المقالة النقدية في رواية حاكم، جنون ابن الهيثم، للروائي الدكتور يوسف زيدان
التناوب السردي والنزعة الخطابية في رواية حاكم, جنون ابن الهيثم للروائي يوسف زيدان
#إبراهيم_رسول
المصطلحُ النقدي يجبُ أن يُؤخذ من الإبداع الذي ولّده, أو ينبغي على النقد أن يأخذ نظرياته من الإبداع ذاته, كونه يصبُ في منبع الفكرة الابداعية ويشتغل في محورها, لأنَّ الفكرة النقدية, تطبق فرضياتها على النص الإبداعي. يعرفُ فورستر مصطلح التناوب بأنّه: مجموعة من المتتاليات السردية, يرويها نفس المعنى السردي أو مقتضيات أخرى. بحيث تعقب وحدات إحدى المتتاليات وحدات أخرى . هكذا عرف فورستر المصطلح, ولكننا نراهُ قد ترك ثغرة, إذ بقيَّ المصطلح بحاجةٍ إلى بيانِ كيفية هذا التناوب ومتى يحصل أو يتحقق, وما هي شروط نجاحه. وما نقصد بالمصطلح في بناء الرواية موضع الاجراء والتطبيق( حاكم أو جنون ابن الهيثم): هو التأرجح بين مدٍ وجزر في قصتين, تكون الأولى مكملة أو ممهدة للثانية, فتارةً يسردُ السارد لنا عن القصة الأولى, إذ فجأة ينتقل بنا إلى القصة الثانية وحدث جديد وفي أحيان يكون الخطاب غير الخطاب, تبعاً لشخصية المؤلف السارد والشخصية الراوية, هنا لمحنا الروائي, يبني عوالماً من كلِّ قصة, ويتخذ اسلوب الراوي العليم في بثِ خطابٍ سرديٍّ. إنَّ نزعةَ الخطابية التي يشتغل عليها الراوي تبثُ رسائل عديدة موّجهة, وهذه الصفة تأرجت بين ثنائي الراوي والشخصية.
قد تكون مفردة التأنيث ( الخطابية) لها دلالة نقصد بها دالاً معيناً في قراءتنا لرواية حاكم أو جنون ابن الهيثم للروائي المصري يوسف زيدان, الفكرةُ في تأنيث الكلمة هي: طريقة الخطاب الذي بثه الروائي عبر تقنيات انتقاها بطريقةٍ ممنهجة في الرواية. فالطريقة التي خاطب بها الكاتب هي تمثلُ النزوع المباشر أو المباشرة في السردية, قد يُعاب على الرواية, أنّها تشتغلُ على المباشرة, لكن هذا في المباشرة التي تكون مستهلكةً من أوّلِ قراءةٍ لها, أما الحالةُ في المباشرة الممزوجة بخيالٍ خصب, وهذا التناوبُ يخلقُ سردية مشوقة ولكن شريطةَ أن يكونَ هناك الخيال الفني الذي يهيمن على السردية. رواية حاكم تُصنف أنَّها روايةٌ خياليةٌ وفكريةٌ, فهي تشتغلُ على الخيال لِتُنظرَ فكرياً, الغرضُ ليس التسلية وقضاء ساعات لقصتين الأولى حديثة معاصرة والثانية تاريخية, ولا نكاد نُميز أيّ القصتين هي الأصل, ولكن يتضح أن الكاتب تذاكى وحاولَ أن يُوهمَ المتلقي, فهو مهدَ بالقصةِ المعاصرة التي كان بطلها راضي أو عبد الراضي ومعشوقته أمنية, هذا التمهيد والتشويق للوصول إلى القصةِ الأخرى. التضمينُ كان فنياً وبمهارة سردية مقصودة وواضحة. الذي يقرأ روايات الكاتب الدكتور يوسف زيدان, يلمحُ بكلِّ وضوحٍ, أنه مهتمٌ بالتراثِ كثيراً, لدرجةِ أنه يستمدُ منه المادة الخام لخياله السردي, الذي يصوغ رواياته فيه. هذا الاهتمامُ لم يكن اعتباطياً! بل هو اهتمام يرمي إلى غاية, وهذا الغاية يستدركها المتلقي عند قراءة العمل الأدبي كاملاً. الخطابُ المباشرُ لا يعني أن تُقدم المادة دفعة واحدة إلى المتلقي, التساؤل الذي يرد هنا, هل قدمَ السارد مادته كاملةً؟ الجواب, يكون بالنفي المطلق, فهو يقدمَ مادة قابلة للانفتاح على أوجهٍ كثيرة, وهذا الانفتاح يرجع إلى الاسلوبية البلاغية التي تهيمن على بنية النص عنده.
إنَّ كثيراً من النقاد, ينظرون إلى المباشرة على أنَّها طريقةٌ لا تطوّر السرد الروائيّ, ويرونَ أنّها تضرُ بالروايةِ في أحيانٍ كثيرة! هذا قد يكون نتيجة ما يرون من إبداع وجدوه يُباشر المتلقي, ولا يكاد يخفي عن القارئ معلومة إلاّ وقدمها كاملةً دونَ إضافة روح الفن فيها, وهذا ما وّلد ردةَ فعلٍ عند النقاد, لكن الاستثناءَ يوجد في مراتٍ قليلاتٍ وهذه المرات قد تُفند مزاعم القواعد التي قُعِدت وأصبحت قاعدة يُقاس عليها. تأتي رواية حاكم أو جنون ابن الهيثم على أنَّها من النوع الذي يكون الفنُ مهيمناً عليها.
شخصية عبد الراضي التي صغرها الروائي إلى ( راضي), تمثلُ الشخصية الرئيسة في القصة الأولى بالتناوب مع الشخصية التاريخية ( ابن الهيثم), التي تصف لنا عالماً واقعياً, ولعل الاشتغالَ على المخطوطات واكتشافها في بيت عبد الراضي, له من الاهمية ما لا يخفى, إذ أهميته هي دلالة الترابط بين الماضي في القصة الثانية, هذه تقنية تمثلت في هذه الرواية بصورةٍ قد تكون أكثر جلاءً من رواية فردقان بل وحتى رواية عزازيل, فالاشتغالُ هنا كان قريباً من التضمين المنطقي والمُبرر له, استحضار التاريخ يحتاجُ إلى عدةٍ ومعلومةٍ صحيحة مُنتقاة من جفاف الأرخنة, إذ شخصية عبد الراضي مثلت حلقةَ وصلٍ خياليٍّ.
يهتمُ الروائيّ بشخصية راضي ويمحورها على القصة الأولى, التي بدأ الرواية بها, شخصية راضي امتزجت فيها صفات شخصية متناقضة, وهذا التناقضُ قد يكون حالة من الارتباك التي عاشها الكاتب أو نزوة من نزوات الشخصية, لأن الروايةَ منسوجةٌ بخطابين اثنين, الأولى خطاب الكاتب ورؤاه والثاني خطاب ورؤية الشخصية, فالحيرةُ التي يجدها المتلقي في الرواية, هو لقرب الصوت الثنائي. التضمينُ في القصتين كان منساباً.
الذي غلبَ على هذه الرواية هو النزوع الخطابي في كثيرٍ من الأحيان, الخطابُ الذي يرسله الكاتب, لم يكن اعتباطياً أو حشراً في القصة, بل هذا كان من طبيعة الرواية التي اتخذت في الهيكل البنائي لها اسلوب الخطاب, الروائي لديه, خزينٌ معرفيٌ كثير, وطاقات متعددة من الاطلاع على علومٍ كثيرة, كعلم المخطوطات, الفقه, التاريخ وغيرها, هذه تعطي للمخيلة, أن تُمنطقَ الخيال, أو ما يُمكن أن أسميه ( عقلنة الخيال), هذه العقلانية مردها الكم الذي تختزنه ذاكرة الكاتب, فيُبث الخطاب بانشغالٍ عقليٍ, والذي جعل من الرواية حمالة أوجه تأويلية كثيرة هو هذا النزوع العقلاني أو عقلنة الخيال السردي, فأنت لا تقرأ قصة جامدة.
بعض الروايات تكون مُملة, وهذا المللُ الذي يُصيب القارئ, يرجعُ إلى عواملَ كثيرة, قد يكون وعي القارئ أحد تلك العوامل, لكننا سنركز على المبدع ( المرسل) ونترك القارئ باعتباره ( مُستلم), لغة الرواية كانت أنيقة, وفنية, تقترب من لغة الشعر في أحيانٍ كثيرة, فإذا تجاوزنا اللغة, سنصادف السرد أو تقنيات السرد, الأحداث كثيرة, وقد يكون بعضها لا يستحق السرد, إلا أنّ للكاتب أسلوبه الخاص, ولكن كثرة الأحداث وتفاعل الشخصيات مع تلك الأحداث البسيطة, ولّدَ حالة من الملل الذي يعتور المُستقبل, يسردُ الروائي أحداثاً كثيرة, اعتماداً على قدرته التخيلية ودرايته في صناعة وتطوير الأحداث, ولو قرأنا لماركيز لوجدنا الملل يصيبنا من أول الصفحات, فالتساؤل الذي يتبادر إلى الذهن, هل يتعمد الروائي هذا الاسلوب؟ لكن, يوسف زيدان يحاولُ أن يدع اللغة الفنية تقرب السرد إلى المتلقي, وتُبعد عنه الملل والصعوبة التي تُعكر صفو القارئ.
لغة التناوب التي اشتغل عليها السارد, كانت تسير بين شدٍ وجذب, بين الراوي العليم الذي يريد أن يجعل صوته أعلى الأصوات, وبين الراوي الداخلي ( الشخصية) , هذا التناوب وفرَ الانفتاح والتعدد بين وجهات النظر المعرفية, إذ لكل شخصية خلفياتها المعرفية التي ترتكز عليها, فكان السرد سرد أفكار وليس حكايات فحسب.
التساؤل الذي يلحُ في معرض الحديث عن التناوب السردي, هو الغاية من وراء الاسلوب التناوبي, الذي يُعد من أعقد الأساليب وأكثرها صعوبةً, إذ يحتاج إلى مهارات كثيرة, لكن هذه المهارات قد تجاوزها الروائي في هذا العمل. نعم, اسلوب التناوب هو الأفضل لعمل من هكذا نوع, ولأن القصة الأولى تحتاج إلى ثانية مكملة لها , مشابها لها, أو قد تكون الثانية بحاجة إلى قصة صغرى تكون ممهدة لها, القارئ يحتاج من السارد العديد من المعلومات التي تمنطق الأشياء التي وردت في السرد, الملكةً كانت مُلهمة بأحداثٍ كثيرة, وقد يكون السارد ألهمَ شخصيته بعض إلهامه, وهذا ما نجده من طبيعة العلاقة بين الاستاذ الذي حفزَ في نفسية الطالب ( راضي), حب المخطوطات وقيمتها المعرفية والحضارية, فهي تعني الكثير للراوي الخارجي والراوي الداخلي , الذي كان هو المؤلف نفسه, التناوبُ السرديُّ كان حالة عامة في الرواية, إذ نلمح الروائيّ, يتناوب حتى في الخطاب الفكري الذي يُطلقه وخطاب الشخصية الرئيسة, فمثلاً يقول في صفحة 350: ورحم اللهُ ابنَ الهيثم, ورحم الله جميع المسلمين والنصارى واليهود وأهل المِلل والمذاهب والديانات. هذا القولُ؛ هو تنظيرٌ فكريٌ عبر خطابٍ واضح الرسالة, وهذه الصفة أي الشمولية في التسامح والذوبان في الآخر أو قبوله, صفة غالبة أو موجودة في سرديات الروائي يوسف زيدان, هذا التنوعُ هو إحدى الرسائل التي بثها الخطاب الروائي, بالتناوب بين المؤلف والشخصية الراوية. فكرةُ التناوب أعطت المسوغ للاستراحة في كثرة الأصوات الناطقة, حتى لا يستشعر المتلقي بهذه النزعة التي تسبب الكسل والخمول في التلقي.
تعتبرُ هذه الرواية أقرب إلى رواية الوعي, أو أقرب إلى الرواية التي تشتغلُ على إرسالِ خطابٍ فكريٍّ, لأنّ الطريقة التي صاغها السارد في بناء النص, لم تكن تعنى بالتخييل لذاته, بل كانت ترمي إلى ما بعده, إذ وردت في النص عبر صورٍ كثيرة أو مواقف متعددة, وهذه الصفات المتولدة تجعل من النص السردي, ينفتحُ على قراءاتٍ كثيرة, وكلّ قراءة لها وجه من أوجه القراءة العامة.
#إبراهيم_رسول
التناوب السردي والنزعة الخطابية في رواية حاكم, جنون ابن الهيثم للروائي يوسف زيدان
#إبراهيم_رسول
المصطلحُ النقدي يجبُ أن يُؤخذ من الإبداع الذي ولّده, أو ينبغي على النقد أن يأخذ نظرياته من الإبداع ذاته, كونه يصبُ في منبع الفكرة الابداعية ويشتغل في محورها, لأنَّ الفكرة النقدية, تطبق فرضياتها على النص الإبداعي. يعرفُ فورستر مصطلح التناوب بأنّه: مجموعة من المتتاليات السردية, يرويها نفس المعنى السردي أو مقتضيات أخرى. بحيث تعقب وحدات إحدى المتتاليات وحدات أخرى . هكذا عرف فورستر المصطلح, ولكننا نراهُ قد ترك ثغرة, إذ بقيَّ المصطلح بحاجةٍ إلى بيانِ كيفية هذا التناوب ومتى يحصل أو يتحقق, وما هي شروط نجاحه. وما نقصد بالمصطلح في بناء الرواية موضع الاجراء والتطبيق( حاكم أو جنون ابن الهيثم): هو التأرجح بين مدٍ وجزر في قصتين, تكون الأولى مكملة أو ممهدة للثانية, فتارةً يسردُ السارد لنا عن القصة الأولى, إذ فجأة ينتقل بنا إلى القصة الثانية وحدث جديد وفي أحيان يكون الخطاب غير الخطاب, تبعاً لشخصية المؤلف السارد والشخصية الراوية, هنا لمحنا الروائي, يبني عوالماً من كلِّ قصة, ويتخذ اسلوب الراوي العليم في بثِ خطابٍ سرديٍّ. إنَّ نزعةَ الخطابية التي يشتغل عليها الراوي تبثُ رسائل عديدة موّجهة, وهذه الصفة تأرجت بين ثنائي الراوي والشخصية.
قد تكون مفردة التأنيث ( الخطابية) لها دلالة نقصد بها دالاً معيناً في قراءتنا لرواية حاكم أو جنون ابن الهيثم للروائي المصري يوسف زيدان, الفكرةُ في تأنيث الكلمة هي: طريقة الخطاب الذي بثه الروائي عبر تقنيات انتقاها بطريقةٍ ممنهجة في الرواية. فالطريقة التي خاطب بها الكاتب هي تمثلُ النزوع المباشر أو المباشرة في السردية, قد يُعاب على الرواية, أنّها تشتغلُ على المباشرة, لكن هذا في المباشرة التي تكون مستهلكةً من أوّلِ قراءةٍ لها, أما الحالةُ في المباشرة الممزوجة بخيالٍ خصب, وهذا التناوبُ يخلقُ سردية مشوقة ولكن شريطةَ أن يكونَ هناك الخيال الفني الذي يهيمن على السردية. رواية حاكم تُصنف أنَّها روايةٌ خياليةٌ وفكريةٌ, فهي تشتغلُ على الخيال لِتُنظرَ فكرياً, الغرضُ ليس التسلية وقضاء ساعات لقصتين الأولى حديثة معاصرة والثانية تاريخية, ولا نكاد نُميز أيّ القصتين هي الأصل, ولكن يتضح أن الكاتب تذاكى وحاولَ أن يُوهمَ المتلقي, فهو مهدَ بالقصةِ المعاصرة التي كان بطلها راضي أو عبد الراضي ومعشوقته أمنية, هذا التمهيد والتشويق للوصول إلى القصةِ الأخرى. التضمينُ كان فنياً وبمهارة سردية مقصودة وواضحة. الذي يقرأ روايات الكاتب الدكتور يوسف زيدان, يلمحُ بكلِّ وضوحٍ, أنه مهتمٌ بالتراثِ كثيراً, لدرجةِ أنه يستمدُ منه المادة الخام لخياله السردي, الذي يصوغ رواياته فيه. هذا الاهتمامُ لم يكن اعتباطياً! بل هو اهتمام يرمي إلى غاية, وهذا الغاية يستدركها المتلقي عند قراءة العمل الأدبي كاملاً. الخطابُ المباشرُ لا يعني أن تُقدم المادة دفعة واحدة إلى المتلقي, التساؤل الذي يرد هنا, هل قدمَ السارد مادته كاملةً؟ الجواب, يكون بالنفي المطلق, فهو يقدمَ مادة قابلة للانفتاح على أوجهٍ كثيرة, وهذا الانفتاح يرجع إلى الاسلوبية البلاغية التي تهيمن على بنية النص عنده.
إنَّ كثيراً من النقاد, ينظرون إلى المباشرة على أنَّها طريقةٌ لا تطوّر السرد الروائيّ, ويرونَ أنّها تضرُ بالروايةِ في أحيانٍ كثيرة! هذا قد يكون نتيجة ما يرون من إبداع وجدوه يُباشر المتلقي, ولا يكاد يخفي عن القارئ معلومة إلاّ وقدمها كاملةً دونَ إضافة روح الفن فيها, وهذا ما وّلد ردةَ فعلٍ عند النقاد, لكن الاستثناءَ يوجد في مراتٍ قليلاتٍ وهذه المرات قد تُفند مزاعم القواعد التي قُعِدت وأصبحت قاعدة يُقاس عليها. تأتي رواية حاكم أو جنون ابن الهيثم على أنَّها من النوع الذي يكون الفنُ مهيمناً عليها.
شخصية عبد الراضي التي صغرها الروائي إلى ( راضي), تمثلُ الشخصية الرئيسة في القصة الأولى بالتناوب مع الشخصية التاريخية ( ابن الهيثم), التي تصف لنا عالماً واقعياً, ولعل الاشتغالَ على المخطوطات واكتشافها في بيت عبد الراضي, له من الاهمية ما لا يخفى, إذ أهميته هي دلالة الترابط بين الماضي في القصة الثانية, هذه تقنية تمثلت في هذه الرواية بصورةٍ قد تكون أكثر جلاءً من رواية فردقان بل وحتى رواية عزازيل, فالاشتغالُ هنا كان قريباً من التضمين المنطقي والمُبرر له, استحضار التاريخ يحتاجُ إلى عدةٍ ومعلومةٍ صحيحة مُنتقاة من جفاف الأرخنة, إذ شخصية عبد الراضي مثلت حلقةَ وصلٍ خياليٍّ.
يهتمُ الروائيّ بشخصية راضي ويمحورها على القصة الأولى, التي بدأ الرواية بها, شخصية راضي امتزجت فيها صفات شخصية متناقضة, وهذا التناقضُ قد يكون حالة من الارتباك التي عاشها الكاتب أو نزوة من نزوات الشخصية, لأن الروايةَ منسوجةٌ بخطابين اثنين, الأولى خطاب الكاتب ورؤاه والثاني خطاب ورؤية الشخصية, فالحيرةُ التي يجدها المتلقي في الرواية, هو لقرب الصوت الثنائي. التضمينُ في القصتين كان منساباً.
الذي غلبَ على هذه الرواية هو النزوع الخطابي في كثيرٍ من الأحيان, الخطابُ الذي يرسله الكاتب, لم يكن اعتباطياً أو حشراً في القصة, بل هذا كان من طبيعة الرواية التي اتخذت في الهيكل البنائي لها اسلوب الخطاب, الروائي لديه, خزينٌ معرفيٌ كثير, وطاقات متعددة من الاطلاع على علومٍ كثيرة, كعلم المخطوطات, الفقه, التاريخ وغيرها, هذه تعطي للمخيلة, أن تُمنطقَ الخيال, أو ما يُمكن أن أسميه ( عقلنة الخيال), هذه العقلانية مردها الكم الذي تختزنه ذاكرة الكاتب, فيُبث الخطاب بانشغالٍ عقليٍ, والذي جعل من الرواية حمالة أوجه تأويلية كثيرة هو هذا النزوع العقلاني أو عقلنة الخيال السردي, فأنت لا تقرأ قصة جامدة.
بعض الروايات تكون مُملة, وهذا المللُ الذي يُصيب القارئ, يرجعُ إلى عواملَ كثيرة, قد يكون وعي القارئ أحد تلك العوامل, لكننا سنركز على المبدع ( المرسل) ونترك القارئ باعتباره ( مُستلم), لغة الرواية كانت أنيقة, وفنية, تقترب من لغة الشعر في أحيانٍ كثيرة, فإذا تجاوزنا اللغة, سنصادف السرد أو تقنيات السرد, الأحداث كثيرة, وقد يكون بعضها لا يستحق السرد, إلا أنّ للكاتب أسلوبه الخاص, ولكن كثرة الأحداث وتفاعل الشخصيات مع تلك الأحداث البسيطة, ولّدَ حالة من الملل الذي يعتور المُستقبل, يسردُ الروائي أحداثاً كثيرة, اعتماداً على قدرته التخيلية ودرايته في صناعة وتطوير الأحداث, ولو قرأنا لماركيز لوجدنا الملل يصيبنا من أول الصفحات, فالتساؤل الذي يتبادر إلى الذهن, هل يتعمد الروائي هذا الاسلوب؟ لكن, يوسف زيدان يحاولُ أن يدع اللغة الفنية تقرب السرد إلى المتلقي, وتُبعد عنه الملل والصعوبة التي تُعكر صفو القارئ.
لغة التناوب التي اشتغل عليها السارد, كانت تسير بين شدٍ وجذب, بين الراوي العليم الذي يريد أن يجعل صوته أعلى الأصوات, وبين الراوي الداخلي ( الشخصية) , هذا التناوب وفرَ الانفتاح والتعدد بين وجهات النظر المعرفية, إذ لكل شخصية خلفياتها المعرفية التي ترتكز عليها, فكان السرد سرد أفكار وليس حكايات فحسب.
التساؤل الذي يلحُ في معرض الحديث عن التناوب السردي, هو الغاية من وراء الاسلوب التناوبي, الذي يُعد من أعقد الأساليب وأكثرها صعوبةً, إذ يحتاج إلى مهارات كثيرة, لكن هذه المهارات قد تجاوزها الروائي في هذا العمل. نعم, اسلوب التناوب هو الأفضل لعمل من هكذا نوع, ولأن القصة الأولى تحتاج إلى ثانية مكملة لها , مشابها لها, أو قد تكون الثانية بحاجة إلى قصة صغرى تكون ممهدة لها, القارئ يحتاج من السارد العديد من المعلومات التي تمنطق الأشياء التي وردت في السرد, الملكةً كانت مُلهمة بأحداثٍ كثيرة, وقد يكون السارد ألهمَ شخصيته بعض إلهامه, وهذا ما نجده من طبيعة العلاقة بين الاستاذ الذي حفزَ في نفسية الطالب ( راضي), حب المخطوطات وقيمتها المعرفية والحضارية, فهي تعني الكثير للراوي الخارجي والراوي الداخلي , الذي كان هو المؤلف نفسه, التناوبُ السرديُّ كان حالة عامة في الرواية, إذ نلمح الروائيّ, يتناوب حتى في الخطاب الفكري الذي يُطلقه وخطاب الشخصية الرئيسة, فمثلاً يقول في صفحة 350: ورحم اللهُ ابنَ الهيثم, ورحم الله جميع المسلمين والنصارى واليهود وأهل المِلل والمذاهب والديانات. هذا القولُ؛ هو تنظيرٌ فكريٌ عبر خطابٍ واضح الرسالة, وهذه الصفة أي الشمولية في التسامح والذوبان في الآخر أو قبوله, صفة غالبة أو موجودة في سرديات الروائي يوسف زيدان, هذا التنوعُ هو إحدى الرسائل التي بثها الخطاب الروائي, بالتناوب بين المؤلف والشخصية الراوية. فكرةُ التناوب أعطت المسوغ للاستراحة في كثرة الأصوات الناطقة, حتى لا يستشعر المتلقي بهذه النزعة التي تسبب الكسل والخمول في التلقي.
تعتبرُ هذه الرواية أقرب إلى رواية الوعي, أو أقرب إلى الرواية التي تشتغلُ على إرسالِ خطابٍ فكريٍّ, لأنّ الطريقة التي صاغها السارد في بناء النص, لم تكن تعنى بالتخييل لذاته, بل كانت ترمي إلى ما بعده, إذ وردت في النص عبر صورٍ كثيرة أو مواقف متعددة, وهذه الصفات المتولدة تجعل من النص السردي, ينفتحُ على قراءاتٍ كثيرة, وكلّ قراءة لها وجه من أوجه القراءة العامة.
#إبراهيم_رسول