حكيم مرزوقي
مازال القلب في جهة اليسار (مقال منشور يوم وفاة جورج حبش)
من من ثوريي هذا العالم وعشّاقه وأيتامه و حالميه لا يعرف جورج حبش؟
ألقى بعكّازه في وجه العاصفة, وغاب كالشمس التي أقسم على انتصارها,غاب كالشمس التي تعلم أنّها ستشرق غدا بعد أن لوّحت قلوبنا بالحب والانتظار ,غاب لأنّه لا يعترف بتقاعد الثوريين.
إنّه الحكيم :رأس لم يعتمّ إلاّ بالشيب والأحلام والأفكار الخالدة,قلب يتّسع للجميع وعينان تبرقان كنجمتينا البعيدتين,كزهرتين تتفتّحان من بين الأشواك.
لا يحبّ الحكيم أن يتوكّأ على أحد فاستعان بعكّاز ومشى خلفه محبّوه وكأنّه يتحسّس ألغام الدرب الطويل ويبحث لقومه عن منابع الحياة في جوف الأرض دون أن يستسقي السماء.
ذات شتاء قارس وطويل ومشرّد كنت أنام في مقر مجلة "الهدف" وكنت أرتشف سيجارة الصباح الحافية مع صورتي الحكيم وغيفارا وأدفع البرد واليأس والإحباط بالأمنيات..ليت ذاك الصباح كان طويلا.
يا معلّمي وأبي وشيخي لقد كبرنا وصار لنا أصدقاء يستشهدون ,هل سنفقد يوما ما تبقّى من نزقنا الثوري كالمصادمة والمشاكسة وعشق( اللاّءات )وإدمان المجاهرة.
هل تعود الأقلام إلى غمدها وتنحني الهامات تحت العتبات ويذوي الساعد وترتخي القبضة وتنحلّ لتستحيل إلى راحة ممدودة أمام آكلي لحومنا؟
هل سنخجل يوما من وقاحتنا المبدئيّة أمام المستكرشين وهدايانا الرمزيّة أمام الحبيبات ولطفنا الصريح أمام الفقراء والمظلومين,
هل سنعتذر يوما من الذين قلبنا الموائد في أحضانهم حين شتموا مستقبلنا وأرادوا افتراس أحلامنا.
هل منع هذا القرن الثوريين حقّّا من دخول ناديه وشطب أسماءهم من قائمة ضيوفه؟
اسمح لي أيّها القرن الواحد والعشرون الذي يتصرّف كجنرال انقلابيّ من العالم الثالث ,اسمح لي أن أتحدّث إليك قليلا بعد أن تزيح القطنتين من أذنيك والنظّارتين من على عينيك وتضع مسدّسك هنا أمامي على الطاولة :
صحيح أنّ شارع اليسار في القرن المغدور قد عجّ واكتظّ بالجهلة والانتهازيين والرّعاع ,وصحيح أنّ الباب فتح على مصراعيه لعديمي الذوق والموهبة وعشّاق القبح فأقدم بعضهم على تلخيص وتلحين فقرة من (رأس المال)وقدّمها باسم الموسيقى ,ولم يتوان آخر على اغتيال الشعر بالخطابات والشعارات والكليشهات كما أقيمت المعارض للملصقات البلهاء في أروقة الفن التشكيلي وأهدرت أموال لإنتاج مسرحيات وأفلام لا تقنع حتّى المعتوهين واتّهم المتأنّق بالبرجوازية النتنة والنبيل الخلوق ببقايا الإقطاع والكمبرادور والمنفتح المتعطّش للحوار بالليبراليّة المشبوهة ومتقن اللّغات بالعمالة الواضحة ,ولكن........لا تنس أيّها السيد الذي سوف تدوم ولايته مائة عام أنّ سلفك قد أنجز أهمّ الثورات ,عمّالية كانت أم رقميّة واتّسع صدره لليمين واليسار وأنصت لفرانك سينترا كما أنصت لجاك بريل ولعبد الوهّاب كما لسيّد درويش وقرأ لهمنغواي كما لجورج اورويل و تذوّق (غارنيكا) بيكاسو كما تذوّق (صرخة) مونش وعرف اليمينيون قبل غرهم أيقونات قادمة من اليسار وأحبّوها وعلّقوها على صدور بيوتهم لأنّها تتحيّز للإنسان تماما كالأنبياء والقدّيسين ,ولا تنس أيها القرن الكريم أنّنا نجدّد ولاءنا وانتماءنا إليك ,بل ما زلنا نطمح في أن تنتمي أنت إلينا نحن الذين لا يمكن أن ينتزع الحلم منا أبدا ولطالما انتمى التاريخ للمؤمنين بالحلم والمدافعين عنه.
يعلم جورج حبش –الطبيب قبل المناضل ـ أنّ القلب خلق في اليسار وما زال في اليسار وسيبقى في جهة اليسار لذلك كان سيّد اليسار بلا منازع وبوصلة الثورة الأسطورة واحتفظ بالرأس باردا رصينا وبالقلب دافئا حنونا يقرع كأجراس الناصرة ليلة الميلاد.
ترجّل الحكيم,التحق بوديع حدّاد وغسّان كنفاني و أبو علي مصطفى والرفاق المؤسّسين في حركة القوميين العرب وترك مبضعه وبلسمه لرجال ذوي قلوب من ألماس : شفّافة ولكنها لا تنكسر ,
لم يتسنّ للأجيال الجديدة معرفة الحكيم كما ينبغي لأنّ العاصفة كانت هوجاء وانحنى إليها الكثيرون ولعلّ بعضهم يظنّه مجرّد ثوريّ ينتمي إلى مرحلة مضت ,من يعرف جورج حبش يتعرّف إلى شيىء كنّا قد قرأناه في الكتب ونظنّه مجرّد كلام رومانسي اسمه (النقاء الثوري).
أيها الحكيم ,أيها الحنوّ الأبوي العظيم , سلام على روحك الطاهرة كسجّادة أمي في صلاة الغروب.
حكيم مرزوقي
مازال القلب في جهة اليسار (مقال منشور يوم وفاة جورج حبش)
من من ثوريي هذا العالم وعشّاقه وأيتامه و حالميه لا يعرف جورج حبش؟
ألقى بعكّازه في وجه العاصفة, وغاب كالشمس التي أقسم على انتصارها,غاب كالشمس التي تعلم أنّها ستشرق غدا بعد أن لوّحت قلوبنا بالحب والانتظار ,غاب لأنّه لا يعترف بتقاعد الثوريين.
إنّه الحكيم :رأس لم يعتمّ إلاّ بالشيب والأحلام والأفكار الخالدة,قلب يتّسع للجميع وعينان تبرقان كنجمتينا البعيدتين,كزهرتين تتفتّحان من بين الأشواك.
لا يحبّ الحكيم أن يتوكّأ على أحد فاستعان بعكّاز ومشى خلفه محبّوه وكأنّه يتحسّس ألغام الدرب الطويل ويبحث لقومه عن منابع الحياة في جوف الأرض دون أن يستسقي السماء.
ذات شتاء قارس وطويل ومشرّد كنت أنام في مقر مجلة "الهدف" وكنت أرتشف سيجارة الصباح الحافية مع صورتي الحكيم وغيفارا وأدفع البرد واليأس والإحباط بالأمنيات..ليت ذاك الصباح كان طويلا.
يا معلّمي وأبي وشيخي لقد كبرنا وصار لنا أصدقاء يستشهدون ,هل سنفقد يوما ما تبقّى من نزقنا الثوري كالمصادمة والمشاكسة وعشق( اللاّءات )وإدمان المجاهرة.
هل تعود الأقلام إلى غمدها وتنحني الهامات تحت العتبات ويذوي الساعد وترتخي القبضة وتنحلّ لتستحيل إلى راحة ممدودة أمام آكلي لحومنا؟
هل سنخجل يوما من وقاحتنا المبدئيّة أمام المستكرشين وهدايانا الرمزيّة أمام الحبيبات ولطفنا الصريح أمام الفقراء والمظلومين,
هل سنعتذر يوما من الذين قلبنا الموائد في أحضانهم حين شتموا مستقبلنا وأرادوا افتراس أحلامنا.
هل منع هذا القرن الثوريين حقّّا من دخول ناديه وشطب أسماءهم من قائمة ضيوفه؟
اسمح لي أيّها القرن الواحد والعشرون الذي يتصرّف كجنرال انقلابيّ من العالم الثالث ,اسمح لي أن أتحدّث إليك قليلا بعد أن تزيح القطنتين من أذنيك والنظّارتين من على عينيك وتضع مسدّسك هنا أمامي على الطاولة :
صحيح أنّ شارع اليسار في القرن المغدور قد عجّ واكتظّ بالجهلة والانتهازيين والرّعاع ,وصحيح أنّ الباب فتح على مصراعيه لعديمي الذوق والموهبة وعشّاق القبح فأقدم بعضهم على تلخيص وتلحين فقرة من (رأس المال)وقدّمها باسم الموسيقى ,ولم يتوان آخر على اغتيال الشعر بالخطابات والشعارات والكليشهات كما أقيمت المعارض للملصقات البلهاء في أروقة الفن التشكيلي وأهدرت أموال لإنتاج مسرحيات وأفلام لا تقنع حتّى المعتوهين واتّهم المتأنّق بالبرجوازية النتنة والنبيل الخلوق ببقايا الإقطاع والكمبرادور والمنفتح المتعطّش للحوار بالليبراليّة المشبوهة ومتقن اللّغات بالعمالة الواضحة ,ولكن........لا تنس أيّها السيد الذي سوف تدوم ولايته مائة عام أنّ سلفك قد أنجز أهمّ الثورات ,عمّالية كانت أم رقميّة واتّسع صدره لليمين واليسار وأنصت لفرانك سينترا كما أنصت لجاك بريل ولعبد الوهّاب كما لسيّد درويش وقرأ لهمنغواي كما لجورج اورويل و تذوّق (غارنيكا) بيكاسو كما تذوّق (صرخة) مونش وعرف اليمينيون قبل غرهم أيقونات قادمة من اليسار وأحبّوها وعلّقوها على صدور بيوتهم لأنّها تتحيّز للإنسان تماما كالأنبياء والقدّيسين ,ولا تنس أيها القرن الكريم أنّنا نجدّد ولاءنا وانتماءنا إليك ,بل ما زلنا نطمح في أن تنتمي أنت إلينا نحن الذين لا يمكن أن ينتزع الحلم منا أبدا ولطالما انتمى التاريخ للمؤمنين بالحلم والمدافعين عنه.
يعلم جورج حبش –الطبيب قبل المناضل ـ أنّ القلب خلق في اليسار وما زال في اليسار وسيبقى في جهة اليسار لذلك كان سيّد اليسار بلا منازع وبوصلة الثورة الأسطورة واحتفظ بالرأس باردا رصينا وبالقلب دافئا حنونا يقرع كأجراس الناصرة ليلة الميلاد.
ترجّل الحكيم,التحق بوديع حدّاد وغسّان كنفاني و أبو علي مصطفى والرفاق المؤسّسين في حركة القوميين العرب وترك مبضعه وبلسمه لرجال ذوي قلوب من ألماس : شفّافة ولكنها لا تنكسر ,
لم يتسنّ للأجيال الجديدة معرفة الحكيم كما ينبغي لأنّ العاصفة كانت هوجاء وانحنى إليها الكثيرون ولعلّ بعضهم يظنّه مجرّد ثوريّ ينتمي إلى مرحلة مضت ,من يعرف جورج حبش يتعرّف إلى شيىء كنّا قد قرأناه في الكتب ونظنّه مجرّد كلام رومانسي اسمه (النقاء الثوري).
أيها الحكيم ,أيها الحنوّ الأبوي العظيم , سلام على روحك الطاهرة كسجّادة أمي في صلاة الغروب.
حكيم مرزوقي