دورة حياة الخوف
يجلس القرفصاء في أحد الأركان البعيدة، منتظرا إشارة بالحركة والنشاط وبمجرد (تكة) صغيرة يقفز من مكانه ليصول ويجول في الأوردة والشرايين ويزحف نحو الأعصاب وكافة مراكز المخ بلا استثناء، ليصيبك بانتفاضة ورعشة وتشنج، وسرعان ما يتغير لون الجلد ويقشعر البدن وتنتصب شعيراته الدقيقة ويشحب الوجه وتبرق العينان وتجحظان وتتغير تركيبة الملامح بالكامل، ثم تنقلب الآية، وتجلس انت القرفصاء منتظراً منقذاً من ذلك الكائن العدواني.
إنه الخوف الذى كان مجرد فيروس خامد موجود بالفعل في تركيبة كل جسد شأنه شأن الدم والأوكسجين وأجهزة الجسم الحيوية، لكنه بالتغذية والاهتمام والرعاية ينمو ويتوغل، ثم يظهر أولا في أمور بسيطة لا تتعدى مثلا (الخوف من العقاب، الخوف من الكذب، الخوف من الإهمال..)، ويتطور الأمر إلى الأضخم والأضخم، ليصل إلى مرض وفوبيا، وبمجرد أن تمنحه الكارت الأخضر يخرج لك لسانه ويسيطر على حياتك حتى تشعر أنك وحيد، ولا منقذ ولا مفر، لابد من الاستسلام، ولن يدعك تفكر لحظة في أن تفلت منه، ولم يعترف بعد الآن بأنه طفيلي، وبأنك الراعي الوحيد له وسبب وجوده ونموه، وأنه بدونك يموت ويختفى.
لن يعترف الآن بوجودك وقدراتك، فقد سلبها منك وأدرك كلية أنك لن تحاول استعادتها، لأنه بكل بساطة أفقدك حس التحدي والمحاولة، فاطمأن قلبه وهدأ، لم تعد تشكل خطراً عليه، ولا تمثل جبهة هجوم ولا جبهة دفاع، أصبح هو السيد والقائد والمسيطر وألغى تماما كيانك، حتى أنه شل لسانك عن مناجاة الرب لإنقاذك والتعلق بحباله، وصار أشبه بملاك الموت الذى يحوم حولك وأنت بلا حول ولا قوة، ويبايعك على روحك وأنت معصوب الفكر والروح.
هكذا يقتلنا الخوف قتلا بطيئا بسكين بارد، فكلما فكرت في الموت استحضرته، في المرض استحضرته ليؤكد حكمة المثل الشهير (اللي يخاف من عفريت يطلع له) فهو يستشعر مدى اهتمامك وضعفك بأي شيء ويحشو به أحشائه ويتغذى عليه سريعا، لكى لا يمنحك الفرصة بمراجعة نفسك والتلهى عنه والانتصار عليه.
وطالما أنك لم تنتبه وتغوص في التفكير فيما تخاف منه فهو يكبر بداخلك ويلف شباكه حول رقبتك ويظل يتلذذ بأن يقبض روحك كل لحظة كلما ازداد خوفك، وسرعان ما يتحول إلى شجرة ترويها كل صباح لتثمر أزهاراً سوداء تلضمها كعقد فل ترتديها ليعبس وجهك وتحصل على لقب المكتئب البائس، ولا أحد ممن حولك يدرك ما يدور داخلك من دورة حياة الخوف التي لا تنتهي إلا بموتك سواء بيدك أو بإحكام قبضته عليك.