سر الدكتورة ماجدة
ناصر عراق
بجدية شديدة سأل بروفسير الفيزياء النووية في إحدى جامعات بريطانيا الطالبة المصرية الذكية التي حصلت على درجة الدكتوراه في التو، سألها: (لماذا تصرين على العودة إلى القاهرة؟)، فأجابت الدكتورة ماجدة بفخر واعتزاز: (لأنها بلدي، وأريد أن أخدمها بالعلم الذي اكتسبته هنا في بريطانيا)، فامتعض العالم الإنجليزي وقال: (ولكن مصر لا تمتلك أية مقومات تساعدها على المضي في التجارب النووية لا السلمية ولا العسكرية، وأنت موهوبة يا دكتورة، وعندنا في بريطانيا ستنفتح أمامك آفاق مدهشة لتطوير مهاراتك وإنجاز أبحاثك في الفيزياء النووية).
شكرته ابنة شبرا البلد، وقالت بثقة وعتاب: (يا أستاذي الفاضل... مَنْ لمصر إذا تركها أبناؤها المتميزون؟)، فابتسم الرجل وقال بجدية لا تخلو من حسرة: (إذن... فلتفعلي ما تشائين... مع أمنياتي لك بالتوفيق الدائم)، وهكذا غادرت السيدة المصرية الجليلة بريطانيا في أواخر ثمانينيات القرن الماضي وعادت إلى مصر لتواصل عملها في هيئة الطاقة الذرية بمقرها بمدينة إنشاص.
لكن مَنْ هي الدكتورة ماجدة؟ وما حكاياتها مع الفيزياء النووية؟ وهل اقتصر اهتمامها على العلم فقط، أم أنها أحبت الآداب والفنون، وقرأت في الجغرافيا والتاريخ؟ وكيف تألمت كثيرًا عندما اكتشفت أن المعاهدات السياسية المشبوهة قيدت الطموحات العلمية لمصر، فتابعت بحزن شديد أحوال بلدها وهي تتدهور من قرن إلى آخر؟!
إنها حكاية كفاح نادرة جديرة بالتدوين والتبجيل سأقصها عليكم حالا.
ولدت ماجدة في عام 1950 في منطقة شبرا البلد على أطراف القاهرة. ولدت لأسرة بسيطة ضمن ملايين الأسر الفقيرة التي كانت تمثل القوام الرئيسي للشعب المصري في نهايات عهد الملك فاروق، وكان أبوها عامل نسيج، لكنه تمتع بذكاء استثنائي وعشق لا نهائي للثقافة والآداب والعلوم، وهكذا دفع الرجل أبناءه إلى التعليم ورعاهم جميعًا حتى أنهوا دراساتهم الجامعية بتفوق.
ماجدة كانت الثالثة بعد شقيقين، ثم جاء بعدها أربعة أشقاء، تولت هي متابعة شؤونهم مع والدتها، وفي ظل ضنك الحياة وتعبها واصلت الطفلة الموهوبة تعليمها محققة درجات مرتفعة، حتى أنهت دراستها الجامعية، وواصلت مسيرتها العلمية نحو الدراسات العليا.
في عام 1976 تزوجت ماجدة من الدكتور رفعت راشد وهو زميل لها يعمل في هيئة الطاقة النووية، كان قد حصل على درجة الدكتوراه من إحدى جامعات ألمانيا، وقد شجعها هذا الزوج النبيل على استكمال دراستها بتفوق، ثم أنجبت ثلاثة أبناء هم إنجي ورشا وأحمد، الذين قدمت لهم عطر الحنان مصفى حتى تخرجوا جميعًا في كلية الصيدلة (بالمناسبة حصل أبناؤها على درجة 100% في امتحان الثانوية العامة)، ثم نالت كل من إنجي ورشا درجة الدكتوراه بعد ذلك.
تأثرت ماجدة كثيرًا بوالدها الذي كان يقرأ عليها شعر المتنبي وشوقي، ويرشدها إلى عبقرية أم كلثوم وعبد الوهاب، ويشرح لها، وهي ما زالت صبية، أفكار طه حسين وسلامة موسى، كما تأثرت أيضا بشقيقيها الأكبر منها المحاسب إبراهيم والمهندس فكري، اللذين احتضنا شقيقتهما الصغرى ومنحاها كل رعاية ممكنة، بعد أن بهرتهما بذكائها وتفوقها.
أما أصغر شقيقيها فقد تولت هي تربيتهما باعتبارها الأم الثانية لهما، فقد كانت أكبر منهما بثلاثة عشر عامًا وأحد عشر عامًا، ويذكر كل منهما الآن كيف كانت تشرح لهما دروس العلوم والعربي والتاريخ والجغرافيا واللغة الإنجليزية، كما كانت تنبههما إلى فنون الشعر وسحر أم كلثوم وتفسر لهما ما تقوله فيروز ونجاح سلام باللهجة اللبنانية المحببة.
فقدت الدكتورة ماجدة زوجها قبل 14 عامًا، فانكسر خاطرها، واعتصمت بأبنائها، لكن القلب لم يحتمل، فأصابه العطب، وهكذا أجرت عملية قلب مفتوح، وعادت إلى الحياة بشغف تقرأ وتطالع بعد أن تجاوزت الستين، وكانت حريصة الحرص كله على قراءة كل حرف أكتبه، وتعلق عليه بذكاء خارق.
في مساء 30 مارس الماضي (2016) اتصلت بها من دبي لأعرف رأيها كالعادة، فأبدت إعجابها بما قلته في برنامج على إحدى القنوات الفضائية عن مسلسلات رمضان، وطلبت مني سرعة النزول إلى مصر لتراني وأبنائي، وفي فجر تلك الليلة 31 مارس ماتت ماجدة فجأة وهي مستغرقة في النوم!
نسيت أن أخبرك أن الدكتورة ماجدة عبد الفتاح إبراهيم عراق، هي شقيقتي الكبرى وأمي الثانية!
* نشر هذا المقال في جريدة التحرير في مثل هذا اليوم من سنة 2016.
* صورة الدكتورة ماجدة وهي طالبة في مدرسة قليوب الثانوية بنات عام 1968.
ناصر عراق
بجدية شديدة سأل بروفسير الفيزياء النووية في إحدى جامعات بريطانيا الطالبة المصرية الذكية التي حصلت على درجة الدكتوراه في التو، سألها: (لماذا تصرين على العودة إلى القاهرة؟)، فأجابت الدكتورة ماجدة بفخر واعتزاز: (لأنها بلدي، وأريد أن أخدمها بالعلم الذي اكتسبته هنا في بريطانيا)، فامتعض العالم الإنجليزي وقال: (ولكن مصر لا تمتلك أية مقومات تساعدها على المضي في التجارب النووية لا السلمية ولا العسكرية، وأنت موهوبة يا دكتورة، وعندنا في بريطانيا ستنفتح أمامك آفاق مدهشة لتطوير مهاراتك وإنجاز أبحاثك في الفيزياء النووية).
شكرته ابنة شبرا البلد، وقالت بثقة وعتاب: (يا أستاذي الفاضل... مَنْ لمصر إذا تركها أبناؤها المتميزون؟)، فابتسم الرجل وقال بجدية لا تخلو من حسرة: (إذن... فلتفعلي ما تشائين... مع أمنياتي لك بالتوفيق الدائم)، وهكذا غادرت السيدة المصرية الجليلة بريطانيا في أواخر ثمانينيات القرن الماضي وعادت إلى مصر لتواصل عملها في هيئة الطاقة الذرية بمقرها بمدينة إنشاص.
لكن مَنْ هي الدكتورة ماجدة؟ وما حكاياتها مع الفيزياء النووية؟ وهل اقتصر اهتمامها على العلم فقط، أم أنها أحبت الآداب والفنون، وقرأت في الجغرافيا والتاريخ؟ وكيف تألمت كثيرًا عندما اكتشفت أن المعاهدات السياسية المشبوهة قيدت الطموحات العلمية لمصر، فتابعت بحزن شديد أحوال بلدها وهي تتدهور من قرن إلى آخر؟!
إنها حكاية كفاح نادرة جديرة بالتدوين والتبجيل سأقصها عليكم حالا.
ولدت ماجدة في عام 1950 في منطقة شبرا البلد على أطراف القاهرة. ولدت لأسرة بسيطة ضمن ملايين الأسر الفقيرة التي كانت تمثل القوام الرئيسي للشعب المصري في نهايات عهد الملك فاروق، وكان أبوها عامل نسيج، لكنه تمتع بذكاء استثنائي وعشق لا نهائي للثقافة والآداب والعلوم، وهكذا دفع الرجل أبناءه إلى التعليم ورعاهم جميعًا حتى أنهوا دراساتهم الجامعية بتفوق.
ماجدة كانت الثالثة بعد شقيقين، ثم جاء بعدها أربعة أشقاء، تولت هي متابعة شؤونهم مع والدتها، وفي ظل ضنك الحياة وتعبها واصلت الطفلة الموهوبة تعليمها محققة درجات مرتفعة، حتى أنهت دراستها الجامعية، وواصلت مسيرتها العلمية نحو الدراسات العليا.
في عام 1976 تزوجت ماجدة من الدكتور رفعت راشد وهو زميل لها يعمل في هيئة الطاقة النووية، كان قد حصل على درجة الدكتوراه من إحدى جامعات ألمانيا، وقد شجعها هذا الزوج النبيل على استكمال دراستها بتفوق، ثم أنجبت ثلاثة أبناء هم إنجي ورشا وأحمد، الذين قدمت لهم عطر الحنان مصفى حتى تخرجوا جميعًا في كلية الصيدلة (بالمناسبة حصل أبناؤها على درجة 100% في امتحان الثانوية العامة)، ثم نالت كل من إنجي ورشا درجة الدكتوراه بعد ذلك.
تأثرت ماجدة كثيرًا بوالدها الذي كان يقرأ عليها شعر المتنبي وشوقي، ويرشدها إلى عبقرية أم كلثوم وعبد الوهاب، ويشرح لها، وهي ما زالت صبية، أفكار طه حسين وسلامة موسى، كما تأثرت أيضا بشقيقيها الأكبر منها المحاسب إبراهيم والمهندس فكري، اللذين احتضنا شقيقتهما الصغرى ومنحاها كل رعاية ممكنة، بعد أن بهرتهما بذكائها وتفوقها.
أما أصغر شقيقيها فقد تولت هي تربيتهما باعتبارها الأم الثانية لهما، فقد كانت أكبر منهما بثلاثة عشر عامًا وأحد عشر عامًا، ويذكر كل منهما الآن كيف كانت تشرح لهما دروس العلوم والعربي والتاريخ والجغرافيا واللغة الإنجليزية، كما كانت تنبههما إلى فنون الشعر وسحر أم كلثوم وتفسر لهما ما تقوله فيروز ونجاح سلام باللهجة اللبنانية المحببة.
فقدت الدكتورة ماجدة زوجها قبل 14 عامًا، فانكسر خاطرها، واعتصمت بأبنائها، لكن القلب لم يحتمل، فأصابه العطب، وهكذا أجرت عملية قلب مفتوح، وعادت إلى الحياة بشغف تقرأ وتطالع بعد أن تجاوزت الستين، وكانت حريصة الحرص كله على قراءة كل حرف أكتبه، وتعلق عليه بذكاء خارق.
في مساء 30 مارس الماضي (2016) اتصلت بها من دبي لأعرف رأيها كالعادة، فأبدت إعجابها بما قلته في برنامج على إحدى القنوات الفضائية عن مسلسلات رمضان، وطلبت مني سرعة النزول إلى مصر لتراني وأبنائي، وفي فجر تلك الليلة 31 مارس ماتت ماجدة فجأة وهي مستغرقة في النوم!
نسيت أن أخبرك أن الدكتورة ماجدة عبد الفتاح إبراهيم عراق، هي شقيقتي الكبرى وأمي الثانية!
* نشر هذا المقال في جريدة التحرير في مثل هذا اليوم من سنة 2016.
* صورة الدكتورة ماجدة وهي طالبة في مدرسة قليوب الثانوية بنات عام 1968.