Daad Deeb
مادتي في مجلة نقد 21 عدد اغسطس
إشكالية الذات والآخر في روايات علي بدر
دعد ديب
من المتعارف عليه أن الرواية انعكاسًا ومعادلًا موضوعيًا للحياة لذا لم يكن العراقي علي بدر بعيدًا في مجمل أعماله الأدبية عن المذهب الواقعي في تناول مشكلات الحياة الحرجة والقضايا الاجتماعية العالقة كمشاكل المرأة والزواج القسري –الاغتصاب –الفقر والحرمان وما إلى ذلك من تصوير قاع المجتمع وويلات الحروب والصدوع الطائفية في المكان الواحد وأيضًا الاغتراب المادي والنفسي وأزمة الهوية وتحرير الجسد، ورغم أن أعماله اتسعت لتضم وتلامس غالبية هذه المسائل إلا انه لم يكن بعيدًا عن التقنيات الحداثية في السرد على الرغم أنه من الصعب تحديد صفة مطلقة لنصوص علي بدر حيث تميزت سردياته برؤية ما بعد حداثية اعتمدت الأساليب التهجينية في تطعيم نصوصه عبر الكتابة الحرة والانزياح من السخرية إلى تبطين السرد برؤى فلسفية اعتمدت التشكيك بالمسلمات وكسر قدسية الأيدلوجيات التي سادت عبر زمن سابق حيث الرواية فن يتسع ليهضم في جنباته ألوانًا وأساليب مختلفة من السرد والحكاية الشعبية والأقصوصة والأمثال التقليدية والنثر والشعر يقول د. عبد الملك مرتاض أن الرواية ((تتخذ لنفسها ألف وجه، وترتدي في هيئتها ألف رداء، وتشكل أمام القارئ تحت ألف شكل، مما يعسر تعريفها تعريفاً جامعاً مانعاً ذلك لأننا نلفي الرواية تشترك مع الأجناس الأدبية الأخرى بمقدار ما تتميز عنها بخصائصها الحميمة وأشكالها الصحيحة)) بمعنى ما يمكن اعتبارها الجنس الأدبي العابر للأجناس.
ففي رواية الكافرة الصادرة عن دار المتوسط لعام 2015 المستفزة بعنوانها الصريح وبذات الوقت تثير انتباه القارئ الناتج عن رفضه له ومحاولة دحضه قبل أن يتكون لديه تخيل دقيق لما تحمله الرواية، هذا التحدي منذ العنوان لا يلبث أن يتبلبل عند التقاط أول الخيط المفضي للمعنى، حيث الكافر هو الجسد الأنثوي حامل الخطيئة الأبدية وجسر رحلة العنف الذي يطبق بحق النساء أنى توجهن حيث سلط علي بدر الضوء على هذه النقطة معتمدًا توظيف المونولوج الداخلي ومنحه دورًا كبيرًا في توضيح الذات الساردة وكشف دواخل بنيتها النفسية سواء مع نفسها أو مع الآخر إذ تتبدى البطلة "فاطمة" في طفولتها بحالة رعب وخوف بشكل دائم من كل شيء مما يشي بالأنساق الثقافية المحيطة التي تتحكم في إنتاج وعيها وحركة سلوكها وكشف ما يعتلج في أعماق الذات الأنثوية من ردود أفعال مكبوتة تجاه الضغط الاجتماعي الذي ترزح تحت وطأته عبر تقنية الاسترجاع والتذكر لطفولة بائسة إذ تقول :" وكي أتفادى كل هذا الظلم وهذه العدوانية القادمة من الشارع كنت أهرب إلى أجواء المنزل التي لا أُحبها أجلس وانتظر أُمي هناك، كم كنت أُحب الأُفق الفسيح المتألق بالضوء، حيث الطيور المهاجرة تدفع بأسراب وأسراب نحو السماء الزرقاء، إلا إنني أتخلى عن هذه السعادة، بسلام حزين وكئيب وصامت في المنزل" كما أن التساؤلات الوجودية عن العالم ووضع المرأة فيه أبرزها بالحوار المباشر بين الابنة والأم حول عدالة الإله بوضع المرأة بسوية أدنى من الرجل وبين الاستفسار والرفض لهذه العقلية المنسوبة إلى الرب والمثبتة في العقول كقانون لا يقبل الجدل، كان عليها أن تهاجر إلى منطقة أخرى في طرف العالم لتعلم عبثية وبطلان هذه الأفكار المقيمة في مجتمعها، ويستطرد علي بدر في نصه برصد العنف الذكوري ضد المرأة المدجج بفتاوي وأفكار تقليدية عفنة كي يملأ ذكر هذا الشرق خواءه الداخلي بمعاني التسلط والقوة وما ينتجه هذا العنف من تشوه في البنية النفسية للفرد عند انتقاله إلى موقع الأقوى يقول أيضًا: ( من الأشياء التي لا أنساها أيضا لا أنسى صوت أمي المتهدج في الليل .. كنت أتلفلف في الفراش وأتظاهر بأني نائمة : قالت لراضي الرجل الذي تزوجته بعد مقتل أبي .. لا تضرب على وجهي ؟ .. حاولت أن تدير وجهها على الجهة الأخرى .. فجرها بيد خشنة قوية وأنزل قبضته الأخرى على وجهها بقوة فسال الدم من أنفها : ـــ عاهرة أنت عاهرة قولي أنك عاهرة لن أتركك حتى تقولي أنا عاهرة .. قالت له ــ البنت نائمة لا أريدها أن تسمع .. رائحة الكحول الممزوجة بالثوم كانت تملأ الغرفة .. ثمله لا يخفف من قوة ضرباته التي يسددها إلى بطنها وهو يقول بصوت ثابت لا يلين : ــ قولي أنك عاهرة ؟ راضي البنت نائمة الله يرضى عليك وأخشى أن تصحو:"بنتك ستصبح عاهرة مثلك أنتن عاهرات )
حيث الحزن ثيمة العراقي الأبدية من موروث القهر التاريخي:" أمي لا تحب المزاح أبدًا إنها تكرهه، أمي لا تحب الضحك لم أرها مرة ضاحكة ، كانت تسمي الضحك والمزاح سفاهة، أمي حزينة دائمًا الباكية أبدًا الشاكية من كل شيء"
في الجزء الثاني من العمل والذي ترافق مع الرحلة الموجعة لهروبها من ذلك المجتمع المتوحش إذ جرى اغتصابها على الطريق من قبل المهرب لتنتهي في تطرف انتقامي متحولة من شخصية فاطمة العربية إلى صوفي الأجنبية وتقرر برد فعل على تفجير زوجها لنفسه في العملية الانتحارية طمعًا بسبعين حورية أوهموه بها في جنة مأمولة أن تستدرج إلى فراشها سبعين رجلًا في تطرف لتجريب تلك المتعة التي يحصل عليها الرجال في الآخرة، إلى أن تقع في حب أدريان الشخصية الأخرى القادمة من عنف الحرب الأهلية اللبنانية والتي لم يستطع أن يعترف لها بذلك حبًا بنسخ تلك المرحلة من ذاكرته وإنما وجدتها بين أوراقه ومقتنياته بعد الحادث الذي أصيب به إذ يقدمه الكاتب باعتباره ابن لمجرم حرب ويصور لنا ندمه، ندم الأب أبا أدريان بالاضطراب الذي يعيشه تلاحقه صورة طفلة كان السبب في فقدانها أبويها، وإن كان رسم ملامح الشخصية الغير منتهية من الداخل مسوغة تقنيًا غير أن إشارته لفيلم مخرجة ألمانية صورت مشاهد من المجزرة يجعلنا نطابق مع الواقع
قي حالة العنف التي وثقها فيلم ألماني، إذ أن هذا الفيلم كان يحكي عن مجازر صبرا وشاتيلا وفق ما ذكرت الكاتبة بديعة زيدان، تلك التي ارتكبتها ميليشيات مسيحية بحق الفلسطينيين، هل نقول أن علي بدر بمحاولته رصد خفايا البنية الداخلية للمجرم والآثار النفسية عليه حاول أن يخلق تبريرًا للفعل وهل يختلف مفهوم العنف والجريمة تحت يافطة أي دين أو ميليشيا؟؟!! ماذا عن ماهية الفعل ذاته وبعيدًا عن هذا الأمر هل نبرر لقاتل أو مجرم؟؟ أعتقد أن هذه النقطة مأخذًا لم يدقق فيه الكاتب رغم رؤاه المتنورة وانحيازه للإنسان في مختلف أعماله، أقول فاته الانتباه والتدقيق في هذه النقطة وهو الذي قال أن الأدب سيكون الوسيلة الأهم لبناء الهوية الوطنية في مواجهة الانقسام الطائفي، أو مواجهة العالمية الدينية القاتلة للهوية الوطنية.
لعل رواية "بابا سارتر" هي واسطة العقد في أعماله إذ سلطت الأضواء عليه بعد إصدارها بشكل أكبر وتتالت طبعاتها وقد حاز فيها على جائزة الدولة التقديرية للآداب في بغداد وجائزة أبو القاسم الشابي في تونس لعام 2001
في رواية "بابا سارتر" يبرز علي بدر آراءه في التركيبة الفكرية التي درج عليها المثقفون في العراق وفي المنطقة العربية على اثر امتداد الموجة الماركسية وبعدها الوجودية ساخرًا من العقليات التي ادعت فكرًا ولم تتبصر في معانيه رغم الشكل الظاهري التي تبدو عليه وقد كان مبكرًا في الكشف عن خواءه وتفاهته
تبدو رواية بابا سارتر في ثلاثة أطوار طور البحث وطور الكتابة والثالث حكاية الفيلسوف ما أطلق عليه فيلسوف الصدرية، ففي الأول تظهر الشخصيات التي حرضته على تقصي حياة الفيلسوف وهم حنا يوسف ونونو بهار بتكليف من صادق زاده الذي نعرف فيما بعد انه هو اسماعيل حدوب مرافق الفيلسوف الذي كان والعمل على توثيق تاريخه من خلال وثائق وكتابات وصور فوتوغرافية ودليل أسماء سعى وراءها لرصد علاقتها به من خلال عمله ككاتب لتنقية المعلومات وإجراء حكم قيمي يعكس رأيه في القضية الموكلة اليه وعليه بعد أن وصل إلى تصور لنمط حياته حاول رسم جغرافيا المكان الذي تحرك فيه بعد عودته من فرنسا بلد سارتر وتحديد بيته في حي الصدرية وبيت جده الذي أمضى فيه طفولته وشبابه الكائن في شارع المعارف بالقرب من كنيسة الأرمن الارثوذكس ورصد حركته بين ناديا خدوري وبين دلال مصابني في ستينات وسبعينات القرن حيث انتشرت الوجودية واعتبرت مزاج جيل بأكمله ولكن مزاج وموضة أكثر منها عمقا ودراية بالفكر
البطولة التي أعطاها للكاتب سمحت له أن يتدخل في تقييم الشخصيات التي يلتقي بها وتمثل الثقافة الشفاهية الدارجة والغير منتجة التي تجلت بالجلوس بالمقاهي فالفيلسوف عبد الرحمن غير متمكن من اللغة الفرنسية ولا العربية ولا عمل له إلا السكر والعربدة بالبارات ومعرفة عناوين الكتب لا مضامينها واستثمار عنوان سارتر الغثيان في ادعاء الغثيان من كل شيء تأكيدا على انتماؤه اللصيق بالتيار الوجودي
وتمنيه أن يكون أعور كي يتطابق مع صورة سارتر في تصعيد منسوب السخرية والتهكم ف زوجته جرمين الفرنسية كانت خير من يعرف دخيلته بتعبيرها " أي غثيان يتحدث وهو مقبل على الحياة بكل الشغف"
في كل رواية جزء من حياة الكاتب وسيرته الشخصية تظهر لنا سيرته الذاتية عبر تكثيف جزء منها في كل رواية من رواياته حيث تطابق عمله الصحفي مع روايته "لا تركضي وراء الذئاب يا عزيزتي» منشورات دار الرافدين لعام 2017ـ فهو الناجي من الموت كي يبقى مرآة لما حصل ويدون التاريخ الذي بقي شاهدًا عليه حسب ما صرح عندما جسد حياة الشيوعيين العراقيين في أفريقيا بعد صعود منغستو في الثمانينات وهذا العمل لخص فيه فترة كان فيها مراسلًا صحفيا في أديس ابابا بطلب من وكالة الأنباء «ام أي سي»، يكلَّف الراوي لتقصي أوضاع مجموعة من الثوريين الماركسيين أو التروتسكيين الذين غادروا بغداد في سبعينيات القرن الماضي والتحقوا بالثورة العالمية ضد المصالح الغربية – الامبريالية. يتدرج في الإضاءة على ثورة الأهوار المغيبة والمسحوقة التي قامت في منطقة الجنوب العراقية زمن حكم صدام، قبل قمعها وتصفيتها. أما من تبقى من أفرادها، فقد توزعوا في أصقاع الأرض، ومنهم مَن توجه إلى أديس أبابا حيث الأرض البكر، الحلم، النساء العاريات، الكوبرا والتمساح إبان حكم العقيد مغنيستو الذي أطاح بالإمبراطور هيلاسيلاسي، زمن انتصار الشيوعية فيها. هكذا، ينتقل مكان السرد والتطورات الدرامية إلى هذه البقعة لمتابعة سير الشخصيات.
مكابدات وهموم يعبر عنها علي بدر في تفكيكه لبذور نشوء الثورات، متسائلاً عن الدافع المحرك للجمهور وخروجه للمجابهة: هل هو الصراع الطبقي وتباين مستويات المعيشة؟ (يستشهد بطرافة بالثورة الفرنسية: «لا أتخيل أن كل الفرنسيين قد قرأوا كتاب «العقد الاجتماعي» لجان جاك روسو وخرجوا للثورة بعدها») هل هو ضغط الاستبداد وأهمية التساؤل عن أجيال أهدرت عمرها وشبابها بالثورات والانقلابات حيث نكون أمام نموذجين: نسخة بن لادن للثورة بلا أحلام كبيرة يردنا إلى عالم ما قبل التاريخ، والنموذج الآخر الذي يأخذنا إلى عالم لم يولد بعد وهو في ذلك يعيدنا إلى الحاضر والواقع الجديد؟
في رواية عازف الغيوم الصادرة منشورات المتوسط عام2017 يصطدم البطل كذلك بعقلية المتشددين المستنكرين لتعلقه بالموسيقا والعزف على التشيللو أولئك الذين ربطوا كل المتع الجميلة والفرح برفض فهمهم للدين لها وكأنهم في حقد دفين على الحياة لأجل نعيم في آخرة لم يعطهم أحد جواز مرور لدخولها المفترض هذا الواقع دفعه لمغادرة البلاد، المشهد البصري السينمائي بالغ الدلالة يتكرر ثانية مع عازف التشيللو في الوطن والمنفى ألا وهو قيام سدنة المعبد بتحطيم آلته الموسيقية أمام بيته مرة في موطنه، ومرة أخرى في حي المهاجرين الأجانب في بروكسل من قبل جماعة مشابهة من متشددين محملين بعقيدة التطرف الديني. هذه المطاردة الكابوسية التي تلاحقه أينما حل وحيثما ارتحل، تجعله يحاول الانتماء بكليته إلى المجتمع الغربي، وتحرضه أحلامه مرة أخرى على الاندماج فيه وفي نشاطاته ليتهور في مؤازرة تظاهرة لليمين المتطرف تدعو إلى رفض الغرباء واللاجئين بتشدد معاكس شوفيني وعنصري ومن جديد، يصطدم برفض هذا المحيط له وتهشيم أضلاعه، ذلك أن هذا الطيف لا يرى فيه إلا غريباً جاء ليعتدي على رفاهيته ويقاسمه مكاسبه مهما أبدى من حسن النوايا وهنا تأتي مفارقة أخرى حيث يبدو المتطرفون القدامى في وطنه الذين كسروا آلته الموسيقية، هم منقذوه هذه المرة من التطرف المضاد وهو الهارب منهم على أمل مساحة أكبر من الحرية والاتساع لتقبل واحترام الآخر في ذاك البلد، ليفاجأ بالتنوع في أشكال التشدد والتطرف والرفض.
فدائرة الحصار التي ضاقت في الوطن لا تلبث أن تلاحقه إلى منفاه في بلد اللجوء لتطبق بخناقها عليه وتدفع به لإعادة طرح أسئلة الوجود المحيرة: من أنا؟ ومن الآخر؟ ما الذي يجمعنا وما الذي يفرقنا: الانتماء لبشر؟ أم لجغرافيا؟ أم لعقيدة ما؟ كنماذج من الأسئلة الكامنة في الفضاء النفسي لبطل العمل، وحافزه للبحث عن أجوبة لها في عالم بديل، عندما قرر الرحيل إلى الغرب حيث الحرية والانفتاح وإطلاق العنان للموهبة والطموح رغم حساسية الحوار الذي جرى بينه وبين والده إذ يلخص هذا الأخير رأيه لابنه بتجربة العم الذي سبق أن عانى من وطأة الحنين وشعور الذنب:"ستذهب إلى مكان بعيد لتظل تحلم طيلة عمرك بالرجوع إلى مكانك الأول كما كان شأن عمك"
الأحلام المجهضة والخيبة والهروب إلى عوالم أخرى تتجدد فيها الخيبات وفقدان الهوية والانتماء لعقيدة أو تراب أو بلد، هي صدمة وعي أخرى ترافق مهاجر اليوم كما جسده علي بدر في صدمة الخواء وفقدان الأمل بكل ما يحمل قيمة، الواقع الجديد الذي يتفوق بقسوته ووطأة عبثيته على كل شيء فأين المفر والى أي قرار نستكين.
+2
٥٤نزار ديب، وQusay Al-shaar و٥٢ شخصًا آخر
١١ تعليقًا
أعجبني
تعليق١١ تعليقًا
عرض ٢ من التعليقات السابقة
- Daad Deeb
اثير جليل ابو شبع ممنونة لطفك استاذ اثير
١- أعجبني
- رد
- 2 س