التاريخ في "قماش أسود" بين التذكُّر والنسيان!
2022-07-18
دعد ديب:
تتبدَّى العتبات النَّصيَّة التي يدخل بها السوري المغيرة الهويدي إلى عمله الأول "قماش أسود" الصادرة عن منشورات تكوين الكويتية لعام 2020، كنصٍّ موازٍ للمتن الروائي بكثافة وثِقَل المعنى الذي يضعنا المغيرة في أجوائه بادئاً من العنوان، ومثيراً الأسئلة المتلاحقة عن مقاصده: هل الأسود لون الحِداد؟ أم هو المناخ النفسي الكئيب؟ أم هي دلالة رمزية لظلام يعشِّش في الحنايا؟ أم علامة على مرحلة من الزمن ظالمة وظلماء؟ أم هي رمزية لفئة معينة من البشر؟!
قد تكون كلها مجتمعةً، ليأتي الغلاف ذو اللون الكامد لتأكيد الإشارة إلى المعنى، وليزيل أيَّ لَبْسٍ من الممكن أن يراود القارئ. فالغلاف الذي زُرِعَ فيه الكلاشينكوف أو السلاح الناري على ماكينة الخياطة كأنه يقول لنا إنَّ التاريخ يُنْسَج بهذا السلاح المدمِّر، ليُعَنْوِنَ فصوله بمفردة "النبش" عوضاً عن "الفصل" كنايةً عن نبشِه في تربة الأحداث أو في رَحِم الواقع، الواقع الذي سيُمْسي جزءاً من ذاكرة وتاريخ جموعٍ من البشر نزحت عن أوطانها، ولكن هل يجدر بنا أن نذكر كل شيء؟ تقول آسيا في استهلالية النبش الأول: "أفضل طريقة للنسيان هي التجاهل، القصص السيئة لا تُسْرَد".
وماذا نفعل إذا كانت القصص السيئة هي تاريخنا ومأساتنا، وماذا بعد؟! ماذا عن هذه البلاد التي تقذف أبناءها في لجة الموت وجحيم المنافي؟!
يقتطع صاحب "الحب لا يغادر البلاد" مرحلةً من مراحل أزمة السوريين عندما أحكمت داعش سيطرتها على مدينة الرّقَّة، ويضع المرحلة تحت المجهر في حرب الجميع ضد الجميع.
وبما أن الثيمة الأساسية للعمل هي تقصِّي آثار الحروب والاندفاعات الثورية والعنف الذي أخذ يعصف بالبلاد على فئة النساء تحديداً والإنسان بوجهٍ عام، فسينهض جدار السرد على لسان أنثى، هي نسرين الهاربة من بيئتها المواليَة التي أنكرت عليها انتماءها المعارض وارتباطها بشاب ينتمي لطائفة مغايرة، لتبدأ معها مسيرة العذاب والتشرُّد والدموع عندما يُخْتَطَف زوجُها من قِبَل جماعات متطرفة في الشمال السوري لتجد نفسها بين أهله في مدينة الرقة، التي ما لبثت أن وقعت تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية أو ما اصطُلِحَ على تسميته بـ"داعش".
بعد النفور الذي بدأت به علاقة البطلتين آسيا ونسرين، يتوطَّد إحساسٌ عميق بالألفة والثقة بينهما، تحديداً بعد أن هرب المؤذِّن وتركهما لمصيرهما بعد أن طُرِدَتْ داعش من الرقة، فالرعب العشوائي يغرس أنيابه في لحم الأحداث، خاصةً عندما تتورط النساء في أوهام عدَّة ليندرجنَ في لعبة الحرب عبر الوهم الأعظم "النساء المقاتلات"، الأمر الذي يُشْعِر آسيا بالمذلَّة والمهانة، كيف أن امرأة تعتقل امرأة أخرى وتقدر على إهانتها، يرصد الكاتب أحاسيس المرأة الخفيَّة في الحوار بين نسرين وآسيا.. "هل تمنيتِ أن تُصبحي رجلاً يوماً ما؟"، فتجيبها "لا.. صارت المرأة تمسك بندقية وتقاتل وتلوح بها في وجه امرأة مثلها".
للنزوح والتهجير حكاية أخرى، فعندما يغادر البيوتَ أهلُها تصبح تلك البيوت مطمعاً لكل أفّاقٍ وقاطع طريق، لا يُهِمُّ من هو، فأفعالهم تُسَمّيهم ناهبي بيوت وحرمات أمضى أصحابها زهرة أعمارهم في بنائها واقتناء أثاثها. الأسوء من هذا كله استعادة مفاهيم قروسطية كالأحقّيّة في السلب تحت ذريعة غنائم الحرب، ولكن ماذا عن أولئك الذين لم يُحاربوا؟ أولئك الذين لم يُسألوا عن رأيهم، وكل جريرتهم أنهم وُجِدوا في مكانٍ اعتُبِرَ معادياً لفئةٍ أخرى!
على لسان نسرين يجري التعبير "الشي اللي صار بالبلد" في الإشارة الغائمة لما حصل، فلا أحد يجرؤ على تسميَتِه وتوصيفه بدقّة؛ كثورة أو مؤامرة أو أزمة أو حرب، ليس بسبب اختلاف الرأي، وإنما بفعل الخوف الذي يحبس الأنفاس، ماذا لو تجرَّأَ ووصف الحالة بما يُخالِف اعتقاد من يقابله ويسيطر على الموقف؟! سيُصَنَّف فوراً في خانة الأعداء وتتالى عليه أصناف التنكيل والانتقام!
في ضجيج الموت المُقْبِل من كل حدبٍ وصوبٍ تقول نسرين "صرنا فُرجة.. ما بقيت دولة ما هبدتنا بصواريخها"! لم يبق أمامهم سوى النزوح، النزوح من المكان المؤقت بالنسبة لها، والتهجير بالنسبة لسواها، بعيداً عن القصف والبرد وقلة الموارد.
النزوح الذي أخذ مَنحيين: داخل البلاد من منطقة إلى أخرى، وخارج البلاد على أبواب السفارات والعيش على إحسان الإعانات والتبرعات حتى يقضي الله أمراً كان –وما زال- مجهولاً، بالإضافة لحالات غرق الهاربين من الموت على مرأى من العالم، وهي أكثر من أن تحصى. ورغم ذلك ثمة من يقول "يظلون بالغربة أحسن ما يرجعون ع الموت والذل" حيث تتجلَّى محنة الإنسان السوري في أقسى حالاتها.
كما يضيء الكاتب على الأنساق الثقافية الفاعلة في المجتمع، فلا يتجاهل الصفات الأصيلة في التعاطف والاحتواء وقبول الآخر بين النساء المستضعفات في عونِهنَّ لبعضهنَّ، والاحتضان العاطفي دون أي مصلحة حيث يتجلَّى تعاطف المظلوم مع المظلوم في رحلة الشقاء الطويلة التي تشي بها اللغة الرهيفة التي يُتقنها الكاتب "لثياب الأمهات رائحة مشتركة، مزيج من عرق الولادة والحليب والدموع، لاذعة وشهية في الوقت ذاته، تترسَّخ في أجسادهن بعد الولادة وتتعمَّق بالرحمة والسلام كلما تقدَّمن في العمر"، فالسلام النفسي الذي وجَدَتْهُ نسرين بين ذراعيْ "الحاجَّة زهرة" المرأة الكبيرة على كرسيِّها المتنقِّل لا يوازيه إحساسٌ في هذا الوضع غير الطبيعي الذي وجدت نفسها فيه. كما يظهر التعبير الإنساني عن اللهفة والتعلُّق والنأي عبر حضور الإرث الغنائي الشعبي المعبِّر، الذي ألقى على العمل ظلال الحزن الشفيف في الحب والفراق، ومنه:
"ماني يا يُمّه ماني، تايه والظّو اِهداني
شِفتْ الماني يگودونُه،
مَدْري الصُّوبْ يودُّونُه
يُمّه يا زين عيونُه،
عيونَ الخشفَ العطشانِ".
"قماش أسود".. الرواية التي فازت بجائزة غسان كنفاني للرواية العربية، بدورتها الأولى للعام 2022، أبرزت قدرة الكاتب المذهلة على تسليط الضوء على الصوت الأنثوي في الحرب، وإنطاق شخصيّاته بالتعبير الرقيق والحائر لنسرين، والصوت القوي والخبير لآسيا، كما أبرز نماذج متعددة للنساء؛ المرأة القادرة والمرأة الضحية والمرأة المستباحة والمرأة حاملة السلاح. وبشكل عام يسلِّط العمل الضوء على الناس المهمَّشين، الذين وقعت ويلات المِحَن عليهم دون أن يكون لهم فيها أيُّ وِزْر أو خطيئة. بالحيادية وحدها استطاع الكاتب أن يرى وجع الناس بعيداً عن التجييش والاصطفاف، إذْ ترك الوجع يتكلم وحسب، فأظهر عمقاً إنسانياً لافتاً في انتصاره للإنسان، وبأسلوب آسِر في وصْفِه للمواقف الحرجة المشْبَعَة بالألم والترقُّب يقول "لم أعد أرى سوى كتلة الهلع وهي تنفرط إلى حبّاتٍ متناثرة، قطع خرزٍ غامقة تنتثر دفعة واحدة من خيط مسبحة بطول تلك اللحظة تمضي لتفتح باباً في كوابيسها" لعله باب الأمل، باب الرجاء، باب الاستغاثة من كابوس ما زال مقيماً ومخيماً على الأحياء.
الليلُ ليلُ قطعةٍ من قماشٍ أسود، عباءة سوداء بحجم البلاد، التعبير الذي يلُفُّ البلد بأكمله هو الدلالة الرمزية لما تُريد الرواية قوْلَه - تلك البلاد التي غرقت في سوادها، السواد الذي يُطْبِق على كل شيء في مأساة الإنسان السوري.