قراءة في كتاب إيديولوجيا ذاكرة السرد العراقي للناقدة أشواق اشواق النعيمي
#إبراهيم_رسول
النقدُ عمليةٌ معرفيةٌ، إذ يحتاجُ إلى عقلٍ وتفكيرٍ, يقرأ النص الإبداعيّ قراءة جوّانية أو باطنية. ولمّا كان كذلك، نجدُ أن نقدةَ الأدب، الذين يقرؤون النص بوعيٍ, يكادون أن يكونوا قلّة قليلة وفي أحيانٍ كثيرة هذه الفئة تكون نادرةً .
الجهدُ النقديُ غير الجهد الإبداعي، على الرغمِ من أنَّهما في عالمٍ واحدٍ أو مجالٍ واحد. أن تُمارسَ النقدَ لهيَ عمليةٌ ذهنية في المقام الأول, وهذه الجهود الذهنية لا تعتمد الاعتباطية في القراءة فحسب, وهذا ما اشتغلت عليه الناقدة, وفقَ رؤية تتفق بصورةٍ قريبة من الغاية التي كان يقف النص خلفها, فالطريقة التي وضعتها منهجاً نقدياً، تمارس نقودها على بنية النص، الناقدة تستبطن النص وتجري عليه التطبيقات.
القراءةُ الباطنيةُ أو ما نسميها ( مجازاً) الجوانية، هي قراءةٌ تقرأ باطن الباطن للنص، ومعرفة الأوجه الكثيرة التي يُمكن أن يتحملها التأويل في ذات النص.
كثيرةٌ هي الأعمال الإبداعية التي صارت تشتغلُ على الفكر، وتتموضع فيه, وتكون الثيمة الرئيسة تعالج القضايا الفكرية أو الايديولوجية، ومن هذه الأعمال كان هناك واحداً وعشرينَ عيّنةً، اشتغلت عليها الناقدة العراقية أشواق النعيمي في كتابها الذي عنونته ( إيديولوجيا ذاكرة السرد الروائي العراقي) الصادر عن دار عدنان للطباعة والنشر والتوزيع في سنة 2016.
يمثلُ العنوانُ الطريقة التي ستجري الناقدة نقودها على تلك العينات،. فالعنوانُ ليس عتبة فحسب، بل هو الرؤية أو الزاوية التي سيدور البحث النقدي ( تطبيقاً إجرائياً) فيها.
الاهتمامُ بأدلجةِ النص، جعلَ الأديب ينشغلُ بصراع الأفكار من حوله، وكيف يكونُ الصراع محتدماً بين هذه التيارات المختلفة، فظهرت الرواية مهتمة بقضايا الفكر، وكثيرة هي الروايات التي جعلت من الأدلجة ثيمة مركزية لها.
تسلطُ الناقدة في كتابها على تلك الروايات، متخذة المنهج البنيوي، المنهج الذي ستطبقه على العينات التي انتقتها، وعللت هذا الاختيار بقولها : ومن منطلق التعاطي الفاعل مع النص الروائي المستحدث، كان لا بدَّ من تقديم قراءة نقدية واعية لمستجدات الواقع المتعالق والجنس الروائي وفق منهج يعيد تشكيل النص داخل إطار الرؤية الكونية، لذا وقع اختياري على المنهج البنيوي التكويني الذي يسمح بتفكيك البنى السردية وتفسيرها بإدماجها ضمن بنى اجتماعية أعم وأوسع. هذا القولُ الذي مثلَ أهميةً كبيرة للمتلقي، لمعرفة المنهج الذي سلكته الناقدة وطبقت الإجراءات النقدية الخاصة بها على مجموع ما انتقت من عيّنات.
أدلجة النص ، هي حاجةُ العصر الحديث، الذي تموجُ فيه التيارات الكثيرة، لعلَّ الصراع يمثل الحالة الطبيعة لتلك الإيدولوجيات.
الناقدةُ كانت تستبطن النص، وتلج إلى عوالمه التأويلية، فهي تعطي تصوراً يتقارب في كثيرٍ من الأحيان مع وجهة المُبدع. ولعل المثالَ الأقرب على هذا، هو ما طبقته في قراءتها في رواية ( وحدها شجرة الرمان) للروائي سنان أنطوان، إنها حللت عنوان ودلالة العنوان ( الشجرة) إذ تقول: يعد عنوان الرواية ( وحدها شجرة الرمان) أول الإشارات الرمزية التي تحتمل الكثير من التأويل، تلك الشجرة التي تورق وتثمر من ماء غسيل الموتى، أقرب تأويل ما نوه عنه الكاتب في آخر مقطع ( الكتاب صفحة ١٦).
قد يكون المنهج البنيوي هو أقرب المناهج التي تُحبب النص، وتستكشف النزوع الجمالي فيه، الاكتشافات أو الحفريات الكثيرة كانت من النص الإبداعي وليس من تأويل النص.
اعتمدت الناقدة طرق جديدة في نقودها, وهي تتكأ على مرجعيات معرفية, لجأت إليها في أحيان كثيرة, إذ وفرت هذه المرجعيات الثقافية المواد الضرورية للإجراء النقدي, وكما يقول الناقد د. صلاح فضل في كتابه منهاج النقد الأدبي ص91, ط1 سنة , دار ميريت للنشر والمعلومات2002: النقدُ الجديد رفع مجموعة من الشعارات التي كانت توازي تلك النتائج المنهجية التي توصلت إليها المدارس السابقة.
إن الاشتغالَ النقديُ الإيديولوجي, الذي تخصصت فيه الناقدة, أعطى انطباعاً وتصوراً, بأنَّ البحث النقدي في حالةِ تطورٍ مستمر, وهذا التطور أخذ يتخصص ويكاد يغطي مساحات واسعة من الموضوع النقد السردي, فمفهوم الإيديولوجيا هو مفهومٌ فلسفيٌ, ولأن الأدبَ تداخل مع العلوم الأخرى ومن ضمنها الفلسفة, تداخلت وامتزجت هذه المصطلحات في بوتقةٍ واحدةٍ, فظهر النص حمالُ أوجهٍ كثيرات. الرواياتُ المنتقاةُ كعينة لهذا البحث, كانت حاملة للمفهوم عبر خطابها أو ثيمتها, ومن خلال تتبع الناقدة, صارت تمارس نقدها الفني, الذي يُعد من القراءات الجمالية, التي هي أجود أنواع القراءات. وإذ كان الأدب طبقات, كان أيضاً على النقاد أن يكونوا طبقات, وكما يقر الناقد محمد مندور في كتابه النقد والنقاد الصفحة 300, نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع لسنة 1997 الطبعة الأولى: غير أن الناقدين طبقات كما أن الشعراء والكتاب طبقات, فما يقال في الواحد منهم لا يصلح أن يقال في كلها, إلا أن هناك خلة لا يكون الناقد ناقداً إذا تجرد منها, وهي قوة التميز الفطرية.
كثيراً ما تعوّل الناقدة على الصفة الفكرية في النص, لكن التساؤل الذي ينطرح , هو هل جمالية النص بعمقهِ الفكري أم بالنزعة الفنية الجمالية التي تحتويه؟ وهذه الجدلية قد اتضحت من بداية الكتاب, وهو الاشتغال أو البناء السردي بالصورة الفكرية هو الذي كان سائداً في النصوص المنقودة, وبهذا فهوية الكتاب تكون واضحةً, والطريقةُ هي تأويليةُ النصوص وتِبيان دِلالتها الجوّانية, بنيوية النص تفتح أبواب القراءة التأويلية, وتجعل من النص مدينة مشرعة الأبواب ولكل باب , الوجه التأويلي الذي يمكن أن يعطي دلالةٍ ما.
الناقدةُ أشواق النعيمي, تسلطُ الضوء المجهري النقدي على العينات, التي برأي ( الناقدة) تمثلُ حالات بناء فكري, وهذا البناء, تفاوتت الطرق السردية والمعالجة, وهذا جعل الناقدة تقسم الكتاب إلى أقسام وفصول, تبعاً للاشتغال النقدي أو الطريقة في الاجراء.
المحصلةُ في نقود ( النعيمي), أنها تمارس النقد وفقَ رؤية النص الإبداعي, ومنه تستخرج النص النقدي الذي تريد أن تُنظرَ له, وهذه هي مهمة النقد, أنه يواكبُ الإبداع, ويتعاضد معه في رُقي الأدب والنهوض برسالته, التعبيرُ عن النهج أو الطريقة, كان يعطي انطباعاً , بأنَّ الغاية واحدة, وإن تعددت طرق التوصيل.
المحاولاتُ المبثوثة في الدرس النقدي, غايتها النهوض بواقع الأدب, ولكن, ما نلمحه في نقودٍ كثيرة, أنها صارت تُنظر أو تشتغل على أشياءٍ بعيدة عن النص, فلو تأملتَ هذه النقود, ودرستها فلم تخرج منها بشيءٍ مفيدٍ نافعٍ, السبب هو التنظير والتطبيق بعيد عن العمل الفني, وهذا خللٌ وظيفيٌ كبير, لم ينتبه له ( عن عمدٍ أو دون عمد) أولئك الذي يشتغلون بالنقد الأدبي, لكن, مما يُحسب للناقدة النعيمي, أنها لم تخرج عن العينة الفنية التي اتخذتها محوراً أو مادةً للطرح النقدي الذي بحثته.