التكوين المفتوح والتكوين المغلق
فروض لجماليات مختلفة في فن التصوير
يبدأ المصور فى وضع عناصر لوحاته وفقاً لأساس بنائى محدد ، وقد درجت اللوحات الكلاسيكية على إحكام ذلك الأساس فى نسق محدد مرتكزاً على تركيب " ستاتيكى " أو مغلق وقد وصلت تلك الرؤية لأوجها فى عصر النهضة خاصة فى التكوين الهرمى . إن أى متأمل للوحة فنية أو تمثال أو بناء أو قالب شعرى أوقطعة موسيقية من أعمال النهضة سيتضح له أن هناك تماثلاً متوازناً ومتوافقاً وهندسياً تأثراً بالاستلهام الواضح للأفلاطونية التى أعيد اكتشافها فى تلك الفترة ومنها انبثقت فكرة أن التماثل يتوقف على " علاقة الأجزاء بالكل" ، معنى هذا أن البنيان الخارجى سواء كان إطار صورة أو نوعاً أدبياً أومبنى معمارياً هو العنصر الأول من عناصر الالتحام ، تنتمى إليه الأجزاء المختلفة . وعلى هذا فالبناء فى عصر النهضة هو نظام مغلق الغرض منه التحكم فى الحدث المصور .
وقد بدى تأثير الأفلاطونية التى تنزع بشدة نحو النموذج التماثلى ، فى استخدام عصر النهضة للفراغ فى كل عمل فكرى ، ففى علم الفلك يتجلى فى الآصرار على الأجرام السماوية الكروية المتحدة المركز ، المتحركة حركة منتظمة ، وهو فى الدراما الوحدات الثلاث : الزمان والمكان والفعل ـ وفى التشريح فكرة أجزاء العظام المتراكبة ، وفى الشعر هيكل الصيغة الشعرية ، وفى الموسيقى الأنشودة الرباعية ـ وفى العمارة التناسب الهندسى والاستخدام المجدد للهندسة الاقليدسية ، وفى التصوير يتخذ هذا الاستخدام شكل المنظور العلمى أحادى النقطة ، فالأشكال كلها فى تصوير عصر النهضة هى أجزاء من فضاء يتجه صوب نقطة واحدة ، هى مثالياً تتوسط البنيان الذي يحتويها ، وعلى مستوى نظر المشاهد لها . وهناك احساس بالمسافة يخلقه الوهم ، ذلك أن الأشياء الأصغر ، أو الأعلى ، أو المتداخلة فى إطار الصورة تكون أبعد ، ولكن بعدها ليس إلى لما لانهاية ، لأن العين تقف دائماً عند شىء أو نقطة مادية تحتجزها . فالمكان محدود ومحصور ‘ وتشكل الأشياء المحتجزة فى نطاقه نمطاً متماثلاً ومتماسكاً فى علاقتها بالبنيان الذى يحتويها .
كذلك تأثرت فنون النهضة بنظريات كوبرنيكوس الذى قدم فى مجال العلم أول مثال للرغبة الجامحة للنظام البنيوى والتناسق ، ففرض على "الأرض" الحركات الثلاثة المتزامنة والمتسقة والدائرية ، للدورات اليومية المحورية ، والحركة المدارية السنوية ، وحركة المحور المخروطية السنوية ؛ وتبين فيما بعد أن تفسيراته كانت أدبية وجمالية أكثر من كونها رياضية وعلمية لأنه كان أكثر اهتماماً بأن يجد " بنياناً " متماسكاً ، أكثر من أن يجد حلاً رياضياً صحيحاً لحركة الكون . وهكذا فإن فكرة كوبرنيكوس عن بنيان الكون هى نفسها فكرة فنان عصر النهضة ، فقد عرف ليونباتستا ألبرتى الجمالى بأنه " تناسق كل الأجزاء ‘ فى أى موضوع تتبدى فيه ، بحيث تتلاءم الأجزاء مع بعضها البعض بتناسب وترابط ، بحيث لايمكن إضافة أى شىء إليها أوحذف أى شىء منها ، أو تغيير أى شىء فيها دون إضرار بالمجموع ." وتتبع ذلك اتباع ما سمى بنظام "الأشكال المغلقة" فى تصوير عصر النهضة الذى تبدو فيه اللوحة ذات وحدة عضوية كاملة تجعلها مكتفية بذاتها وفي غير حاجة إلى مزيد ، وكان من سمات ذلك الشكل المغلق التقابل الذى يتبين من محاولة خلق توازن بين نصفى اللوحة أفقياً ورأسياً . (1)
وتعد" السيمترية" هى أول مظاهر الشكل المغلق فى القرن السادس عشر ، تلك التى تتبين من محاولة خلق توازن بين نصفى اللوحة أفقياً ورأسياً . وتعمد القرن السابع عشر الإخلال بهذا التوازن ، ومن هنا بدا النصفان غير متماثلين . وحرص القرن السادس عشر على السيمترية حتى عند تصوير الموضوعات المتحركة فبدت أحياناً بعيدة عن الحياة والحيوية ، عند صغار المصورين ، إلا أن عظماء الكلاسيكيين قد تجنبوا عيوب السيمترية فكانوا ينظمون الشخوص فى شكل سيمترى ، وينوعون أوضاعها بحيث توحى أحياناً باللاسيمترية ، إما بتنويع الإضاءة أو بالإبتعاد عن المطابقة اللونية بين نصفى اللوحة .
ويبدو العمل الفني المنتمي إلى عصر النهضة ، كلاً تاماً متصلاً ، وهو في أساسه بسيط متجانس ، مهما كان ثراء مضمونه . لا يترك فرصة للمشاهد للتوقف عند أي من التفاصيل أو فصل أي عنصر منفرد من التأليف الكامل ، بل يدفعه إلى إدراك الأجزاء كلها في وقت واحد ، لذا كان المنظور العلمى ذا النقطة الواحدة هو أنسب طرق التعبير عن المكان فى تصوير النهضة ، فهو يؤكد رؤية المركز بوضوح و يستخدم إطاراً شبكياً من خطوط مستقيمة ، أفقية ورأسية لينظم معلومة مرئية لصورة ما ، وبعد هذا فقط يستخلص منها خطوطاً مائلة ليخلق ايهاماً بفضاء عميق ، ويحقق بامتياز فكرة التماثل والتناسق فى بنيان العمل التصويرى .
فالعمل الفنى فى عصر النهضة يكون عامة مستقراً ومواجهاً ، فهناك فضاء فسيح يزود به الموضوع المراد تصويره ، ويبدأ الحدث عامة فى نطاق الإطار ويرتد مباشرة إلى الداخل ، إلى النقطة التى تتركز فيها أهمية الموضوع . وعلى ذلك تنشأ الطاقة التى يتضمنها العمل ، لابالفعل المادى ولكن بالتوتر الحادث بين الأشياء فى علاقتها بالبنيان . وعلى ذلك يوصف العمل فى عصر النهضة بأنه نظام ساكن لأشياء متماسكة متساوية التوتر ، وكل شىء منها يشد سائر الأشياء ، وتبقى كلها ساكنة ثابتة بفعل البنيان الكلى الذى يضمها والذى قدمه باقتدار نظام الأشكال المغلقة .
والشكل الذى يناقض هذا النوع ، والذى يستبدل به هو شكل من أشكال التركيب (وهو موضوع هذا البحث الموجز ) وصفه هربرت ريد بأنه "ديناميكى ومفتوح " وهو شكل "متصاعد البناء" تكون حدود الصورة فيه حدوداً مجهولة كما يٌجهل السطح الحقيقى لقماشة الرسم : فالإحساس المكانى الذى تقدمه الصورة هو الذى ينساب إلى داخل الصورة أو خارجها ، وبينما تتقدم خطوط الحركة كما لوكانت تأتى من مصدر مشترك ، فإنها تكون متساوية متضادة : فخطوط القوة ذات طبيعة طاردة ، ولكنها متوازنة . وقد كان هذا هو الشكل النموذجى للتكوين فى مرحلة الباروك (2) ، ونستطيع أن نجد تتابعاً لهذا الشكل وتنامياً له فى الفن الحديث والمعاصر وصولاً لتجربة المعرض التى ينظرها هذا البحث .
فقد قام بتفكيك للقالب المكانى الراسخ والتكوين المقفل الذى وضعته النهضة فسعى إلى خلق شئ متحرك محلق وإلى محو الحدود والخطوط الواضحة، وايجاد انطباع بوجود اللامتناهى وغير المحصور وغير المحدود، وتحويل الوجود السكونى الجامد الموضوعى إلى صيرورة. وابتعد الباروك عن المسطح فى اتجاه العمق يعبر عن نفس النظرة (الدينامية) ونفس المعارضة لكل ما هو ثابت أو ما هو موضوع بصورة نهائية قاطعة أوله حدود ثابتة، وأخذ بنظرة للعالم يفهم فيها المكان على أنه دالة قابلة للتغيير .
وقد تأثر الباروك بالنظرة العلمية الجديدة للعالم. فالنظرية القائلة أن الأرض تدور حول الشمس، بدلا من القول بأن الكون كله يدور حول الأرض – كما كان الإعتقاد من قبل – أحدثت تغيرا حاسما فى المكانة القديمة التى كان يحتلها الإنسان فى الكون. وإذ لم يعد من الممكن من الآن النظر إلى الأرض على أنها مركز الكون، ولم يعد من الممكن النظر للإنسان ذاته على أنه هدف الخلق وغايته.
عبر الناقد الإيطالى (لويجى سالرنو) عن المبدأ الأساسى فى الباروك بقوله "لم تعد الصورة مجرد خطوط وألوان، فالفنان فى هذه الحالة يريد أن يعرب عن شئ يتجاوز الخطوط والألوان والمنظور، ويمس مشاعر الرائى وخياله" وهو لكى يثير خيال الرائى سعى إلى تحطيم الحاجز الذى يقوم بين الرائى والعمل الفنى وإلى إخفاء طابع من "اللامتناهى على الموضوع الذى يصوره "
كذلك لم تكن النظرة (الكبرنيكية) تعنى فقط أن العالم لم يعد يدور حول الأرض والإنسان، بل كانت تعنى أيضا أنه لم يعد له مركزا على الإطلاق، وإنما هو يتألف فقط من عدد من الأجزاء المتجانسة المتكافئة، التى لا تتجلى وحدتها إلا فى إنطباق قانون طبيعى شامل عليها. فتبعا لهذه النظرية، أصبح الكون لا متناهيا ولكنه متجانس، ونسقا مترابطا متصلا منظما على أساس مبدأ واحد وكلا محكما حيويا .
أثرت هذه النظرية فى فن الباروك ونقلته لمرحلة أكثر تحررا فى بناء العمل الفنى فقد سعى إلى تفكيك القالب الراسخ التشكيلى والخطى إلى شئ متحرك، محلق فى محاولة لإيجاد انطباع بوجود غير المحدود وغير المحصور واللامتناهى ولنقل صدى الفضاء والإتصال المتبادل من كل ماهو موجود وأصبح العمل الفنى فى كليته رمزا للكون بوصفه كائنا عضويا موحدا تشيع الحياة فى كل أجزائه (3).
ونستطيع أن نعقد مقارنة توضيحية بين بعض سمات الشكل المغلق الذى قدمه عصر النهضة وبين الشكل المفتوح الذى قدمه الباروك فيما يلى : أهم دعائم الشكل المغلق " التقتونى" الإنتظام الذى قد يقترب من الشكل الهندسى , وهذا يفسر شدة عنايته بالخطيات والتدرج المنتظم فى توزيع النور والظل. وتتبين هذه الظاهرة عند مقارنة لوحة للمصور الألمانى ألبرخت دورر "القرن السادس عشر" بإحدى لوحات المصور الهولندى رمبرانت " القرن السابع عشر" . فالآول حريص على استخدام خطوط منتظمة نكاد نتبين استقامتها أواستدارتها , وعلى العكس استخدم رمبرانت خطوطاً مهوشة ، أضفتها الألوان , والظلال القاتمة التى كان رمبرانت مولعاً بها .
وأسلوب "التكوين المغلق" متأثر بأسلوب العمارة فهو مثلها يخطط خطوطاً رأسية وأفقية تجعل علاقة الأشياء بعضها ببعض تبدو منتظمة ومحددة ، وعلى عكس ذلك ففى أسلوب " الأتقتونية المتفتح " يتضاءل الاهتمام بالأشكال ذات التكوين المعمارى , المكتفية بذاتها . ويصبح أهم شىء نعنى به هو نبضات الحياة التى تشعرنا بحركة المتكونات وتلونها . ففى الحالة الأولى نشعر بقيم "الكينونة" أما فى الحالة الثانية فإننا نشعر بقيم التغير والصيرورة .
ومن الأمثلة التى ذكرها فولفين فى معرض حديثه عن التكوين أو الشكل المغلق ، صور العرايا عند الإيطاليين التى تدل على مدى تركيزهم على المظهر الحسى للجسم الإنسانى وتكوينه المعمارى . أما فى حالة رمبرانت أو روبنز عند الهولانديين فالعرايا يظهرن كأنهن أطياف أو جزء من الطبيعة . فلا خطوط محددة ، أو انحناءات متعرجة بانتظام . وباختصار الشكل عند الايطاليين الخاضعين للرؤيا الكلاسيكية شكل مكثف بذاته ، أما عند الألمان فهناك ما لانهاية له من الأشكال المعبرة عن اللاتناهى واللا محدد .
وفى التكوين المفتوح تنهى اللونيات الانفصال بين مكونات الشكل , ومبدأ التعاقب قد قضى على الأسطح المنفصلة التى توحى بالثبات وأحل محلها تعاقباً متحركاً , وأنهى الاتجاه إلى الأشكال المنفتحة العلاقات الهندسية الجامدة وحولها إلى شكل " ديناميكى" معبر عن الحركة والتغير (4) .
ونستطيع أن نقول أن هذا التفكيك لوحدة العمل الفنى بمفهومها الكلاسيكى المغلق وبداية التوجه لوضع فروض جديدة للتكوين المفتوح الذى أستحدثه الباروك قد وجد له خطاً واصلاً بدأ من عصر الباروك ولم ينته بعد فقد أخذ هذا التفكيك صوراً متعددة قدمها لاحقاً تاريخ الفن بانعكاسات مختلفة ؛ فقد انفصمت وحدة التكوين المغلق القائم على التماثل وعلى الشكل المفرد المحورى وعلى مركزية التصميم . وبدأ مفكرى الفن فى بحث الأشكال الجديدة من الوحدة فى العمل الفنى الحديث ومنها ماقدمه روجر فراى فى مقدمة كتاب "المحاضرات" للسير جوشوا رينولوز عام 1905 حيث يعقد مقارنة بصرية بين لوحتين نموذجيتين من تصوير فان أيك وروبنز . بعد أن يصف وحدة النسق الشكلى وكماله فى لوحة روبنز ومدى الترابط والوحدة فى التصميم ينتقل إلى لوحة فان أيك " المذبح " ويلاحظ أن "الأجزاء عنده تتماسك عن طريق التماثل العام فى التكوين ليس غير ، وهو هنا ضعيف الدفع يحقق توافقاً مع النظم دون تلك القوة التى تشبع البصر أو تساعده (5)" . وروجر فراى فى هذا يطرح نوعاً جديداً من الوحدة فى العمل الفنى وهو الوحدة الإنفعالية أو الشعرية التى وضعها فى مقابل الوحدة البصرية التى طرحها التكوين المغلق .كذلك تحدث علماء الجشطالت الألمان ( مثل كوهلر) عن " مركز نفسى" للوحة فى مقابل " المركز الهندسى " الذى طرحه عصر النهضة .
وفى تتبع الأشكال المختلفة للتكوين المفتوح فى الفن الحديث نستطيع أن نقول أنها انطلقت من قاعدة رفض منطق بناء الصورة القائم ذات التكوين المغلق المركزى الذى أرساه عصر النهضة و كان المنظور الهندسى هو أداة تطبيقه الأولى . فمعظم أعمال التصويرالحديث ثنائية الأبعاد . وكما يقول أسعدعرابى (6) فإن "الأعمال الثنائية الأبعاد تنحى دائماً منحى الانتشار والتمدد الموازى للوحة ، بحيث تدع للمشاهد حق استمرار حرركتها على الجدار " ، وبالتالى تنتمى الأعمال التصويرية الحديث ثنائية الأبعاد للتكوينات المفتوحة لا المغلقة .
وبداية بالتأثيرية نجد أنها قد نقضت قواعد التوزيع المتوازن أو المتماثل الخاضع لنقطة رؤية موحدة ، فاللوحة الانطباعية لاتملك مركزا بصريا محدداً لبناء التكوين وتتصف بالقدرة على الإنتشار فى جميع الإتجاهات ، وكذلك لأن الانطباعية عملت على امتصاص المكان وتفكيك التركيب الصلب للأجسام. ولم تقتصر على رد الواقع إلى سطح ذى بعدين، بل هى ترده داخل ثنائية الأبعاد هذه إلى نسق من البقع التى لا شكل لها وبذلك تخفف إلى حد بعيد من ذلك التأثير الإيهامى للصورة وتتخلى عن القالب المكانى المغلق فى التكوين ." لقد كان لدى الانطباعيين رغبة فى تحريك الإطار واجتثاث فكرة قدسية النسب الذهبية ، ومن ثم إحلال التكوين المفتوح محل التكوين المقفل بهذه النسب " (7).
وفى التكعيبية بدأ الفنانون فى تحليل الشكل وإعادة بنائه مرة أخرى لتتحول المكعبات إلى سطوح مستوية متراكبة،متداخلة على نفس المستوى من التحقق والاهتمام دون إعطاء أحدها حق السيادة فى العمل والاستئثار بعين المشاهد ، ليتحول الشكل إلى معمار متساوى فى الأهمية دون التقيد بزاوية النظر التى يرونها منه أو يفرضون على الشكل نقطة رؤية موحدة بل تتحرك تلك النقطة صعوداً وهبوطاً وتلعب الظلال دوراً هاماً فى تحريك العين على شكل منفتح يحقق معماره الشامل وحدة بنائية معمارية .
كذلك نجد أن الفن التجريدى عندما سعى إلى تحرير اللون والشكل من قيد الواقع من أجل التعبير عن الفكرة أو الصورة الذهنية، تبنى مفاهيم مفتوحة للتكوين تعتمد أشكالاً أخرى للوحدة فى العمل الفنى ، فلجأت التجريدية الهندسية إلى تحقيق وحدة شكلية للعمل التصويرى عن طريق التعامل مباشرة مع قوانين الوجود: بالرأسى والأفقى، وما يحصرانه من فراغات نُسقت لتوضيح إيقاعات متتالية متنوعة تمثل الهندسة النظامية وراء كل الأشكال ، بينما لجأت التعبيرية التجريدية إلى موسيقى اللون العنيف مكتفية بتحقيق الوحدة التعبيرية فى العمل اعتماداً على حيوية الخط واللون وتدفقهما ليغمرا العمل بمد شكلى منفتح .
بينما انفتح التكوين فى الاتجاه السيريالى على عالم الأحلام بتناقضاته وشططه وبوجود نقاط بؤرية متعددة فى التكوين الواحد ، حيث نجد الشكل كثيراً ما يتفكك على أمكنة وأزمنة مختلفة ومجتمعة معاً فى آن واحد . أما فى المستقبلية فقدد تفككت وحدة العمل الفنى فى حشد متصارع من الخطوط والألوان والمساحات والأشكال المتتابعة ، بهدف اقتناص الحركة ووضع المشاهد لا أمام اللوحة بل فى خضمها .وفى فن الخداع البصرى انقسمت وحدة العمل الفنى وفق ثنائية الشكل والأرضية وهى تنتزع الشكل من الأرضية وتحرر الأرضية من الشكل ضمن حوار حى هو وليد تذبذب العلاقة بين الشكل والأرضية وتبادل الوظائف بينهما .
كذلك توقف الكثير من الفنانيين عند مشكلة التكوين المغلق والمفتوح بصور مختلفة فنجد ماتيس يستعير حلولاً تعطيه إمكانية الحركة داخل المساحة المرسومة ليقيم نوعاً من التصالح بين إطار اللوحة ومركزها متجنباً خطوط المنظور لآنها تكسر زوايا اللوحة ، فالأحمر فى تكويناته المراكشية يلتهم البعد الثالث بحيث تبدو حركة الأشكال موازية لمستوى اللوحة وليس فى عمقها المنظورى محققة بذلك حركة منفتحة للخارج وليس مغلقة وموجهة لمركز العمل ، وكانت إثارة ماتيس لتلك المشكلة سبباً أوحى لمعاصريه تولوز لوتريك و بيير بونارد إلى التجرؤ على الجدار المغلق للوحة ( إطار اللوحة ) ، وذلك بأن عرضا عملية عكسية فى بناء التكوين ، " فكانا يصورا على أرضية كبيرة بدون إطار حتى يفتحا التكوين ويمتد إلى الخارج إلى أن يصل إلى حد الاكتمال أو بالأحرى الامتلاء الفنى " ومن ثم تلبية حاجة التكوين فى النمو إلى الخارج فتنفتح مساراته بغير حدود .
وقد ربط أسعد عرابى ربطاً صائباً بين حدود اللوحة (كمفهوم تشكيلى ) وبين فكرة التكوين المغلق والتكوين المفتوح فى دراسته المعنونة " الإطار فى اللوحة التشكيلية .. ضرورة مادية أم إسار روحى " حيث قال " إن حدود اللوحة كمفهوم تشكيلى ما هى إلا مادة الإطار نفسها لأن الإثنين يشكلان معاً حدوداً للمرئي أو المادي بشكل عام ، وبالتالى فإن الإطارسواء وجد أم لم يوجد ما هو إلا نوع من الضرورة التى تمليها طريقة التعبير" (8) ، فاللوحات التى تتحرك العناصر فيها إلى الأمام والخلف جذباً ونبذاً تحتاج إلى تحديد أو إغلاق . فى حين أن اللوحات التى تبدى أشكالها حركة مسطحة ثنائية الأبعاد تحتاج إلى رؤية مفتوحة إلى خارج اللوحة .
وهكذا نجد تجليات مختلفة لفكرة التكوين المفتوح فى التصوير الحديث الذى رفض مركزية الشكل والتماثل والمنظور كأداة لتحقيق وحدة العمل التصويرى ، فالتصوير الحديث والمعاصر لم يعد يقدم لنا موضوعات ملموسة مرتبة فى فراغ يمكن لرؤيتنا التوغل فيه بالفعل ." فالأمر هنا بخلاف ذلك يبدو كما لوكانت الأشياء مطمورة فى سطح نسيج اللوحة ذاته الذى يقوم مقام الفراغ .إن الأشياء ، ووحدة الشىء المفرد ، أو وحدة الترتيب ، لم تعد تشكل موضوعاً جديراً بالتمثيل التصويرى . فزهريات عباد الشمس التى صورها فان جوخ تكون مندمجة فى النظام الترابطى لأجزاء سطح اللوحة ، تماماً مثلما هو الحال فى أية لوحة "بورتريه" حديثة ؛ والدلالة الموضوعية للأشياء المصورة لاتكاد تضيف شيئاً إلى اللوحة .
إن الخطى المتسارعة للحياة الحديثة أوحت بتفسخ الأشكال المنتظمة ، والتغيرات فى عالمنا المعاصر أدت إلى اختفاء الأشياء الراسخة والدائمة لقد بدأت وحدة توقعاتنا التصويرية فى بداية القرن العشرين تنحل وتتشذر إلى تنوع يفوق الحصر من الأشكال الممكنة ، فالصلة بين الشكل واللون بدون إشارة إلى موضوعات معينة ، هى فقط التى بقيت بوصفها نوعاً من الموسيقى المرئية التى تخاطبنا من خلال اللغة الصامتة للفن الحديث (9).
لم يعد التصوير الحديث يقدم لنا أعمالاً تتحقق فيها شروط الوحدة فى العمل التصويرى الكلاسيكى فلانجد وحدة موضوع تصويرى ذى دلالة ولا وحدة صامتة للأشياء المجسمة ولا وحدة المشهد الواحد على نحو ما فهم فى عصر المنظور الخطى على الرغم من أن البؤرة الموحدة للمنظور الخطى قد استمرت فى تجميع الاختيار التعسفى للواقع المقدم لرؤيتنا . فإطار اللوحة ينتمى على وجه التخصيص إلى هذا النوع من التصوير طالما أنه يجمع ويكتنف ، إن اللوحة المعاصرة لاتتجمع فى وحدة ما بواسطة إطارها المغلق, إذا كان لها إطار على الإطلاق , فاللوحة ـ على العكس من ذلك ـ تُجمِع الإطار . فالفنان المبدع قد استبعد الإطار ، وترابط أجزاء السطح المؤسس للوحة أصبح يتجه وراء ذاته لسياقات أخرى : سياقات حياة يتنتمى إليها ويتشكل من خلالها . سياقات فرضت فكرة الأشكال المفتوحة بل وغير المكتملة .
مراجع البحث
1. دافيد هـ . دارست : التماثل فى عصر النهضة وعصر الباروك والعلوم ، ترجمة . أحمد رضا ، ديوجين ، العدد 84 ، يناير 1985 ص 58: 63
2. د. أحمد حمدى محمود : ماوراء الفن ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1993 ، ص 165، 166
3. أرنو بريجون دلافيرنييه : روائع فن الباروك. مقال بمجلة اليونسكو. عدد 316 سبتمبر 1987 ص30
4. د. أحمد حمدى محمود : المرجع السابق ، ص 166: 168
5. هربرت ريد : الفن اليوم ، ترجمة : محمد فتحى ، جرجس عبده ، دار المعارف ، القاهرة 1981 ص77 ص 54، 55
6. أسعد عرابى : الإطار فى اللوحة التشكيلية ، مجلة فنون عربية ، العدد الأول ، دار واسط للنشر ، المملكة المتحدة ، 1982 ، ص29
7. نفس المرجع ص28
8. نفس المرجع ص 28
9. هانز جيورج جادامر : تجلى الجميل ، ترجمة د. سعيد توفيق ، المجلس الأعلى للثقافة ، المشروع القومى للترجمة ، مصر ، 1997 ، ص 197: 201
فروض لجماليات مختلفة في فن التصوير
يبدأ المصور فى وضع عناصر لوحاته وفقاً لأساس بنائى محدد ، وقد درجت اللوحات الكلاسيكية على إحكام ذلك الأساس فى نسق محدد مرتكزاً على تركيب " ستاتيكى " أو مغلق وقد وصلت تلك الرؤية لأوجها فى عصر النهضة خاصة فى التكوين الهرمى . إن أى متأمل للوحة فنية أو تمثال أو بناء أو قالب شعرى أوقطعة موسيقية من أعمال النهضة سيتضح له أن هناك تماثلاً متوازناً ومتوافقاً وهندسياً تأثراً بالاستلهام الواضح للأفلاطونية التى أعيد اكتشافها فى تلك الفترة ومنها انبثقت فكرة أن التماثل يتوقف على " علاقة الأجزاء بالكل" ، معنى هذا أن البنيان الخارجى سواء كان إطار صورة أو نوعاً أدبياً أومبنى معمارياً هو العنصر الأول من عناصر الالتحام ، تنتمى إليه الأجزاء المختلفة . وعلى هذا فالبناء فى عصر النهضة هو نظام مغلق الغرض منه التحكم فى الحدث المصور .
وقد بدى تأثير الأفلاطونية التى تنزع بشدة نحو النموذج التماثلى ، فى استخدام عصر النهضة للفراغ فى كل عمل فكرى ، ففى علم الفلك يتجلى فى الآصرار على الأجرام السماوية الكروية المتحدة المركز ، المتحركة حركة منتظمة ، وهو فى الدراما الوحدات الثلاث : الزمان والمكان والفعل ـ وفى التشريح فكرة أجزاء العظام المتراكبة ، وفى الشعر هيكل الصيغة الشعرية ، وفى الموسيقى الأنشودة الرباعية ـ وفى العمارة التناسب الهندسى والاستخدام المجدد للهندسة الاقليدسية ، وفى التصوير يتخذ هذا الاستخدام شكل المنظور العلمى أحادى النقطة ، فالأشكال كلها فى تصوير عصر النهضة هى أجزاء من فضاء يتجه صوب نقطة واحدة ، هى مثالياً تتوسط البنيان الذي يحتويها ، وعلى مستوى نظر المشاهد لها . وهناك احساس بالمسافة يخلقه الوهم ، ذلك أن الأشياء الأصغر ، أو الأعلى ، أو المتداخلة فى إطار الصورة تكون أبعد ، ولكن بعدها ليس إلى لما لانهاية ، لأن العين تقف دائماً عند شىء أو نقطة مادية تحتجزها . فالمكان محدود ومحصور ‘ وتشكل الأشياء المحتجزة فى نطاقه نمطاً متماثلاً ومتماسكاً فى علاقتها بالبنيان الذى يحتويها .
كذلك تأثرت فنون النهضة بنظريات كوبرنيكوس الذى قدم فى مجال العلم أول مثال للرغبة الجامحة للنظام البنيوى والتناسق ، ففرض على "الأرض" الحركات الثلاثة المتزامنة والمتسقة والدائرية ، للدورات اليومية المحورية ، والحركة المدارية السنوية ، وحركة المحور المخروطية السنوية ؛ وتبين فيما بعد أن تفسيراته كانت أدبية وجمالية أكثر من كونها رياضية وعلمية لأنه كان أكثر اهتماماً بأن يجد " بنياناً " متماسكاً ، أكثر من أن يجد حلاً رياضياً صحيحاً لحركة الكون . وهكذا فإن فكرة كوبرنيكوس عن بنيان الكون هى نفسها فكرة فنان عصر النهضة ، فقد عرف ليونباتستا ألبرتى الجمالى بأنه " تناسق كل الأجزاء ‘ فى أى موضوع تتبدى فيه ، بحيث تتلاءم الأجزاء مع بعضها البعض بتناسب وترابط ، بحيث لايمكن إضافة أى شىء إليها أوحذف أى شىء منها ، أو تغيير أى شىء فيها دون إضرار بالمجموع ." وتتبع ذلك اتباع ما سمى بنظام "الأشكال المغلقة" فى تصوير عصر النهضة الذى تبدو فيه اللوحة ذات وحدة عضوية كاملة تجعلها مكتفية بذاتها وفي غير حاجة إلى مزيد ، وكان من سمات ذلك الشكل المغلق التقابل الذى يتبين من محاولة خلق توازن بين نصفى اللوحة أفقياً ورأسياً . (1)
وتعد" السيمترية" هى أول مظاهر الشكل المغلق فى القرن السادس عشر ، تلك التى تتبين من محاولة خلق توازن بين نصفى اللوحة أفقياً ورأسياً . وتعمد القرن السابع عشر الإخلال بهذا التوازن ، ومن هنا بدا النصفان غير متماثلين . وحرص القرن السادس عشر على السيمترية حتى عند تصوير الموضوعات المتحركة فبدت أحياناً بعيدة عن الحياة والحيوية ، عند صغار المصورين ، إلا أن عظماء الكلاسيكيين قد تجنبوا عيوب السيمترية فكانوا ينظمون الشخوص فى شكل سيمترى ، وينوعون أوضاعها بحيث توحى أحياناً باللاسيمترية ، إما بتنويع الإضاءة أو بالإبتعاد عن المطابقة اللونية بين نصفى اللوحة .
ويبدو العمل الفني المنتمي إلى عصر النهضة ، كلاً تاماً متصلاً ، وهو في أساسه بسيط متجانس ، مهما كان ثراء مضمونه . لا يترك فرصة للمشاهد للتوقف عند أي من التفاصيل أو فصل أي عنصر منفرد من التأليف الكامل ، بل يدفعه إلى إدراك الأجزاء كلها في وقت واحد ، لذا كان المنظور العلمى ذا النقطة الواحدة هو أنسب طرق التعبير عن المكان فى تصوير النهضة ، فهو يؤكد رؤية المركز بوضوح و يستخدم إطاراً شبكياً من خطوط مستقيمة ، أفقية ورأسية لينظم معلومة مرئية لصورة ما ، وبعد هذا فقط يستخلص منها خطوطاً مائلة ليخلق ايهاماً بفضاء عميق ، ويحقق بامتياز فكرة التماثل والتناسق فى بنيان العمل التصويرى .
فالعمل الفنى فى عصر النهضة يكون عامة مستقراً ومواجهاً ، فهناك فضاء فسيح يزود به الموضوع المراد تصويره ، ويبدأ الحدث عامة فى نطاق الإطار ويرتد مباشرة إلى الداخل ، إلى النقطة التى تتركز فيها أهمية الموضوع . وعلى ذلك تنشأ الطاقة التى يتضمنها العمل ، لابالفعل المادى ولكن بالتوتر الحادث بين الأشياء فى علاقتها بالبنيان . وعلى ذلك يوصف العمل فى عصر النهضة بأنه نظام ساكن لأشياء متماسكة متساوية التوتر ، وكل شىء منها يشد سائر الأشياء ، وتبقى كلها ساكنة ثابتة بفعل البنيان الكلى الذى يضمها والذى قدمه باقتدار نظام الأشكال المغلقة .
والشكل الذى يناقض هذا النوع ، والذى يستبدل به هو شكل من أشكال التركيب (وهو موضوع هذا البحث الموجز ) وصفه هربرت ريد بأنه "ديناميكى ومفتوح " وهو شكل "متصاعد البناء" تكون حدود الصورة فيه حدوداً مجهولة كما يٌجهل السطح الحقيقى لقماشة الرسم : فالإحساس المكانى الذى تقدمه الصورة هو الذى ينساب إلى داخل الصورة أو خارجها ، وبينما تتقدم خطوط الحركة كما لوكانت تأتى من مصدر مشترك ، فإنها تكون متساوية متضادة : فخطوط القوة ذات طبيعة طاردة ، ولكنها متوازنة . وقد كان هذا هو الشكل النموذجى للتكوين فى مرحلة الباروك (2) ، ونستطيع أن نجد تتابعاً لهذا الشكل وتنامياً له فى الفن الحديث والمعاصر وصولاً لتجربة المعرض التى ينظرها هذا البحث .
فقد قام بتفكيك للقالب المكانى الراسخ والتكوين المقفل الذى وضعته النهضة فسعى إلى خلق شئ متحرك محلق وإلى محو الحدود والخطوط الواضحة، وايجاد انطباع بوجود اللامتناهى وغير المحصور وغير المحدود، وتحويل الوجود السكونى الجامد الموضوعى إلى صيرورة. وابتعد الباروك عن المسطح فى اتجاه العمق يعبر عن نفس النظرة (الدينامية) ونفس المعارضة لكل ما هو ثابت أو ما هو موضوع بصورة نهائية قاطعة أوله حدود ثابتة، وأخذ بنظرة للعالم يفهم فيها المكان على أنه دالة قابلة للتغيير .
وقد تأثر الباروك بالنظرة العلمية الجديدة للعالم. فالنظرية القائلة أن الأرض تدور حول الشمس، بدلا من القول بأن الكون كله يدور حول الأرض – كما كان الإعتقاد من قبل – أحدثت تغيرا حاسما فى المكانة القديمة التى كان يحتلها الإنسان فى الكون. وإذ لم يعد من الممكن من الآن النظر إلى الأرض على أنها مركز الكون، ولم يعد من الممكن النظر للإنسان ذاته على أنه هدف الخلق وغايته.
عبر الناقد الإيطالى (لويجى سالرنو) عن المبدأ الأساسى فى الباروك بقوله "لم تعد الصورة مجرد خطوط وألوان، فالفنان فى هذه الحالة يريد أن يعرب عن شئ يتجاوز الخطوط والألوان والمنظور، ويمس مشاعر الرائى وخياله" وهو لكى يثير خيال الرائى سعى إلى تحطيم الحاجز الذى يقوم بين الرائى والعمل الفنى وإلى إخفاء طابع من "اللامتناهى على الموضوع الذى يصوره "
كذلك لم تكن النظرة (الكبرنيكية) تعنى فقط أن العالم لم يعد يدور حول الأرض والإنسان، بل كانت تعنى أيضا أنه لم يعد له مركزا على الإطلاق، وإنما هو يتألف فقط من عدد من الأجزاء المتجانسة المتكافئة، التى لا تتجلى وحدتها إلا فى إنطباق قانون طبيعى شامل عليها. فتبعا لهذه النظرية، أصبح الكون لا متناهيا ولكنه متجانس، ونسقا مترابطا متصلا منظما على أساس مبدأ واحد وكلا محكما حيويا .
أثرت هذه النظرية فى فن الباروك ونقلته لمرحلة أكثر تحررا فى بناء العمل الفنى فقد سعى إلى تفكيك القالب الراسخ التشكيلى والخطى إلى شئ متحرك، محلق فى محاولة لإيجاد انطباع بوجود غير المحدود وغير المحصور واللامتناهى ولنقل صدى الفضاء والإتصال المتبادل من كل ماهو موجود وأصبح العمل الفنى فى كليته رمزا للكون بوصفه كائنا عضويا موحدا تشيع الحياة فى كل أجزائه (3).
ونستطيع أن نعقد مقارنة توضيحية بين بعض سمات الشكل المغلق الذى قدمه عصر النهضة وبين الشكل المفتوح الذى قدمه الباروك فيما يلى : أهم دعائم الشكل المغلق " التقتونى" الإنتظام الذى قد يقترب من الشكل الهندسى , وهذا يفسر شدة عنايته بالخطيات والتدرج المنتظم فى توزيع النور والظل. وتتبين هذه الظاهرة عند مقارنة لوحة للمصور الألمانى ألبرخت دورر "القرن السادس عشر" بإحدى لوحات المصور الهولندى رمبرانت " القرن السابع عشر" . فالآول حريص على استخدام خطوط منتظمة نكاد نتبين استقامتها أواستدارتها , وعلى العكس استخدم رمبرانت خطوطاً مهوشة ، أضفتها الألوان , والظلال القاتمة التى كان رمبرانت مولعاً بها .
وأسلوب "التكوين المغلق" متأثر بأسلوب العمارة فهو مثلها يخطط خطوطاً رأسية وأفقية تجعل علاقة الأشياء بعضها ببعض تبدو منتظمة ومحددة ، وعلى عكس ذلك ففى أسلوب " الأتقتونية المتفتح " يتضاءل الاهتمام بالأشكال ذات التكوين المعمارى , المكتفية بذاتها . ويصبح أهم شىء نعنى به هو نبضات الحياة التى تشعرنا بحركة المتكونات وتلونها . ففى الحالة الأولى نشعر بقيم "الكينونة" أما فى الحالة الثانية فإننا نشعر بقيم التغير والصيرورة .
ومن الأمثلة التى ذكرها فولفين فى معرض حديثه عن التكوين أو الشكل المغلق ، صور العرايا عند الإيطاليين التى تدل على مدى تركيزهم على المظهر الحسى للجسم الإنسانى وتكوينه المعمارى . أما فى حالة رمبرانت أو روبنز عند الهولانديين فالعرايا يظهرن كأنهن أطياف أو جزء من الطبيعة . فلا خطوط محددة ، أو انحناءات متعرجة بانتظام . وباختصار الشكل عند الايطاليين الخاضعين للرؤيا الكلاسيكية شكل مكثف بذاته ، أما عند الألمان فهناك ما لانهاية له من الأشكال المعبرة عن اللاتناهى واللا محدد .
وفى التكوين المفتوح تنهى اللونيات الانفصال بين مكونات الشكل , ومبدأ التعاقب قد قضى على الأسطح المنفصلة التى توحى بالثبات وأحل محلها تعاقباً متحركاً , وأنهى الاتجاه إلى الأشكال المنفتحة العلاقات الهندسية الجامدة وحولها إلى شكل " ديناميكى" معبر عن الحركة والتغير (4) .
ونستطيع أن نقول أن هذا التفكيك لوحدة العمل الفنى بمفهومها الكلاسيكى المغلق وبداية التوجه لوضع فروض جديدة للتكوين المفتوح الذى أستحدثه الباروك قد وجد له خطاً واصلاً بدأ من عصر الباروك ولم ينته بعد فقد أخذ هذا التفكيك صوراً متعددة قدمها لاحقاً تاريخ الفن بانعكاسات مختلفة ؛ فقد انفصمت وحدة التكوين المغلق القائم على التماثل وعلى الشكل المفرد المحورى وعلى مركزية التصميم . وبدأ مفكرى الفن فى بحث الأشكال الجديدة من الوحدة فى العمل الفنى الحديث ومنها ماقدمه روجر فراى فى مقدمة كتاب "المحاضرات" للسير جوشوا رينولوز عام 1905 حيث يعقد مقارنة بصرية بين لوحتين نموذجيتين من تصوير فان أيك وروبنز . بعد أن يصف وحدة النسق الشكلى وكماله فى لوحة روبنز ومدى الترابط والوحدة فى التصميم ينتقل إلى لوحة فان أيك " المذبح " ويلاحظ أن "الأجزاء عنده تتماسك عن طريق التماثل العام فى التكوين ليس غير ، وهو هنا ضعيف الدفع يحقق توافقاً مع النظم دون تلك القوة التى تشبع البصر أو تساعده (5)" . وروجر فراى فى هذا يطرح نوعاً جديداً من الوحدة فى العمل الفنى وهو الوحدة الإنفعالية أو الشعرية التى وضعها فى مقابل الوحدة البصرية التى طرحها التكوين المغلق .كذلك تحدث علماء الجشطالت الألمان ( مثل كوهلر) عن " مركز نفسى" للوحة فى مقابل " المركز الهندسى " الذى طرحه عصر النهضة .
وفى تتبع الأشكال المختلفة للتكوين المفتوح فى الفن الحديث نستطيع أن نقول أنها انطلقت من قاعدة رفض منطق بناء الصورة القائم ذات التكوين المغلق المركزى الذى أرساه عصر النهضة و كان المنظور الهندسى هو أداة تطبيقه الأولى . فمعظم أعمال التصويرالحديث ثنائية الأبعاد . وكما يقول أسعدعرابى (6) فإن "الأعمال الثنائية الأبعاد تنحى دائماً منحى الانتشار والتمدد الموازى للوحة ، بحيث تدع للمشاهد حق استمرار حرركتها على الجدار " ، وبالتالى تنتمى الأعمال التصويرية الحديث ثنائية الأبعاد للتكوينات المفتوحة لا المغلقة .
وبداية بالتأثيرية نجد أنها قد نقضت قواعد التوزيع المتوازن أو المتماثل الخاضع لنقطة رؤية موحدة ، فاللوحة الانطباعية لاتملك مركزا بصريا محدداً لبناء التكوين وتتصف بالقدرة على الإنتشار فى جميع الإتجاهات ، وكذلك لأن الانطباعية عملت على امتصاص المكان وتفكيك التركيب الصلب للأجسام. ولم تقتصر على رد الواقع إلى سطح ذى بعدين، بل هى ترده داخل ثنائية الأبعاد هذه إلى نسق من البقع التى لا شكل لها وبذلك تخفف إلى حد بعيد من ذلك التأثير الإيهامى للصورة وتتخلى عن القالب المكانى المغلق فى التكوين ." لقد كان لدى الانطباعيين رغبة فى تحريك الإطار واجتثاث فكرة قدسية النسب الذهبية ، ومن ثم إحلال التكوين المفتوح محل التكوين المقفل بهذه النسب " (7).
وفى التكعيبية بدأ الفنانون فى تحليل الشكل وإعادة بنائه مرة أخرى لتتحول المكعبات إلى سطوح مستوية متراكبة،متداخلة على نفس المستوى من التحقق والاهتمام دون إعطاء أحدها حق السيادة فى العمل والاستئثار بعين المشاهد ، ليتحول الشكل إلى معمار متساوى فى الأهمية دون التقيد بزاوية النظر التى يرونها منه أو يفرضون على الشكل نقطة رؤية موحدة بل تتحرك تلك النقطة صعوداً وهبوطاً وتلعب الظلال دوراً هاماً فى تحريك العين على شكل منفتح يحقق معماره الشامل وحدة بنائية معمارية .
كذلك نجد أن الفن التجريدى عندما سعى إلى تحرير اللون والشكل من قيد الواقع من أجل التعبير عن الفكرة أو الصورة الذهنية، تبنى مفاهيم مفتوحة للتكوين تعتمد أشكالاً أخرى للوحدة فى العمل الفنى ، فلجأت التجريدية الهندسية إلى تحقيق وحدة شكلية للعمل التصويرى عن طريق التعامل مباشرة مع قوانين الوجود: بالرأسى والأفقى، وما يحصرانه من فراغات نُسقت لتوضيح إيقاعات متتالية متنوعة تمثل الهندسة النظامية وراء كل الأشكال ، بينما لجأت التعبيرية التجريدية إلى موسيقى اللون العنيف مكتفية بتحقيق الوحدة التعبيرية فى العمل اعتماداً على حيوية الخط واللون وتدفقهما ليغمرا العمل بمد شكلى منفتح .
بينما انفتح التكوين فى الاتجاه السيريالى على عالم الأحلام بتناقضاته وشططه وبوجود نقاط بؤرية متعددة فى التكوين الواحد ، حيث نجد الشكل كثيراً ما يتفكك على أمكنة وأزمنة مختلفة ومجتمعة معاً فى آن واحد . أما فى المستقبلية فقدد تفككت وحدة العمل الفنى فى حشد متصارع من الخطوط والألوان والمساحات والأشكال المتتابعة ، بهدف اقتناص الحركة ووضع المشاهد لا أمام اللوحة بل فى خضمها .وفى فن الخداع البصرى انقسمت وحدة العمل الفنى وفق ثنائية الشكل والأرضية وهى تنتزع الشكل من الأرضية وتحرر الأرضية من الشكل ضمن حوار حى هو وليد تذبذب العلاقة بين الشكل والأرضية وتبادل الوظائف بينهما .
كذلك توقف الكثير من الفنانيين عند مشكلة التكوين المغلق والمفتوح بصور مختلفة فنجد ماتيس يستعير حلولاً تعطيه إمكانية الحركة داخل المساحة المرسومة ليقيم نوعاً من التصالح بين إطار اللوحة ومركزها متجنباً خطوط المنظور لآنها تكسر زوايا اللوحة ، فالأحمر فى تكويناته المراكشية يلتهم البعد الثالث بحيث تبدو حركة الأشكال موازية لمستوى اللوحة وليس فى عمقها المنظورى محققة بذلك حركة منفتحة للخارج وليس مغلقة وموجهة لمركز العمل ، وكانت إثارة ماتيس لتلك المشكلة سبباً أوحى لمعاصريه تولوز لوتريك و بيير بونارد إلى التجرؤ على الجدار المغلق للوحة ( إطار اللوحة ) ، وذلك بأن عرضا عملية عكسية فى بناء التكوين ، " فكانا يصورا على أرضية كبيرة بدون إطار حتى يفتحا التكوين ويمتد إلى الخارج إلى أن يصل إلى حد الاكتمال أو بالأحرى الامتلاء الفنى " ومن ثم تلبية حاجة التكوين فى النمو إلى الخارج فتنفتح مساراته بغير حدود .
وقد ربط أسعد عرابى ربطاً صائباً بين حدود اللوحة (كمفهوم تشكيلى ) وبين فكرة التكوين المغلق والتكوين المفتوح فى دراسته المعنونة " الإطار فى اللوحة التشكيلية .. ضرورة مادية أم إسار روحى " حيث قال " إن حدود اللوحة كمفهوم تشكيلى ما هى إلا مادة الإطار نفسها لأن الإثنين يشكلان معاً حدوداً للمرئي أو المادي بشكل عام ، وبالتالى فإن الإطارسواء وجد أم لم يوجد ما هو إلا نوع من الضرورة التى تمليها طريقة التعبير" (8) ، فاللوحات التى تتحرك العناصر فيها إلى الأمام والخلف جذباً ونبذاً تحتاج إلى تحديد أو إغلاق . فى حين أن اللوحات التى تبدى أشكالها حركة مسطحة ثنائية الأبعاد تحتاج إلى رؤية مفتوحة إلى خارج اللوحة .
وهكذا نجد تجليات مختلفة لفكرة التكوين المفتوح فى التصوير الحديث الذى رفض مركزية الشكل والتماثل والمنظور كأداة لتحقيق وحدة العمل التصويرى ، فالتصوير الحديث والمعاصر لم يعد يقدم لنا موضوعات ملموسة مرتبة فى فراغ يمكن لرؤيتنا التوغل فيه بالفعل ." فالأمر هنا بخلاف ذلك يبدو كما لوكانت الأشياء مطمورة فى سطح نسيج اللوحة ذاته الذى يقوم مقام الفراغ .إن الأشياء ، ووحدة الشىء المفرد ، أو وحدة الترتيب ، لم تعد تشكل موضوعاً جديراً بالتمثيل التصويرى . فزهريات عباد الشمس التى صورها فان جوخ تكون مندمجة فى النظام الترابطى لأجزاء سطح اللوحة ، تماماً مثلما هو الحال فى أية لوحة "بورتريه" حديثة ؛ والدلالة الموضوعية للأشياء المصورة لاتكاد تضيف شيئاً إلى اللوحة .
إن الخطى المتسارعة للحياة الحديثة أوحت بتفسخ الأشكال المنتظمة ، والتغيرات فى عالمنا المعاصر أدت إلى اختفاء الأشياء الراسخة والدائمة لقد بدأت وحدة توقعاتنا التصويرية فى بداية القرن العشرين تنحل وتتشذر إلى تنوع يفوق الحصر من الأشكال الممكنة ، فالصلة بين الشكل واللون بدون إشارة إلى موضوعات معينة ، هى فقط التى بقيت بوصفها نوعاً من الموسيقى المرئية التى تخاطبنا من خلال اللغة الصامتة للفن الحديث (9).
لم يعد التصوير الحديث يقدم لنا أعمالاً تتحقق فيها شروط الوحدة فى العمل التصويرى الكلاسيكى فلانجد وحدة موضوع تصويرى ذى دلالة ولا وحدة صامتة للأشياء المجسمة ولا وحدة المشهد الواحد على نحو ما فهم فى عصر المنظور الخطى على الرغم من أن البؤرة الموحدة للمنظور الخطى قد استمرت فى تجميع الاختيار التعسفى للواقع المقدم لرؤيتنا . فإطار اللوحة ينتمى على وجه التخصيص إلى هذا النوع من التصوير طالما أنه يجمع ويكتنف ، إن اللوحة المعاصرة لاتتجمع فى وحدة ما بواسطة إطارها المغلق, إذا كان لها إطار على الإطلاق , فاللوحة ـ على العكس من ذلك ـ تُجمِع الإطار . فالفنان المبدع قد استبعد الإطار ، وترابط أجزاء السطح المؤسس للوحة أصبح يتجه وراء ذاته لسياقات أخرى : سياقات حياة يتنتمى إليها ويتشكل من خلالها . سياقات فرضت فكرة الأشكال المفتوحة بل وغير المكتملة .
مراجع البحث
1. دافيد هـ . دارست : التماثل فى عصر النهضة وعصر الباروك والعلوم ، ترجمة . أحمد رضا ، ديوجين ، العدد 84 ، يناير 1985 ص 58: 63
2. د. أحمد حمدى محمود : ماوراء الفن ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1993 ، ص 165، 166
3. أرنو بريجون دلافيرنييه : روائع فن الباروك. مقال بمجلة اليونسكو. عدد 316 سبتمبر 1987 ص30
4. د. أحمد حمدى محمود : المرجع السابق ، ص 166: 168
5. هربرت ريد : الفن اليوم ، ترجمة : محمد فتحى ، جرجس عبده ، دار المعارف ، القاهرة 1981 ص77 ص 54، 55
6. أسعد عرابى : الإطار فى اللوحة التشكيلية ، مجلة فنون عربية ، العدد الأول ، دار واسط للنشر ، المملكة المتحدة ، 1982 ، ص29
7. نفس المرجع ص28
8. نفس المرجع ص 28
9. هانز جيورج جادامر : تجلى الجميل ، ترجمة د. سعيد توفيق ، المجلس الأعلى للثقافة ، المشروع القومى للترجمة ، مصر ، 1997 ، ص 197: 201