن خفيفة.
قال لأمي:
ـ من الأفضل له أن يخرج، في المستشفى "كانتين" يستطيع أن يذهب له.
ناولتني أمي جنيهين، ثم خرجت.
لم أذهب للكانتين، بل أخذت أتمشي في المستشفى، وأحرص ألا أبتعد عن غرفة الطبيب.
كان العدد كثيرا جدا، أحسست أن كل الناس تعاني من أمراض، وأنه لا مكان للأصحاء في هذه الدنيا.
كانوا متفاوتي الأعمار، ومنهم من كان في مثل سني.
لم ألعب مع أحد أو أقترب من أحد، خوفا من أن يكون أحدهم مصابا بمرض خطير فينتقل لي.
وسمعت أمي تناديني.
مشينا سويا ولاحظت أنها واجمة. حاولت أن أداعب كفها التي تمسك بي في حرص، لكنها ابتسمت ابتسامة خفيفة.
قلت لها:
ـ ماذا قال الطبيب؟
نظرت لي في دهشة، ثم هزت رأسها، وقالت:
ـ لا شيء. تحتاج للراحة فقط.
ـ نعم أنا أحتاج للراحة. ولكن إلى متي؟
لم ترد. أعدت سؤالي، فقالت:
ـ تلزمك راحة طويلة بعض الشيء.
فقلت متهللا:
ـ هل لن أذهب للمدرسة؟
ردت علي الفور:
ـ ستذهب كل يوم لتتعلم. ولكن. لن تلعب مع أصدقائك.
قلت في خوف:
ـ ماذا؟
لم ترد مجددا.
ظللنا ماشيين حتي عدنا للبيت.
ودخلت غرفتي.
كان صدري يؤلمني من صعود السلم، وكنت متفاجئ من التغيرات التي تنبأني بها أمي. لقد ظلت صامتة طوال الوقت حتي ابلغتني في صرامة أنه لا لعب مع الأولاد. لا جري في الصالة ولا تنطيط فوق السرير. لا مشي كثير ولا حتي حمل أشياء ثقيلة.
كادت الدهشة والذعر أن يميتاني، وهي لم تمنحني حتي الفرصة للاعتراض.
كانت حزينة أكثر مني، وكنت ألمح دموعها تتساقط وتخفيها بكفها في سرعة.
أمسكت جنبي ورقدت متألما.
والغريبة أني نمت.
في الصباح كانت تلبسني الثياب ولم نتبادل كلمة. كررت أوامرها الجديدة في صرامة، وقالت أنها أتصلت بالمدرسين ليراقبوني.
وخرجت متبرما.
دعاني الأولاد للعب في الفسحة، لكني لم أفعل. جلست فوق حجر في الحوش أراقبهم، وهم يلعبون. كنت أريد مشاركتهم، لكن الوجع كان في جنبي لا زال. أتت الكرة إلى جواري، فناولتها لهم بيدي. لما أيقنت بأنني لم أعد أصلح للعب، قمت في يأس وحملت شنطتي.
في البيت.
قابلتني أمي بوجهها الحزين، فهمت ما بي من نظرة.
أتت خلفي ورقدت علي السرير تتصنع الضحك لي، ثم أخرجت ألعاب خفيفة من شنطة بلاستيكية، ظنت أنها قد تنسيني ألعابي التي تعتمد علي الجري والصياح. لكنني مللت من اللعب بها، ما أن لمستها أصابعي، ولويت وجهي نجو الحائط. ودون أرادة مني، نزلت دموعي.
قالت أمي أخيرا لي الحقيقة. أنني أصبحت مريضا بمرض في القلب. ويتحتم علي عدم الإنفعال بأي شيء، وألا عرضت نفسي لألم فظيع وربما الموت.
كانت تقطع شرحها بالبكاء أيضا، وأنا كنت مرعوبا من ما أسمع.
لم أكن لأتخيل حياتي جامدة بلا روح.
أن أحيا بلا حركة كعجوز في أخريات أيامه، وأن أمنع نفسي عن كل نشاط، وأن أكبح زمام نفسي في كل شيء ذلك أمر، ما كنت اطيقه وما كان يناسب طبيعتي أبدا.
خرجت من غرفتي، وتركتني لحالي من البكاء والعويل. زاد "النغز" في جنبي الأيسر. حاولت أن أتجاهله لكنني لم استطع. حرمني من النوم الهانئ السريع.
وفي المدرسة كنت وحيدا أتطلع للجميع.
والكل يتطلع إلى في رثاء، فقد شاع الخبر، وأصبح تختي الصغير مزارا من الطلبة والمدرسين، لكنه أيضا قد خلا ألا مني. لم يقبل أي من الأولاد أن يجلس إلى جواري. فاكتسبت وحدة جديدة تضاف إلى نصيبي من الحياة.
وفي الفسحة رأيتهم يشكلون فريقين، ولم ينقصهم إلا لاعب. وتطلعوا حولهم ليبحثوا عمن يشاركهم، فوجدوني أتجه نحوهم. قلت في تحد:
ـ سألعب معكم.
نظروا إلى بعضهم في دهشة، قالوا أن المدرسون حذروهم من حالتي الجديدة، لكنني عاندتهم بل وتوسلت إليهم. فلم أكن قد لمست الكرة بقدمي منذ شهر.
طلبوا أن أقف في المرمي، لكنني رفضت، صممت أن ألعب في الوسط معهم. وبالفعل لعبت. انطلقت فرحا أمارس مهارات في اللعب لم أتوقعها في، وجريت كما لم أكن أجري من قبل. حتي انهم تحمسوا لي، وصاروا يعتمدون علي في اللعب.
لكنني سقطت فجأة.
نعم سقطت فجأة، وأثرت في قلوبهم الرعب جميعا.
فللحظة واحدة دب نغز شديد في صدري، نغز لم يكن لي أن أتحمله أبدا، نغز كالسكين وربما أقوي.
سقطت، وكنت أريد أن أصرخ ألما، لكني لم أفعل.
فالتفوا حولي في رعب.
وفي البيت قالت أمي في صرامة، بعينيها الدامعتين:
ـ لا مفر. لقد طلبت من المدرسة أن تدرس هنا في البيت. وقد وافقوا.
ثم خرجت وأغلقت الباب.
تطلعت إلى الحائط.
هذه المرة لم أمنع نفسي من الصراخ والبكاء.
بدا علي أنني قد فهمت أخيرا المرحلة التي يجب أن أتعايش علي اساسها. مرحلة أنني مريض بالقلب، والمريض يحرم من الاستمتاع بالحياة.
فكرت في نصيبي من الحياة، وشكوت إلى الله ظلمه كونه اختارني أنا لهذا المرض ولم يختر غيري. وذكرت له في إصرار أكثر من عشرين شخص يستحقون المرض المؤلم أكثر مني.
ثم بكيت في النهاية بمنتهي الحرقة، بعدما تأكدت من وضعي الحالي والذي سيستمر للأبد.
كنت أعلم أن أمي في الخارج تبكي أيضا.
لكنني في النهاية لم أجد البكاء علاجا ناجعا لأي شيء، وأن محنتي لن تتأثر ببكائي مهما كان فصمت وتنهدت طويلا.
ثم وجدتني أهمس دون أن أدري: الحمد لله. مرددا جملة خطرت في ذهني من حيث لا أدري، واذا بي يخف من وجعي شيئا ما!