: قلبي على بغداد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • : قلبي على بغداد

    معارض صفحة الفن والنقد التشكيلي
    المعرض الثالث والثلاثون
    الفنان يوسف الناصر
    ومجموعته: قلبي على بغداد

    جسر الغربان *
    يوسف الناصر
    مشروع للرسم ، أطمح لتوسيعة باتجاه الشعر وربما الموسيقى ، يبدا من نقطةٍ هي الجسر الذي كان يبعد بضع عشرات من الامتار عن بيت امي ويسير في خط مرتبك مخترقا المدينة باتجاه الحدود، عابرا الصحراء نحو ارض الله الواسعة ، ضائعا في اصقاع مجهولة وبلدان غريبة لسبعة وثلاثين عاما لكي يعود بعدها الى نقطة مبتدأه : " جسر الغربان " حزينا وسعيدا ، واثقا ومرتبكا ، شيخا وصبيا ، وقد امتلأت ذاكرته وازدحم وجدانه بصور وافكار ومواقف واصوات والوان وقصص وحكايات واشياء اخرى كثيرة . لم اكن اتصور ان لا يبقى معي بعد ان ضاع كل شيء الا جسر الغربان ، والمُضاع نوعان نوع لانه انهدم او هُدم ، ونوع لانه وقع في النسيان او اختفى في الماضي الذي لا سبيل اليه .
    ما االذي تتسع له صرًة المهاجر او الهارب في ليلةٍ سوداء ، وهو ليس كمثل الهارب من حريق الذي يحاول ان ينقذ اكثر ما يستطيع من متاع واشياء ثمينة وتذكارات . الهارب عبر الحدود يميل الى ان يبقى مجهولا اذا ما وقع بايدي مطارديه ، ولانه غير واثق من انه سيعبر الى الضفة الاخرى فهو لا يريد ان تغرق معه اشياؤه التي تؤرخ وتختصر تاريخ حياته . ثم ان هناك مشكلة تبدو اقل شانا ، وهي مقدار ما يستطيع الهارب ان يحمله . صديقي الشاعرهرب ماشيا عبر صحراء السماوة قبل ان يكمل رحلته على ظهر جمل . ما حجم الكيس او الحقيبة التي يسمح الجمّال بحملها ؟ انا هربت متظاهرا بقضاء عطلة منتصف السنة الدراسية في سوريا ، هل كان بامكاني ان احمل مكتبتي مثلا ، او لوحاتي او صور عائلتي ، ما الذي كان يمكن ان اقوله لرجل الامن الشكاك ؟
    وانا اعود الى مدينة مهدومة لا اثر فيها يدلني على شيء : حارات ودروب لا اعرفها ، اسواق ومقاه ودكاكين وبيوت لم امر بها من قبل ، وجوه لا اثر فيها للملامح القديمة التي الفتها ، هيئات وسحنات غريبة وعيون لا عهد لي بها ، اهكذا تصنع سبعٌ وثلاثون سنة ؟ . لم يبق شيء من البصرة ....لاشيء . ادور في شوارع متربة محفورة مقلوعة الاحجار لا اعرفها وساحات غريبة . لم اعرف الطريق الى بيتي القديم ، ليس بسبب من عسف السنوات الطويلة ، بل لان الدروب امحت والشوارع هدمت والاشجار ماتت او قلعت ولم تبق علامة يستدل بها الغريب الذي هو انا ، حتى بدا الشك يتسلل الى نفسي .
    هل كان لي في هذه المدينة بيت حقا ؟ وهل انني عشت هنا من قبل ؟ لدي ورق يقول انني كنت مدرسا في ثانوية هنا ... هل كان ذلك واقعا ام وهما ؟ ، هل كانت امي هنا حقا ؟ لكن الورق يقول انها ماتت ماتت هنا منذ سنوات ، اهي خدعة من نوع ما لاكمال حلقة الوهم ، ونوع من اعادة صياغة ذاكرة جديدة لتاريخ لم يكن موجودا اصلا ، ووقائع لم تحدث ؟ هذه صورة لاخ لي ، لكنه غير موجود ، لم يستطع اي من اصدقائه المفترضين ان يدلني عليه ، يقولون انه مات ايضا ، هل ادعاء موت الاخرين هو جزء من نسيج مسرحية الوهم هذه ؟ هل كان لي اخ فعلا ؟ هل في انمحاء المدينة هذا وتضاريس علاماتها ما أيقظ في نفسي حاجتها الى مليء الفراغ فاستعانت بالتوهم ؟
    لكن اثرا ما ظل ثابتا ، بين اثار قليلة اخرى ، في ذاكرة الليالي البعيدة الطويلة. اثر كأن كل البلاد تجمعت فيه وتكدّس فيه الماضي كله ، الاهل والاصوات والروائح وظلال البيوت والاشجار . يكفيني ان اتذكره لكي اعفي نفسي من مهمة تذكر اشياء كثيرة اخرى . لم يغب جسر الغربان عن بالي ، الاسم الملغز ذو الايحاءات الغامضة . لو كان سمي كذلك لان غربانا كانت تعشعش بين اخشابه وتحط او تذرق عليه ، او لان المحلة المحيطة به كانت محلة للغربان او لان العابرين كانوا غربانا فقط ، اذن لاستدعى الامر ان تقدم شرحا طويلا وايضاحا لاي اغنية تكتبها عنه .
    منذ ان كنت شابا صغيرا كنت احب هذا الجسر وكنت دائما ماخوذا بسحر وغموض ارتباط الغربان به ، احب العبور عليه والوقوف فوقة والنظر اليه ، واصبحت فيما بعد احب تذكًرة باعتباره علامة كل البصرة وربما كل البلاد ورمزها . لكني اعجز عن ان اقدم سببا معقولا لاختصار البلاد والماضي كله بشيء كهذا . قد يكون ذاك الشعور الغامض الذي كان يتلبسني في حضرة الجسر ، عندما كنت هناك في طفولتي ، صار معادلا لغموض وانمحاء ذكرياتي عن اهلي وطفولتي ومدينتي .
    لعل غرابة الاسم هي التي حفزت عقلي وعواطفي ربما - انا ابحث عن سبب هنا ، ربما في طية عميقة من لا وعيي - ، على احلاله محل البلاد كلها وصيرته بديلا لها . فرغم اني كنت اسمع فيه ، عندما كنت صغيرا ، وقعا جميلا راقصا يشيع جوّا من البهجة والحركة ، لكن المرارات التي اعقبت تلك السنوات جعلتني احدق في ارتباط هذا الاسم بالصيت غير الحسن للغراب في تراثنا ، والذي يساوي احيانا الشؤم والنذير السيء والسواد ، وهو ما صار اليه ليس الجسر وحده بل البصرة أيضا والعراق كله فيما بعد . وقد تكون تلك المرارات هي التي اعادت الى وجداني وضخمت رواية بعض اللغويين اِن ( الغربان ) في لغة بصرية قديمة هي جمع ( الغريب ) ، فكم غريب عبر من هنا ؟ . تلتقي غرابة الاسم بصورة غامضة مع غرابة ولا واقعية فكرة العودة الى مكان زاولته المسرة وعانى من القسوة ، فانهدم وانمحى ولم يعد موجودا . البصرة غير موجودة ، ليس بمعنى انها تغيرت وتحولت ، لا ابدا ، هي ببساطة غير موجودة .
    للمنفيً حقل اخر للنضال اشد قسوة وتحديا من حقل نضاله اليومي من اجل العيش والانتساب الى محيطه الجديد ، وهو ابقاء الماضي متوهجا حارا وحيا ، ما دام هذا الماضي يعني البلاد ويعني رفض الاقتلاع ورفض الاذعان لارادة الاخر في تقرير مصيره الشخصي . لكنه من جهة اخرى يعيش في فوضى واختلاط وارتباك الاشياء وفقدان القدرة على وضع نظام للامنطقها وتدافعها اللامعقول ، فهو يعيش في مكانين وزمنين لا رابط بينهما .
    ألمنفى والمكان الجديد ، وهو في حالتي اوروبا ، يعني التقدم والمستقبل والحياة المتطورة الجديدة ، لكنه يضم تحت جنحه ما هو عكسه تماما ، اي الماضي البعيد البسيط البدائي المسكين . اي ان المنفيً هنا يناضل يوميا في تمرين الركض الى الامام واللحاق بالقطار الذي تجاوزه كثيرا – اذ انه يعلم انه يجلس في واحدة من اخر العربات - بينما هو يناضل ايضا من اجل ابقاء جذوة الماضي متقدة ، اي العودة الى الامس والعيش فيه ، او على الاقل ان يجعله ملاذا وحضنا وملجأ ، وفي النهاية هو يسقي الاثنين معا ، نخلة الماضي البالي ، وتفاحةالمستقبل المجهول ، ويعيشهما معا ، لان المنفيّ - وهذا اعرفه في نفسي - اضعف من ان يستطيع ان يحسم امر انتمائه .
    على ان الماضي اكثر رحمة عادة ازاء مستقبل من نفس الطينة ، فهو معروف ومكشوف ، لكن رحمته تكتسب في حالتنا درجات مضاعفة لان المستقبل هنا مصنوع من طينة اخرى ، طينة غريبة لم نألفها ، فهو لا يتدرج وينمو من شيء له اليف له تأريخ معنا ، بل ينبثق هكذا من لا مكان بقوة ودفق مخيفين ويصب في ارض مجهولة ، لا احد يري من اين يجيء والى اين يذهب .
    أمن هنا اذن ياتي جسر الغربان ؟
    انا لم اذهب في شهر اذار من سنة 2011 الى البصرة . ذهبت الى مكان اخر . ربما هو وهْم المدينة وليس المدينة بذاتها . اخذت الطائرة من مطار هيثرو الى اسطنبول ومن اسطنبول الى مطار اسمه البصرة . ختم صبي ملتح جواز سفري وفتحو لي بابا وقالوا ادخل هذه هي البصرة . عبرت دكة الباب فلم اجد شيئا ، ناداني سائق سيارة اجرة لكي ياخذني الى المدينة . مضينا في ما يشبه انبوبا من الهلام . قال انزل هذا هو العشار ، والعشار هو مركز المدينة الذي اعرفه . نزلت فما وجدت شيئا . مشيت في سديم لا نهائي . جلست في مقهى للادباء جوار اشخاص اعرف انني اعرفهم ، رغم ان اسماءهم التي قدموا انفسهم بها لا تشبه تماما تلك التي في دفتر ذاكرتي . وكذلك سحنات وجوههم ولهجتهم ، لكني اعرف انهم هم انفسهم . مشيت كمن يطفو على سطح رجراج بين انقاض و بيوت وبقايا حدائق ، لم يعرفني احد ، ولم الق التحية على احد ولم يشعر العابرون بي ، وما عرفت وجها ولا بابا ، درت ودارت بي الازقة والحارات ولم اعثر على بيت امي القديم ، ما اهتديت الى دربي الذي كنت اسلكه بين البيت والمقهى والمدرسة والحانة ، لدي العنوان : البصرة القديمة ، باب الزبير ، خلف حمام الِسيف . لم اجد الباب ولا الحمام . لم يبق سوى جسر الغربان .
    اذار، لندن في 2017
    *قرات هذا النص في ندوة عن المكان في الفن اقيمت على هامش مهرجان ( جربة الحلم ) يوم 7 تموز 2018
يعمل...
X