فى تصاوير الفنانة أمل نصر بقاعة سفر خان : محمد كمال
الموروث من بواكير الطفولة إلى البراح الزمكانى
تبقى مراحل الطفولة المبكرة هى القاعدة التأسيسية لبناء الشخصية الإنسانية بكل تجلياتها الإجتماعية ، سيما إذا اقترنت بسياق بيئى غنى يثرى نسيجها الروحى والوجدانى ، قبل أن تخوض مغامرة الحياه عبر متواليات عمرية متمايزة المعطيات ، وربما كان هذا الطرح أكثر وضوحاً فى مضمار الإبداع الذى تتجلى فيه التأثيرات البيئية المتنوعة على المبدعين بتنوع إنتاجهم عبر وسائط مختلفة ، وهو ما يبرز فى المعرض الأخير للفنانة القديرة أمل نصر بقاعة " سفر خان " بالزمالك تحت عنوان " أفق جديد " ، حيث ضم أكثر من ثلاثين عملاً تصويرياً بخامة الأكريلك على القماش بعضها مشدود على أسطح خشبية .. وقد ظهر من العرض إلتحاف الفنانة بتراثها البيئى تاريخياً وجغرافياً ، علاوة على ائتناسها برصيدها الطفولى الذى كانت ومازالت ترتكن إليه فى أداء فرشاتها على مسطحاتها النسجية ، بما أكسبها رشاقة بنائية وخفة حركية فى غزل المشهد التصويرى .. وفى هذا السياق كنت قد نشرت دراسة نقدية عن الفنانة أمل نصر بمجلة الموقف العربى فى 23 يناير 2007م تحت عنوان " الذات والآخر فى تصاوير أمل نصر : التجريدية التعبيرية عبر تقمص وجدانى طفولى " ، قبل أن أعيد نشرها فى جريدة " الأهرام " بتاريخ 17 يناير 2008م ، ثم مجلة " بورتريه فى شهر فبراير عام 2008م ، حيث أشرت آنذاك لتلك العلاقة الجدلية داخل الدهاليز النفسية للفنانة بين شخصيتها الحاضرة ورصيدها الطفولى منذ ولادتها ونشأتها بمدينة الإسكندرية ذات البيئة البحرية المتفردة ، مشيراً لاستحضار برائتها الغضة أثناء أدائها على السطح التصويرى عبر " تجريدية تعبيرية " تميزت بالبساطة والرقة ، إعتماداً على تقمصها لشخصية الطفلة أمل نصر ، بما جعل تصاويرها وقتذاك متسمة بالعفوية والتلقائية كأبرز ملامح رسوم الأطفال بكل تدرجاتها العمرية التى تعتمد على آليتى اللذة والألم .. حينذاك كنت أرى أن أمل قد استطاعت الفرار بسهولة من القضبان الذهنية فى إطار هرولتها نحو أبيار ذاكرتها الطفولية الأولى ، من خلال استخدامها لمفردات شائعة فى الموروث البصرى الجمعى مثل السهم والنجمة والشوكة والطيارة والشمس والمركب والطائر ، قبل أن تمسى الصلة وطيدة بين وهجها الوجدانى وانفعالاتها التصويرية ، تجسيداً لفوران شعورى ونزق طفولى أديا إلى ثورة يدوية فطرية مغلفة برشد سلوكى على منحنى التقمص الإبداعى بين أمل نصر وقرينتها الطفلة ، إضافة إلى ذلك التأثير الجغرافى السكندرى من زبد البحر وأمواجه ورماله وصخوره المكسية بالريم الأخضر ، وقد مزجت الفنانة وقتها كل هذا بطفولتها وأمومتها كسمتين بارزتين فى معمار شخصيتها الإنسانية التى تغذى بالضرورة كيانها الإبداعى .. وقد جنحت هنا لإضاءة سيرتى النقدية مع أعمال الفنانة لإيمانى الراسخ أن المساحة الطفولية الغضة عندها هى أيضاً من روافدها التراثية التى زادتها قدرة على استلهامها البيئى بشكل عام بين الزمانى والمكانى فى تجربتها الأخيرة التى أسمتها " أفق جديد " ، بما يكشف عن تواتر وجدانى وعقلى داخل أمل التى باتت تمسك بالحبل الواصل بين طفولتها وشبابها ومرحلة نضجها الحالية ، وربما لهذا السبب إختارت الفنانة شيرويت شافعى صاحبة ومديرة القاعة بوعى وذكاء بعض أعمال أمل نصر القديمة التى أنجزتها عام 2006م وأدمجتها فى العرض مع أعمالها الحالية ، لذا سنحاول فى هذا النص إستشفاف ذلك المزيج المؤثر فى أعمال الفنانة من بواكير الطفولة إلى البراح الزمكانى ، والتى أنجزت معظمها فى عام 2021م ، وبعضها الآخر مع مطالع عام 2022م ، حيث استدرجت من خلالها عينى المتلقى من أسفل لأعلى والعكس ببناءات تصويرية متينة عبر وحدات متجاورة أحياناً ومتعاشقة فى أغلب الأحيان ، بما يميط اللثام عن تراكم خبرات أمل فى تشييد عمارة الشكل قبل حشوها بمفرداتها المهرولة من بئر طفولتها المبكرة كتراث ذاتى لافرار من لذته أو ألمه ، على التوازى مع عناصرها التراثية البصرية من داخل بيئتها السكندرية ، فنراها تقيم شبكاً بنائياً خطياً ، قبل أن تفتح فيه أخاديداً وجدانية لتمر منها بوجوه الفيوم والمنحوتات اليونانية والرومانية القديمة ، علاوة على شخوص الحكايات التراثية مثل أبو زيد الهلالى وذات الهمة وسيف بن ذى يزن وغيرها من الموروثات الجمعية المصرية والعربية التى احتلت مكاناً مرموقاً فى الوجدان الشعبى ، يضاف لهذا جنوح الفنانة إلى بعض العناصر الرافدة من التصاوير البدائية الأولى التى تجسد من خلالها بداية الخلق مثل حضور آدم وحواء فى عرى كامل مستور العورات بأوراق الشجر ، وقد مزجت هذا الأداء التلقائى ببعض ملامح رسومات الأطفال التى تتقمص روحها وهيئتها بلذتها وقدرتها على الإدهاش من بداية مشوارها كما ذكرنا ؛ فبدا المشهد التصويرى مدعماً بجسر حسى بين الفائت والحاضر .. بين الماضى والواقع ، لذا سنجد معظم تكوينات أمل نصر مهجنة بمفردات عمرها المبكر مثل الشوكة والنجمة والطيارة والعروسة والحصان والقطة ، وهى ذات العناصر المدثرة بالتواليف التراثية داخل الحكى المدون والشفاهى قديماً وحديثاً على الورق والقماش والجدران عبر تصاوير راسخة فى المخيلة الجمعية ، مدعمة بالخيال الشخصى للفنانة ذاتها المتمثل فى عرائس البحر والأجنحة المصاحبة للعناصر الآدمية والعيون البشرية الجاحظة وعضلات الوجه المشدودة والأيادى المفرودة جانباً ، مع الشروع فى الطيران للكتكوت والبومة والسمكة ، والرغبة فى السباحة لكائنات آدمية وحيوانية مجتمعة فى حيز واحد .. وهنا يبدو التحريف التشريحى للعناصر منطقياً فى ظل المزج بين الطفولى والتلقائى والبدائى داخل مقاطع عفوية متداخلة فى مساحة العمل ، بما يوحى بأنها فسيفساء تصويرية رافدة من رحم الذاكرة التراثية الجمعية وجوف ذاكرة أمل ذاتها التى أمست ماهرة فى نسجها بسهولة ويسر ، إعتماداً على براعتها فى تقمص الأداءات الطفولية والفطرية والأكاديمية فى آن واحد .
ولاأشك هنا أن البيئة السكندرية بكل تجلياتها البصرية والروحية والوجدانية كان لها الأثر الواضح على تجربة أمل نصر عند أفق جديد مربوط بجذور عتيقة لاتقبل المحو ، حيث نجد المفردات المألوفة فى المدينة تسيطر على المشهد التصويرى مثل الأسماك والتماسيح والبحر والرملة والطيارات الورقية والتماثيل الإغريقية والرومانية القديمة ، والتى استطاعت الفنانة غزلها مع خيوط أعمالها ببراعة من خلال حيوية فرشاتها كطفلة تلعب وتلهو فى أركان الصورة من خلال جديلة عتيدة بين البراءة الوجدانية والوعى العقلى .. بين طزاجة العفوية ومتانة البناء ، عبر خبرات مزيجة من اللذة الطفولية الإبداعية لأمل مع مكتسباتها الفنية التراكمية الجديدة ، وهو ماجعل الكتلة التراثية الكلية لديها تنصهر فى بوتقة واحدة جمعت فيها بين شفافية الإستحضار الوجدانى ويقظة الإحتواء الذهنى على ذات المسطح التصويرى ، بما سمح بمرور الملامح البيئية السكندرية للطفلة المبدعة أمل نصر إلى الحيز الفنى الحاضر أثناء إنجاز العمل .. وربما تجلى ذلك التأثير البيئى أيضاً فى التراكيب اللونية للفنانة ، حيث يتصدرها الأزرق الفيروزى كموطىء استلهامى للبحر الذى يبدو كالحزام المدهش حول خصر الإسكندرية ؛ فبدت بعض الكتل فى التكوينات مغلفة بالزرقة الفيروزية لبحر الثغر ، وهو ماأتاح لأمل الإلقاء فى تلك البحيرات الجزئية بالأسماك والطحالب وبعض أشباه الكائنات البحرية مثل الجمبرى والكابوريا وغيرها من العناصر المميزة لقاع البحر ، إذ ظهرت كحالة بصرية بينية تتأرجح بين الواقعية والزخرفية داخل النسيج التصويرى ، لتبدو تارة فى وضع العوم تحت الماء ، وتارة أخرى كنقوش على جدار عتيق سقته الفنانة من الماء المتسربل فى براح الزمان ، وعلى جانب آخر فقد ظهر اللون الأصفر بسمت الرملة البحرية السكندرية المشبعة بلفحات الشمس نهاراً فى بعض التكوينات وضى القمر ليلاً فى تكوينات أخرى ، حيث مزجت أمل بداخلها بين الشماسى والكراسى والأسماك والطيور والشباك ، على التوازى مع الأسهم المتحركة فى اتجاهات مختلفة لخلق مزيد من السرعة الحركية البصرية ، وكذلك الضوء متباين الدرجات الذى يتمايل بين الإيماءات النهارية والليلية داخل البراح المكانى ، قبل أن ترتحل الفنانة به من الحيز الحسى الفيزيقى إلى الحدسى اللافيزيقى فى الفضاء الزمانى الفائت .. أما اللون الأحمر فقد تجلى فى أعمال أمل نصر كمزيج من لفحات الشمس السكندرية والألق الوجدانى للفنانة نفسها ، حيث استطاعت توظيف هذا الخليط فى تطعيم مسطحاتها التصويرية قبل أن تصبح على مشارف الإشتعال البصرى ، دافعة داخل هذه المساحات النارية بنفس مفرداتها الطفولية البيئية المألوفة من النجوم والأسماك والطيور والنباتات والطيارات الورقية والأيقونات البشرية مثل وجوه الفيوم والوشوش الإغريقية والرومانية ، عبر ربط بين نشوة تدفقها الطفولى البرىء وموروثها الفنى التاريخى والجغرافى ، على التوازى مع ذلك الوصل اللونى الواعى بين الفيروزى المائى والأحمر النارى والأصفر الرملى .
محمد كمال
الجزء الأول من دراستى النقدية عن الفنانة القديرة د . أمل نصر تحت عنوان " الموروث من بواكير الطفولة إلى البراح الزمكانى " _ مجلة أدب ونقد _ العدد 410 _ يونيو 2022م
الصور المرفقة لأعمال الفنانة د . أمل نصر التصويرية + صورتها الشخصية _ والبيانات إلى جانب كل صورة
Amal Nasr
الموروث من بواكير الطفولة إلى البراح الزمكانى
تبقى مراحل الطفولة المبكرة هى القاعدة التأسيسية لبناء الشخصية الإنسانية بكل تجلياتها الإجتماعية ، سيما إذا اقترنت بسياق بيئى غنى يثرى نسيجها الروحى والوجدانى ، قبل أن تخوض مغامرة الحياه عبر متواليات عمرية متمايزة المعطيات ، وربما كان هذا الطرح أكثر وضوحاً فى مضمار الإبداع الذى تتجلى فيه التأثيرات البيئية المتنوعة على المبدعين بتنوع إنتاجهم عبر وسائط مختلفة ، وهو ما يبرز فى المعرض الأخير للفنانة القديرة أمل نصر بقاعة " سفر خان " بالزمالك تحت عنوان " أفق جديد " ، حيث ضم أكثر من ثلاثين عملاً تصويرياً بخامة الأكريلك على القماش بعضها مشدود على أسطح خشبية .. وقد ظهر من العرض إلتحاف الفنانة بتراثها البيئى تاريخياً وجغرافياً ، علاوة على ائتناسها برصيدها الطفولى الذى كانت ومازالت ترتكن إليه فى أداء فرشاتها على مسطحاتها النسجية ، بما أكسبها رشاقة بنائية وخفة حركية فى غزل المشهد التصويرى .. وفى هذا السياق كنت قد نشرت دراسة نقدية عن الفنانة أمل نصر بمجلة الموقف العربى فى 23 يناير 2007م تحت عنوان " الذات والآخر فى تصاوير أمل نصر : التجريدية التعبيرية عبر تقمص وجدانى طفولى " ، قبل أن أعيد نشرها فى جريدة " الأهرام " بتاريخ 17 يناير 2008م ، ثم مجلة " بورتريه فى شهر فبراير عام 2008م ، حيث أشرت آنذاك لتلك العلاقة الجدلية داخل الدهاليز النفسية للفنانة بين شخصيتها الحاضرة ورصيدها الطفولى منذ ولادتها ونشأتها بمدينة الإسكندرية ذات البيئة البحرية المتفردة ، مشيراً لاستحضار برائتها الغضة أثناء أدائها على السطح التصويرى عبر " تجريدية تعبيرية " تميزت بالبساطة والرقة ، إعتماداً على تقمصها لشخصية الطفلة أمل نصر ، بما جعل تصاويرها وقتذاك متسمة بالعفوية والتلقائية كأبرز ملامح رسوم الأطفال بكل تدرجاتها العمرية التى تعتمد على آليتى اللذة والألم .. حينذاك كنت أرى أن أمل قد استطاعت الفرار بسهولة من القضبان الذهنية فى إطار هرولتها نحو أبيار ذاكرتها الطفولية الأولى ، من خلال استخدامها لمفردات شائعة فى الموروث البصرى الجمعى مثل السهم والنجمة والشوكة والطيارة والشمس والمركب والطائر ، قبل أن تمسى الصلة وطيدة بين وهجها الوجدانى وانفعالاتها التصويرية ، تجسيداً لفوران شعورى ونزق طفولى أديا إلى ثورة يدوية فطرية مغلفة برشد سلوكى على منحنى التقمص الإبداعى بين أمل نصر وقرينتها الطفلة ، إضافة إلى ذلك التأثير الجغرافى السكندرى من زبد البحر وأمواجه ورماله وصخوره المكسية بالريم الأخضر ، وقد مزجت الفنانة وقتها كل هذا بطفولتها وأمومتها كسمتين بارزتين فى معمار شخصيتها الإنسانية التى تغذى بالضرورة كيانها الإبداعى .. وقد جنحت هنا لإضاءة سيرتى النقدية مع أعمال الفنانة لإيمانى الراسخ أن المساحة الطفولية الغضة عندها هى أيضاً من روافدها التراثية التى زادتها قدرة على استلهامها البيئى بشكل عام بين الزمانى والمكانى فى تجربتها الأخيرة التى أسمتها " أفق جديد " ، بما يكشف عن تواتر وجدانى وعقلى داخل أمل التى باتت تمسك بالحبل الواصل بين طفولتها وشبابها ومرحلة نضجها الحالية ، وربما لهذا السبب إختارت الفنانة شيرويت شافعى صاحبة ومديرة القاعة بوعى وذكاء بعض أعمال أمل نصر القديمة التى أنجزتها عام 2006م وأدمجتها فى العرض مع أعمالها الحالية ، لذا سنحاول فى هذا النص إستشفاف ذلك المزيج المؤثر فى أعمال الفنانة من بواكير الطفولة إلى البراح الزمكانى ، والتى أنجزت معظمها فى عام 2021م ، وبعضها الآخر مع مطالع عام 2022م ، حيث استدرجت من خلالها عينى المتلقى من أسفل لأعلى والعكس ببناءات تصويرية متينة عبر وحدات متجاورة أحياناً ومتعاشقة فى أغلب الأحيان ، بما يميط اللثام عن تراكم خبرات أمل فى تشييد عمارة الشكل قبل حشوها بمفرداتها المهرولة من بئر طفولتها المبكرة كتراث ذاتى لافرار من لذته أو ألمه ، على التوازى مع عناصرها التراثية البصرية من داخل بيئتها السكندرية ، فنراها تقيم شبكاً بنائياً خطياً ، قبل أن تفتح فيه أخاديداً وجدانية لتمر منها بوجوه الفيوم والمنحوتات اليونانية والرومانية القديمة ، علاوة على شخوص الحكايات التراثية مثل أبو زيد الهلالى وذات الهمة وسيف بن ذى يزن وغيرها من الموروثات الجمعية المصرية والعربية التى احتلت مكاناً مرموقاً فى الوجدان الشعبى ، يضاف لهذا جنوح الفنانة إلى بعض العناصر الرافدة من التصاوير البدائية الأولى التى تجسد من خلالها بداية الخلق مثل حضور آدم وحواء فى عرى كامل مستور العورات بأوراق الشجر ، وقد مزجت هذا الأداء التلقائى ببعض ملامح رسومات الأطفال التى تتقمص روحها وهيئتها بلذتها وقدرتها على الإدهاش من بداية مشوارها كما ذكرنا ؛ فبدا المشهد التصويرى مدعماً بجسر حسى بين الفائت والحاضر .. بين الماضى والواقع ، لذا سنجد معظم تكوينات أمل نصر مهجنة بمفردات عمرها المبكر مثل الشوكة والنجمة والطيارة والعروسة والحصان والقطة ، وهى ذات العناصر المدثرة بالتواليف التراثية داخل الحكى المدون والشفاهى قديماً وحديثاً على الورق والقماش والجدران عبر تصاوير راسخة فى المخيلة الجمعية ، مدعمة بالخيال الشخصى للفنانة ذاتها المتمثل فى عرائس البحر والأجنحة المصاحبة للعناصر الآدمية والعيون البشرية الجاحظة وعضلات الوجه المشدودة والأيادى المفرودة جانباً ، مع الشروع فى الطيران للكتكوت والبومة والسمكة ، والرغبة فى السباحة لكائنات آدمية وحيوانية مجتمعة فى حيز واحد .. وهنا يبدو التحريف التشريحى للعناصر منطقياً فى ظل المزج بين الطفولى والتلقائى والبدائى داخل مقاطع عفوية متداخلة فى مساحة العمل ، بما يوحى بأنها فسيفساء تصويرية رافدة من رحم الذاكرة التراثية الجمعية وجوف ذاكرة أمل ذاتها التى أمست ماهرة فى نسجها بسهولة ويسر ، إعتماداً على براعتها فى تقمص الأداءات الطفولية والفطرية والأكاديمية فى آن واحد .
ولاأشك هنا أن البيئة السكندرية بكل تجلياتها البصرية والروحية والوجدانية كان لها الأثر الواضح على تجربة أمل نصر عند أفق جديد مربوط بجذور عتيقة لاتقبل المحو ، حيث نجد المفردات المألوفة فى المدينة تسيطر على المشهد التصويرى مثل الأسماك والتماسيح والبحر والرملة والطيارات الورقية والتماثيل الإغريقية والرومانية القديمة ، والتى استطاعت الفنانة غزلها مع خيوط أعمالها ببراعة من خلال حيوية فرشاتها كطفلة تلعب وتلهو فى أركان الصورة من خلال جديلة عتيدة بين البراءة الوجدانية والوعى العقلى .. بين طزاجة العفوية ومتانة البناء ، عبر خبرات مزيجة من اللذة الطفولية الإبداعية لأمل مع مكتسباتها الفنية التراكمية الجديدة ، وهو ماجعل الكتلة التراثية الكلية لديها تنصهر فى بوتقة واحدة جمعت فيها بين شفافية الإستحضار الوجدانى ويقظة الإحتواء الذهنى على ذات المسطح التصويرى ، بما سمح بمرور الملامح البيئية السكندرية للطفلة المبدعة أمل نصر إلى الحيز الفنى الحاضر أثناء إنجاز العمل .. وربما تجلى ذلك التأثير البيئى أيضاً فى التراكيب اللونية للفنانة ، حيث يتصدرها الأزرق الفيروزى كموطىء استلهامى للبحر الذى يبدو كالحزام المدهش حول خصر الإسكندرية ؛ فبدت بعض الكتل فى التكوينات مغلفة بالزرقة الفيروزية لبحر الثغر ، وهو ماأتاح لأمل الإلقاء فى تلك البحيرات الجزئية بالأسماك والطحالب وبعض أشباه الكائنات البحرية مثل الجمبرى والكابوريا وغيرها من العناصر المميزة لقاع البحر ، إذ ظهرت كحالة بصرية بينية تتأرجح بين الواقعية والزخرفية داخل النسيج التصويرى ، لتبدو تارة فى وضع العوم تحت الماء ، وتارة أخرى كنقوش على جدار عتيق سقته الفنانة من الماء المتسربل فى براح الزمان ، وعلى جانب آخر فقد ظهر اللون الأصفر بسمت الرملة البحرية السكندرية المشبعة بلفحات الشمس نهاراً فى بعض التكوينات وضى القمر ليلاً فى تكوينات أخرى ، حيث مزجت أمل بداخلها بين الشماسى والكراسى والأسماك والطيور والشباك ، على التوازى مع الأسهم المتحركة فى اتجاهات مختلفة لخلق مزيد من السرعة الحركية البصرية ، وكذلك الضوء متباين الدرجات الذى يتمايل بين الإيماءات النهارية والليلية داخل البراح المكانى ، قبل أن ترتحل الفنانة به من الحيز الحسى الفيزيقى إلى الحدسى اللافيزيقى فى الفضاء الزمانى الفائت .. أما اللون الأحمر فقد تجلى فى أعمال أمل نصر كمزيج من لفحات الشمس السكندرية والألق الوجدانى للفنانة نفسها ، حيث استطاعت توظيف هذا الخليط فى تطعيم مسطحاتها التصويرية قبل أن تصبح على مشارف الإشتعال البصرى ، دافعة داخل هذه المساحات النارية بنفس مفرداتها الطفولية البيئية المألوفة من النجوم والأسماك والطيور والنباتات والطيارات الورقية والأيقونات البشرية مثل وجوه الفيوم والوشوش الإغريقية والرومانية ، عبر ربط بين نشوة تدفقها الطفولى البرىء وموروثها الفنى التاريخى والجغرافى ، على التوازى مع ذلك الوصل اللونى الواعى بين الفيروزى المائى والأحمر النارى والأصفر الرملى .
محمد كمال
الجزء الأول من دراستى النقدية عن الفنانة القديرة د . أمل نصر تحت عنوان " الموروث من بواكير الطفولة إلى البراح الزمكانى " _ مجلة أدب ونقد _ العدد 410 _ يونيو 2022م
الصور المرفقة لأعمال الفنانة د . أمل نصر التصويرية + صورتها الشخصية _ والبيانات إلى جانب كل صورة
Amal Nasr