قصة قصيرة "حوار .. وطني" بقلمي // مصطفى يونس الجهيناوي
.. دخل رجل عظيم القامة الى حوش منزلي الكبير وكان الوقت ضحا .. من خلال هيئته المخيفة والوشام الذي يغطي صدره المكشوف تستطيع ان تتبين انه منحرف خطير ، كان يحمل عصا ضخمة من الخشب .. يبدو كهارب من معركة دامية او ان شخصا ما يطارده ..كنت حينها منشغلا بتشذيب شجرة تين عجوز في زاوية الساحة.. نزلت من السلم بسرعة .. ورأيت زوجتي تاتي من غرفة المطبخ مذعورة .. كنا نحاول استجلاء الامر.. غير ان دخول رجل اخر من الباب الخارجي لم يترك لنا فرصة لمعرفة مالذي يحدث .. كان الرجل الثاني اضخم واشد شرا وبطشا ..وكان اعورا .. سيء المنظر كالشيطان تماما .. دخل الرجل الاعور بسرعة وهو يحمل في احدى يديه سيفا كبيرا وفي الاخرى مقمعا من الفولاذ .. توقف الرجلان في قلب الساحة تماما .. يتأهبان للالتحام .. اصابني خوف شديد .. فجذبت زوجتي الى ركن بعيد واكتفينا بالمشاهدة .. حمل الرجل الاول كرسينا الخشبي اليتيم .. ورماه بعنف ليصيب الشيطان الثاني .. لكنه تفاداه في الوقت المناسب فانهال الكرسي على مائدة خشبية نستعملها للاكل .. فتطايرت صحون الفخار وسقطت زبدة افطار امي على التراب ، تناثرت حبات الزيتون وانكسرت قلة الحليب الدافئ وانشطر صحن الفخار الذي ورثته امي عن جدتي .. حاولت ان اتدخل لكن زوجتي جذبتني بشدة ومنعتني من الحركة ..
غضب الشيطان الثاني .. فالقى السيف والمقمع وركض الى زاوية اخرى وحمل جرة ضخمة من الزيت .. لم افهم حقا كيف يستطيع رجل واحد حملها الى الاعلى بتلك الطريقة! .. اذكر انني استعنت بعمي وابنه لوضعها في مكانها قرب بيت المؤونة الطيني الواسع .. ولم نثبتها حينها الا بعد عناء .. ففيها محصول الزيت كله ... كسرت الجرة .. واحدثت صوتا كالقنبلة .. واندلق الزيت الذهبي يسقي الارض.. فاحت رائحة الزيتون كالعطر .. ولكن الشيطان الاول لم يصب بالاذى .. فرشاقته مكنته من الهرب من الموت المحقق الى بيت المؤونة القريب.. اللعنة .. لقد ذهب زيتنا الى باطن الارض ..التحقت بنا امي وهي تستند الى عكازها بعد ان سمعت صوت المعركة اثناء نومها الذي بات يريحها من نوبات الربو المزمن .. اصبت بغضب شديد ولكن امي لكزتني بعكازها الخشبي القاسي .. ومنعتني من التدخل.. فعدت الى المشاهدة صاغرا .. خرج الشيطان الاول من بيت المؤونة وهو يصرخ بجنون حاملا في كلتا يديه مزودين ضخمين من الطحين احدهما من القمح والاخر من الشعير .. يا الهي انهما تعب موسم كامل ،حرثت تراب ارضهما على بغل استعرته من جاري ، ورويتهما من دمي وعرقي وماء الوادي القريب .. جمعت محصولهما بيدي وبمنجلي الذي قطع مقبضه الخشبي ولم يتسنى لي ان اصلحه .. كم تعبت امي وزوجتي في تنقية الحبوب من الحصى وتدوير دولاب الرحى الضخم لسحقها .. ثم غربلتها .. ووضع الدقيق في المزودين الكبيرين .. قذف الشيطان الاول مزودي الطحين فتحول الفضاء الى ضباب كثيف مثل الفسفور الابيض .. ورأيت طعام عائلتي وقوت اطفالي في مهب الريح، جن جنوني ، صرخت بقوة ، وانهرت على ركبتي ، ورأيت جرة السمن تصطدم بالجدار الطيني فيسيل زيتها الشهي .. تتبعها قلة العسل على التراب .. ركض الهر ليلعق السمن والعسل .. وعلا صوت ديك الجيران من بعيد.
فجأة توقفت المعركة .. وصاح الشيطان الثاني في الاول : طيب .. توقف .. توقف عن القتال .. فلنجلس للحوار ..
التفت الاول وكأنه انتبه لوجودنا للتو وسألني : هل لديكم طاولة كي نجلس انا وهو للحوار ؟..
عم الصمت والذهول .. يا لهذه الوقاحة .. لم يتكلم منا احد .. انصرفت امي وزوجتي الى اشلاء الاشياء المنزلية ، لاحصاء الخسائر .. وانظم جيش من النمل يتغذي على الدقيق والعسل .. واختفى الرجلان في جوف غرفة امي لبرهة ثم خرجا مبتسمين .. قال الشيطان الاعور :
"الحمد لله لقد توصلنا الى هدنة بعد المفاوضات ."
اردف الاول وهو يمد يمينه مصافحا غريمه :
"بعد الجلسة قررنا ان نحكم العشيرة بالوفاق بيني وبين شريكي في الحكم .. سنتداول الكرسي مناصفة .. سوف نعقد اجتماعا عاجلا .. ونعين لجانا .. لاعادة اعمار بيتكم ..".
قال الاعور وهو يضحك : "ولكن ذلك لن يكون ممكنا الا بعد اقناع القبائل المانحة .. بجدوى المعركة .. لاتوجد حرب بدون ضحايا وخسائر .. طاب يومكم .. "
خرج الرجلان متعانقين .. وعادت امي الى بيتها وهي تسعل .. في حين انشغلت زوجتي بنهر القط .. وازالة بقايا المعركة .
.. دخل رجل عظيم القامة الى حوش منزلي الكبير وكان الوقت ضحا .. من خلال هيئته المخيفة والوشام الذي يغطي صدره المكشوف تستطيع ان تتبين انه منحرف خطير ، كان يحمل عصا ضخمة من الخشب .. يبدو كهارب من معركة دامية او ان شخصا ما يطارده ..كنت حينها منشغلا بتشذيب شجرة تين عجوز في زاوية الساحة.. نزلت من السلم بسرعة .. ورأيت زوجتي تاتي من غرفة المطبخ مذعورة .. كنا نحاول استجلاء الامر.. غير ان دخول رجل اخر من الباب الخارجي لم يترك لنا فرصة لمعرفة مالذي يحدث .. كان الرجل الثاني اضخم واشد شرا وبطشا ..وكان اعورا .. سيء المنظر كالشيطان تماما .. دخل الرجل الاعور بسرعة وهو يحمل في احدى يديه سيفا كبيرا وفي الاخرى مقمعا من الفولاذ .. توقف الرجلان في قلب الساحة تماما .. يتأهبان للالتحام .. اصابني خوف شديد .. فجذبت زوجتي الى ركن بعيد واكتفينا بالمشاهدة .. حمل الرجل الاول كرسينا الخشبي اليتيم .. ورماه بعنف ليصيب الشيطان الثاني .. لكنه تفاداه في الوقت المناسب فانهال الكرسي على مائدة خشبية نستعملها للاكل .. فتطايرت صحون الفخار وسقطت زبدة افطار امي على التراب ، تناثرت حبات الزيتون وانكسرت قلة الحليب الدافئ وانشطر صحن الفخار الذي ورثته امي عن جدتي .. حاولت ان اتدخل لكن زوجتي جذبتني بشدة ومنعتني من الحركة ..
غضب الشيطان الثاني .. فالقى السيف والمقمع وركض الى زاوية اخرى وحمل جرة ضخمة من الزيت .. لم افهم حقا كيف يستطيع رجل واحد حملها الى الاعلى بتلك الطريقة! .. اذكر انني استعنت بعمي وابنه لوضعها في مكانها قرب بيت المؤونة الطيني الواسع .. ولم نثبتها حينها الا بعد عناء .. ففيها محصول الزيت كله ... كسرت الجرة .. واحدثت صوتا كالقنبلة .. واندلق الزيت الذهبي يسقي الارض.. فاحت رائحة الزيتون كالعطر .. ولكن الشيطان الاول لم يصب بالاذى .. فرشاقته مكنته من الهرب من الموت المحقق الى بيت المؤونة القريب.. اللعنة .. لقد ذهب زيتنا الى باطن الارض ..التحقت بنا امي وهي تستند الى عكازها بعد ان سمعت صوت المعركة اثناء نومها الذي بات يريحها من نوبات الربو المزمن .. اصبت بغضب شديد ولكن امي لكزتني بعكازها الخشبي القاسي .. ومنعتني من التدخل.. فعدت الى المشاهدة صاغرا .. خرج الشيطان الاول من بيت المؤونة وهو يصرخ بجنون حاملا في كلتا يديه مزودين ضخمين من الطحين احدهما من القمح والاخر من الشعير .. يا الهي انهما تعب موسم كامل ،حرثت تراب ارضهما على بغل استعرته من جاري ، ورويتهما من دمي وعرقي وماء الوادي القريب .. جمعت محصولهما بيدي وبمنجلي الذي قطع مقبضه الخشبي ولم يتسنى لي ان اصلحه .. كم تعبت امي وزوجتي في تنقية الحبوب من الحصى وتدوير دولاب الرحى الضخم لسحقها .. ثم غربلتها .. ووضع الدقيق في المزودين الكبيرين .. قذف الشيطان الاول مزودي الطحين فتحول الفضاء الى ضباب كثيف مثل الفسفور الابيض .. ورأيت طعام عائلتي وقوت اطفالي في مهب الريح، جن جنوني ، صرخت بقوة ، وانهرت على ركبتي ، ورأيت جرة السمن تصطدم بالجدار الطيني فيسيل زيتها الشهي .. تتبعها قلة العسل على التراب .. ركض الهر ليلعق السمن والعسل .. وعلا صوت ديك الجيران من بعيد.
فجأة توقفت المعركة .. وصاح الشيطان الثاني في الاول : طيب .. توقف .. توقف عن القتال .. فلنجلس للحوار ..
التفت الاول وكأنه انتبه لوجودنا للتو وسألني : هل لديكم طاولة كي نجلس انا وهو للحوار ؟..
عم الصمت والذهول .. يا لهذه الوقاحة .. لم يتكلم منا احد .. انصرفت امي وزوجتي الى اشلاء الاشياء المنزلية ، لاحصاء الخسائر .. وانظم جيش من النمل يتغذي على الدقيق والعسل .. واختفى الرجلان في جوف غرفة امي لبرهة ثم خرجا مبتسمين .. قال الشيطان الاعور :
"الحمد لله لقد توصلنا الى هدنة بعد المفاوضات ."
اردف الاول وهو يمد يمينه مصافحا غريمه :
"بعد الجلسة قررنا ان نحكم العشيرة بالوفاق بيني وبين شريكي في الحكم .. سنتداول الكرسي مناصفة .. سوف نعقد اجتماعا عاجلا .. ونعين لجانا .. لاعادة اعمار بيتكم ..".
قال الاعور وهو يضحك : "ولكن ذلك لن يكون ممكنا الا بعد اقناع القبائل المانحة .. بجدوى المعركة .. لاتوجد حرب بدون ضحايا وخسائر .. طاب يومكم .. "
خرج الرجلان متعانقين .. وعادت امي الى بيتها وهي تسعل .. في حين انشغلت زوجتي بنهر القط .. وازالة بقايا المعركة .