Sabri Yousef
الشَّاعر بابلو نيرودا يكتبُ حرفه كمَنْ يرسمُ على خدودِ الزُّهورِ
أناشيدَ الحنينِ والحبِّ وهلالاتِ نسائم الصَّباح
صبري يوسف - ستوكهولم،
بابلو نيرودا؛ شاعر تشيلي شامخ شموخ العباقرة، معبّقٌ ببركاتِ السَّنابل في تألّقاته الإبداعيّة الطّافحة بصورٍ مدهشة متدفّقة مثل شلَّالات نياغارا. شاعر نادر في مناغاةِ زغبِ القصيدة وقبلةِ الحبيبة، وحنينِ الحبيبة وهي تزدانُ عناقًا بينَ أحضانِ الفرحِ في كلِّ الفصول. يكتبُ حرفه كمَنْ يرسمُ على خدودِ الزُّهورِ أناشيدَ الحنينِ والحبِّ والفرحِ والجمالِ وهلالاتِ نسائم الصَّباح. شاعرٌ محبوكٌ من عبيرِ السَّوسن ومرجانِ البحرِ وتغريدِ البلابل وسقسقاتِ العصافيرِ في أحضانِ غاباتِ الفرح. يقطرُ ألقًا في انبعاثاتِ حرفِهِ مثلَ وميضِ إشراقةِ الشّمسِ وهي تقبِّلُ مروجَ الرّوحِ في أبهى انبلاجِها ورونقِها وانبهارِها. حلَّقَ بحنينِهِ وذاكرتِهِ وخيالِهِ عاليًا إلى أن لامسَ حرفُهُ بسماتِ النّجومِ، فهلَّلَتْ غيومُ السّماءِ أناشيدَ عشقٍ لحبورِ الأرضِ، وهي في أوجِ شوقِها لمذاقِ المطرِ في بدايةِ الرَّبيعِ؛ كي تسقي حنينَ الزُّهورِ واخضرارَ الأرضِ المتعطِّشة لحبورِ السّماءِ وهي تغدقُ خيراتها على جبينِ الكونِ.
يُشبهُ نيرودا ليلة قمراء تتلألأ فيها النُّجومُ بكلِّ بهائِها، ويسطعُ القمرُ ضياءً فوقَ عشّاقِ هذا العالم، كتبَ حرفَهُ بشاعريّةٍ رهيفةٍ طافحةٍ بالحبِّ والفرحِ وتجلِّياتِ القلبِ والخيالِ، فولدَتْ عبر رحلتِهِ الفسيحة معَ عوالمِ الشِّعرِ أجملَ القصائد على مدى سنين عمره، كأنّها عطايا السّماءِ المتهاطلة علينا مثلما تتهاطلُ زخَّاتُ المطرِ ونحنُ في قمّة ابتهالاتنا. تتلألأُ علينا تلألؤات النّجوم فتضيءُ ليالينا بحبورٍ منقطعِ النّظيرِ، وتتناهى إلى أسماعِنا قهقهات الأطفال وهم في أعماقِ المروجِ، يمرحونَ فوقَ أعشابِ الحنينِ شوقًا إلى أحضانِ أمّهاتهم وهنَّ يدنْدِنَّ تهويداتٍ منبعثةٍ من أزهى القصائد، غير مبالين إلَّا لتهويداتهنَّ المنسابة بعذوبةِ أنغامِها، فتغفو الأطفالُ بهناءٍ عميقٍ، وتتألَّقُ القصيدةُ لتكونَ مرآةَ الفرحِ والشّموخِ فوقَ طينِ الحياةِ!
تميَّزَ نيرودا -إضافةً لفضاءاتِهِ الشِّعريّة الباسقة- بمواقفِهِ السِّياسيّة ونشاطاتِهِ المتعدِّدة حولَ قضايا وهمومِ بلادِهِ، وتطوَّرَتْ عطاءاته إلى أنْ رُشِّحَ للرئاسةِ في بلادِهِ. ما أجملَ أن يقودَ شاعرٌ بلادَهُ إلى أبهى مناراتِ الجمالِ والحبِّ والخيرِ والعطاءاتِ الخلّاقة! لكنّهُ انحازَ إلى مساراتِ بوحِ الشِّعرِ، أكثرَ من انحيازِهِ إلى رئاسةِ الكونِ؛ فقد رأى في رحابِ الشِّعرِ وجموحِ القصيدة طموحاته الكبرى، كي يعبِّرَ عن شغفِهِ وما يموجُ في أعماقِهِ من مشاعرَ دفينة، فترجمَ لواعجَهُ برهافةٍ مبهجة، إلى أن أصبحَ من أشهرِ الشُّعراء وأكثرهم تأثيرًا في عصرِهِ من خلالِ رهافاتِ إحساسِهِ في تجسيدِ وهجِ الشّعرِ الأصيلِ، فكتبَ شعرًا لم يسبقه أحدٌ في عصره. شاعرٌ جامحٌ في رسمِ القصيدةِ بكلِّ تلاوينها وعنفوانها نحوَ ابتهالاتِ براري الرّوحِ وينابيعِ القلبِ المنفتحِ على منارةِ الحياةِ بأبهى مساراتِها، كأنّها مضمّخة بشهيقِ الشّمسِ ونكهةِ الزَّنبقِ البرِّي ونضارةِ النَّدى المتناثرِ فوقَ خدودِ الصَّباحِ.
تبرعمَ بابلو نيرودا، شاعرُ البهاءِ الكوني، في يومٍ من أيَّامِ صيف تشيلي في قرية بارال، المكتنزة بطبيعةٍ خلّابةٍ ومعرَّشةٍ بخيراتٍ وارفةٍ، قرية غارقة في العطاءاتِ وبهاءِ الجمالِ ووهجِ البوحِ، متعانقةٍ بجوٍّ شاعريٍّ بديعٍ كأنّ جو القرية هديّة منبعثة من السَّماء لجموحِ عوالم نيرودا، تُشبهُ عوالم القرية انبعاثات قصيدة شعريّة طبيعيّة منبلجة في وسطِ تشيلي كي تُسهمَ في نشرِ تلألؤات خيراتها عبر أشعارِ نيرودا في كلِّ بقاعِ الدُّنيا. تأثَّرَ نيرودا بروعةِ الأجواءِ الّتي ترعرعَ فيها وتشرَّبَ من حبقِها المنساب في شهيقِهِ وزفيرِهِ، وانعكسَ كل هذا الجمال على تجلّياتِ شعرِهِ، وراحَ يستلهمُ من عوالمِهِ قصائد عشقٍ وفرحٍ كأنّهُ في رحابِ النّعيمِ، فجاءَت القصائد مخضَّبةً بحنينٍ لا يُضاهى!
قالَ عنه الرِّوائي الكولومبي الكبير كبرئيل غارسيا ماركيز، صاحب رواية: "مئة عام من العزلة" و"الحب في زمنِ الكوليرا"، بعدَ أنْ غاصَ عميقًا في عوالمِ نيرودا الفسيحة عبرَ قراءاتِهِ الشِّعريّة في محطَّاتِ حرفِهِ المتألِّقِ إنَّ: "بابلو نيرودا من أفضلِ شعراءِ القرنِ العشرين في جميعِ لغاتِ العالم". هذا تصريح بديع من شيخ الرّوائيِّين في أميريكا اللّاتينيّة، كيفَ قال عنه كل هذا الكلام، ما لم يكُنْ نيرودا شاعر الشُّعراء في عصرِهِ وباني هندسة القصيدة بكلِّ فضاءاتِها الشّاهقة؟ وكم أدهشتني سونيتاته المئة الّتي كتبها إلى حبيبته ماتيلدا؛ تحتَ عنوان "مئة قصيدة حب إلى ماتيلدا"، خلّدَ ما تيليدا وخلّد الحب ووهج الحب عبر هذا الدِّيوان الموغل في الرُّومانسيّة، كما كتبَ عنه النّاقد الأدبي الأميريكي البروفيسور (هارولد بلووم) عبر رؤاه النَّقديّة العميقة: "لا يمكن مقارنة أي (شاعر) من شعراء الغرب بهذا الشّاعر الّذي سبقَ عصره". وقد رأى النّاقد هارولد بلووم أنَّ نيرودا سبقَ عصرَهُ، ومن يقرأ شعره يتلمَّس هكذا رؤية في مذاقِ القصيدة؛ لما في قصائدِهِ من شموخٍ إبداعي رهيف في سموِّه المنبعثِ من ثغورِ الأزاهيرِ المبلَّلةِ بوبرِ أجنحةِ الفراشاتِ، قلّما نجدُ نظيرَهُ في عالمِ الشِّعرِ بانبعاثاتِهِ وتجلِّياتِهِ السّامقةِ في دنيا الخيال الخلّاق في ذلكَ العصرِ!
عُرِفَ نيرودا منذُ بدايةِ صباه وشبابه بميولِهِ وانتمائِهِ للحزبِ الشّيوعي؛ كان شيوعيًّا يساريًّا حتّى النِّخاع، تميّز بنشاطِهِ السّياسي البارز ورؤاه الفكريّة النَّيرة، إلى أن أصبحَ عضوًا فعَّالًا في مجلسِ الشّيوخِ وعضوًا في اللُّجنةِ المركزيّة للحزب الشُّيوعي. وتجلَّى شغفه العميق بحبِّ الطَّبيعةِ منذُ باكورةِ عمرِهِ وكأنّ تشكيله المزاجي والفكري وخياله الرّهيف جامح نحوَ بهاءِ الشِّعرِ والجمالِ الخلّاقِ. وكم كانَ يغمرُهُ شعورٌ بالغبطةِ كلّما سافرَ عبر القطارِ وسط الغاباتِ المكتنفةِ باخضرارِ الأشجارِ الباسقةِ على مساحاتٍ واسعةٍ، فتشرَّبَتْ ذاكرتُهُ وخيالُهُ بروعةِ الغاباتِ واخضرارِها الممتدِّ على مدى حنينِ البصرِ، ومنحتْهُ الطّبيعةُ بجمالِها الآسر آفاقًا شهيّة على استلهامِ وهجَ الشِّعرِ الشَّفيفِ، فأصبحَتْ مصدرًا لإلهامِهِ في ترجمةِ مشاعرِهِ الشّعريّةِ الفيّاضةِ، وتنامى شغفهُ بالطَّبيعةِ والجمالِ والحبِّ والشّعرِ إلى أن غدا الشّاعر كأنّهُ جزء ممتدٌّ من روعةِ الطَّبيعةِ، جميلٌ أن يتنامى الشّاعرُ ويترعرعَ في خضمِّ الجمالِ بكلِّ آفاقِهِ الخصبةِ، ويتماهى بكلِّ طموحاتِهِ وأحلامِهِ معَ بهاءِ الطّبيعةِ واخضرارِ الحياةِ!
يبدو أنَّ قدرَ المبدعين الكبار أن ترافقَهم أقدارٌ مريرةٌ في حياتِهم؛ فقد توفيت أمّ نيرودا ولم يتجاوز شهرَهُ الثّاني، فأصبحَ منذُ شهورِهِ الأولى منعزلًا ووحيدًا، فترعرعَ في كنفِ الانعزالِ، محرومًا من أحضانِ الأمِّ الّتي أنجبتْهُ حتَّى ولو احتضنته العديد من أمّهاتِ ومربّياتِ العالم، وحالما اشتدَّ عودُهُ قليلًا وهو في باكورةِ العمرِ، ترجمَ هواجسَهُ وما كانَ يعتريه من همومٍ ومشاعر، فكتبَ العديدَ من القصائد عن الحبّ والعزلةِ ومآسي الحياةِ ضمن ديوانٍ شعريٍّ حملَ عنوان: "عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة"، مترجمًا جموحاتِهِ ومفرِّغًا معاناته وحبّه وبؤسه وشغفه في الحياةِ في فضاءِ القصيدةِ، فكانت القصيدةُ الينبوعَ الصّافي الَّذي طهَّرَهُ من رماحِ وآهاتِ الحياةِ الّتي صادفَها في محطّاتِ عمرِهِ، فركّزَ على الشِّعرِ كي يبني عالمه الّذي يحلمُ به، فلم يجدْ أجدى من حرفِهِ يبلسمُ حياته ويصدُّ جحيم الحياة الّتي يمكنُ أن تتفاقمَ عليهِ يومًا بعدَ يومٍ، في زمنٍ تفاقمَتْ فيهِ الأحداث والأقدار من كلِّ جانب. وبعدَ وفاةِ والدته: "روسا باسولاتو" بمرضِ الدّرن، انتقلت عائلته إلى تيموكو وتزوَّج والده للمرّة الثَّانية من "ترينيداد كانديا ماربيردي" وكانت بالنّسبة لنيرودا بمثابةِ أمّه؛ رعته واهتمَّتْ به اهتمامًا كبيرًا، وكانت لها عاطفة أمومة جيّاشة نحوَه. كبرَ نيرودا والتحقَ بمدرسةٍ خاصّةٍ بالبنين، وتابعَ دراستَهُ إلى أن حصلَ على دراسةِ العلومِ الإنسانيّةِ. وكان للبيئةِ الطَّبيعيّة الجميلة لمدينة تيموكو المتعانقة بجمالِ الغاباتِ والبحيراتِ والأنهار وسلاسل الجبال الجميلة دورٌ كبيرٌ في تشكيلِ العوالم الشِّعريَّة لبابلو نيرودا. وبعد ديوانِهِ الأوَّل: "عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة" الّذي تُرجمَ إلى اللّغة العربيّة عدّة مرّات، كتبَ سيرتَهُ الذّاتية الّتي عنونها: "أشهد أنّني قد عشتُ" وتُرجِمَتْ إلى العربيّةِ منذُ سبعينياتِ القرنِ الماضي.
لعبَتِ النِّساءُ دورًا محوريًّا في حياةِ بابلو نيرودا؛ فقد تزوّجَ ثلاثُ مرّاتٍ؛ تزوَّجَ من الهولنديّة الفاتنة "ماريكا" وانتهى زواجه منها بإنجابِ طفلته الأولى "مارفا مارينا"، وبعدَ وفاةِ ابنته الطّفلة، على أثرِ معاناتِها من عدّةِ أمراضٍ، تزوَّجَ من زوجته الثّانية "ديليا" الأرجنتينيّة وكانت تكبرُهُ بعشرينَ عامًا. ثمَّ وقعَ في عشقِ مطربة تشيليّة مبهرة في العشق، كانت تقيمُ في المكسيك تدعى "ماتيلدا أوريوتي" وأصبحت زوجة الشَّاعر الّتي خلّدَها في أجملِ أعمالِهِ الشّعريّة. كتبَ نيرودا لماتيلدا ديوانه الأشهر في كلّ العالم "مائة سوناتة حبّ" وتمَّت ترجمته إلى العربية: "مئة قصيدة حب إلى ماتيلدا"، عبَّر في هذا الدِّيوان عن ملحمةٍ عشقيّةٍ في الشِّعرِ، وقد هيمنَتْ ماتيلدا العاشقة الحبيبة الزّوجة على أحاسيسِ الشّاعر وأصبحَ مغرمًا بها إلى درجةِ الهيامِ.
نالَ الكثيرَ من الجوائز، منها: جائزة نوبل للآداب، وعندما عادَ إلي تشيلي استقبلَهُ الجمهور باحتفالٍ كبيرٍ في استاد "سانتياغو" وكان على رأسِ الاحتفال الرّئيس "سلفادور اللّيندي"، وبعد ذلكَ لقي الرَّئيسُ مصرعَهُ علي أثرِ الانقلابِ الّذي قادَهُ بينوشيه. ثمَّ جاءَ جنود بينوشيه إلى بيت "بابلو نيرودا"، وسألهم: ماذا تريدون؟ أجابوه: جئنا نبحث عن السّلاح في بيتك، فردّ نيرودا: "إنَّ الشِّعرَ هو سلاحي الوحيد". وبعدَها بأيّام قليلة توفي نيرودا، متأثّرًا بمرضِهِ وإحباطِهِ من الانقلابيِّين، وقال آخر جملة عن الانقلابيِّين في كتابِ سيرته الذّاتية: "لقد عادوا ليخونوا تشيلي مرَّةً أخرى".
ستوكهولم : أيلول (سيبتمر) (2019).
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
**************************
Sabri Yousef
- ماسير افراسيا جحولا
كتاباتك وتعليقات نادرة الوجود وشامخة بعلو السماء وعمق البحور وكبرياء الغرور عاش قلمك المتألق لهذا الشاعر الذي لا يضاهيه احد