رسالة إلى محمد شكري: الكتابة بيْن الصمت والثرثرة
آخر تحديث: 2022-06-05
محمد براده
أصدقكَ القول بأنني لا أدرك تماماً ما الذي حدا بي إلى كتابة هذه الرسالة، خلال زيارتي إلى الوطن المغرب بعد طول غياب. لعلَّه الشعور بالغُربة ما يجعلني ألتجئ إلى ظلال الصداقة الوارفة عندك أنت الذي رحلتَ قبل الأوان، إذْ شعرتُ أن الأصدقاء الأحياء منشغلون بهموم المرحلة الجديدة التي تبذل الجهود لتوديع جائِحة «كوفيد 19»، ومعانقة التحوُّلات؟
لا يهمّ الدافع، لأنني في حاجة إلى مَنْ يقرأ رسالتي بقلبٍ متواطئ، يستوعب ما وراء الكلمات. وأنا أعرف أنك لن تردّ على رسالتي كما كنتَ تفعلُ أيامَ «وردٌ ورماد»، لكنني أتوَهّمُ أن رسالتي ستصل إليكَ حيث أنتَ. ولكيْ أحدّد دوافع الكتابة إليك، أقول إنه السياق المُجتمعي العام الذي يستعصي على الفهم ما جعلني أكتب إليك، لأنني أغبط الأصدقاء الذين «بادروا» إلى الرحيل عن الحياة الدنيا تلافياً لمرحلة الانحدار التي تجعلنا نُراقب في عجز، تدحْرُجَ المُثل والأحلام التي تشبثنا بها عند مطلع الشباب حين عانقنا أوْهامَ صوْغ العَالَم من جديد… كأنكمْ هناك، وراء الغيوم في سماوات العُلا، تنظرون إلينا في إشفاق، مُستغْربينَ استمرارنا على نفس الطريق. ولأكون صريحاً معك، لم أجسرْ على زيارة مدينة طنجة بعد رحيلك، خشية أن أفتقد ذلك المناخ السحري الذي كنتَ تعرف كيف تنسجُ خيوطه لتُلبِس الفضاءَ والناس والذكرياتِ روحاً متجدِّدة، مُتنوِّعة الألوان. طنجة، معكَ، كانت تبدو رحِماً وَلودا لا يكفّ عن ابتكار المُفاجآت ونسج المحكيات. لذلك اعتبرتُك، في جزءٍ من كيانك، صنيعة تلك المدينة الميثولوجية التي عرفَتْ أن تبتدعَ من مغارات هرقل وأمواج الأطلسي والمتوسط، كاتباً جسوراً مثلك، استطاع أن يكسّر الصمت. لذلك كان خُبزك الحافي وجبةً دسِمَة جدّدتْ شهية القُرَّاء، وأيضاً أرغمتْ الروائيين المغاربة على مُراجعة النهج الذي ظلوا يتأرجحون بين مسالكه، من رومانسية وواقعية وطلائعية مُقتبَسَة في عجالة وابتسار. كانت إطلالتك على الحقل الأدبي ناقوساً مُنبِّهاً للكُتَّاب الذين اعتبروا الكتابة وصفة جاهزة تُلقن في مدرجات الجامعة أو من خلال حفظ الأشعار وملء الذاكرة بالغث والسمين. أنت نزعت القناع، وكشفتَ تلك الجوانب الخفية التي يعيشها الفرد بكيانه كاملاً وهو يواجه حيْف المُجتمع وظلم ذوي القربى، وقلق الوحدة والتشرُّد. أدركتَ أنك، رغم كلّ شيء، تظلّ مسؤولاً عن مصيرك، مُطالباً بتحرير ذاتك.
من قبل أن تكتب، كنت تتكلَّم وسط حومة الحياة وأنت تُجابه مصيرك وتثبت وجودك. وعندما تعلَّمت القراءة والكتابة في سنٍّ متأخِّرة، أدركتَ أن عليك أن تكتب ما أهمله التاريخ الرسمي وما يتواطأ الجميع على نسيانه. إلّا أنك سرعان ما أدركتَ أن الكتابة تنطوي على مخاطر ومزالق إذا انبنتْ على الثرثرة وإعادة إنتاج ما اختزنته الذاكرة من كتابات الآخرين. وهذا ما عبّرتَ عنه في إحدى رسائلك بعد أن نشرتُ لك في مجلة «آفاق» فصلاً من «الخبز الحافي». قلتَ في تلك الرسالة: «… كم أتمنّى أن أكون بعيداً في بلدٍ لا يعرفني فيه أحدٌ، ليكون لي من جديد أوّلُ صديق، أوّلُ خصم، أوّلُ عملٍ لمْ أمارسه من قبل، إلى ما لا نهاية من الأوائل». (21 – -12 1977). وفي نفس الفترة، خلال إقامتك بمُستشفى الأمراض العصبية في مدينة تطوان، عبَّرت لي عن وطأة مسؤولية الكتابة من خلال هذه المُقارنة: «سأبقى هنا حتى آخر هذا الشهر، ثمَّ أعود إلى طنجة لاستئناف عملي مُغيِّراً نمط حياتي. بعد اليوم، سأعيش عاقلاً وأموتُ مجنوناً. أمّا «دون كيخوتي» فقد عاش مجنوناً وماتَ عاقلاً». نعم، تلك هي أكبر هزيمة تنتظرنا: أن نُدرك، في نهاية المطاف، أنْ لا شيء يتغيَّر وفق ما أمّلناه، أو يتوضّح لنا أنه يتغيَّر حسب منطقٍ وإِوَالِياتٍ تنِدّ عن فهمنا، وعن طموحات «دون كيخوتي» الحالم الساذج.
تذكَّرتُكَ يا شكري أيضاً، من خلال ما قاله كاتِبك المُفضَّل، هنري ميللر: «أكتب لأستطيع أن أصمتَ في ما تبقى من الوقت». كأنما الكتابة تجدِّد قُدرتنا على الصمت لنمتلئ بما يحيط بنا ويُسائلنا ويُحاصرنا من ألغاز». لكن الضجيج واللغط والاجترار هو ما يملأ الساحة هنا، بل في كلّ أرجاء العَالَم الفاقد البوصلة أمام الجَائِحة، وأمام اختلال موازين الطبيعة وتدهور البيئة… ولعلّك كنت ستجد نفسك ضائعاً، تائهاً وسط ضوضاء الشبكات الاجتماعية والتعليقات المُتنافرة، والعدوانية المجانية، والثرثرة المُحنّطة… وما يشبه ذلك، يُطالعك في ما يُنشر من نصوص وروايات: ستتوقَّف، مِثلي، عند ما تكتبه أقلام شابّة تستوحي هذا المناخ السّديمي الذي يطمس الأفق أمام مَنْ يتطلّع إلى معانقة الحياة، وستُعرض عن الذين يُكرِّرون ما استنسخوه في عشرات الكتب التي نشروها مُضاهية ما بلغتْهُ أعمارهم المديدة من سنين. تلك سُنّة الأدب والحياة: إبداع للبهرجة والتسلية والثرثرة والقول المُعاد، وإبداع يستوحي «الجُرح السّريّ» وأسئلة الوجود ليُخاطب الروح الصّنو والوجدان المُشترك، علّه يبلغ منطقة ذلك المجهول الذي تحدَّث عنه الشاعر «ريلكه» (1875 – 1926): «كلما زادَ صمتُنا، استطاع المجهولُ النفاذَ بِفعاليةٍ إلى أعماقنا». نعم، الصمتُ يوطّد علاقتنا بذلك المجهول الذي قد يُضيف عناصر جديدة إلى حياتنا. في كتابة الإبداع، تُطالعنا صفحات يضطر فيها الكاتب إلى الصمت، ليتيح للقارئ أن يُخمِّن بدوره ذلك الذي يستعصي على التعبير واللّغة المشاع. كأنّما نقلُ عدوى الصمت إلى القارئ يُسعف على التقاطِ ما استعصى على التعبير؟ هل تذكر تلك الرواية القصيرة المُوحية التي نُشرتْ إبّان احتلال النازيين لفرنسا بعنوان «صمْتُ البحر» واسم كاتب مُستعار «فيركوس»، سنة 1942؟ في هذه الرواية تحرص الكتابة على الإشارة إلى صَمْتها الاضطراري، غير أنها تجعل القارئ يعيش لِحسابه الخاص مغامرةَ تخمين ذلك الصمت الضّاجّ، الموحي بظلال المأساة.
أريد أن أقول لك، في نهاية هذه الرسالة أيها الغائب/الحاضر، إن الصمت الذي أحاول الاقتراب منه، هو ذلك الذي يكتسي إلى جانب وظيفته الجمالية والتعبيرية، قيمة معنوية تحُولُ دون التحايُل على القُرَّاء من خلال تسويق الإبداع مصحوباً بالضجة والتفخيم، وادّعاء الريادة والعالمية وما لستُ أدري من الفتوحات. ذلك أن العمل الإبداعي لا يجد تقييمه الحقيقي إلّا في حضرة الصمت والعزلة، ليتمكَّن القارئ والناقد من أن يُجاهرا برأيهما، بعيداً عن كلّ التأثيرات المُصطنعة؛ وهذا ما أجادَ التعبير عنه بدقةٍ وذكاء، «رولان بارتْ» قائلاً: «… هنا إذنْ، يجب أن يبدأ بحثُنا. في هذه اللحظة، حيث الكُتَّاب المُحدَّدون والمُتواشِجون بالآراء التي يُعلنونها، والشعارات التي يُدافعون عنها، والبيانات التي يُوقعونها، والمُؤتمرات التي يحضرونها، والمجلّات التي يكتبون فيها، يتواروْن مع ذلك وراءَ عملهم الإبداعي، ويفرضون الصمتَ على شخصهم، فاسحين المجالَ ليظهرَ من ورائهم الأدبُ في عزلته واقفاً تحت نظرة التاريخ والحقيقة».
أعتقد أن هذا المقياس الذي عبَّر عنه «بارتْ»، هو مقياس لا يبلى بالنسبة لِمَنْ يميِّز بين الأدب الإبداعي وأدب الكيتش والتسلية واجترار الذاكرة. وهو مقياس صالح للتمييز أيضاً بين الإبداع واللاإبداع في حقلٍ أدبيّ مثل حقلنا، لا يتوفَّر على الشروط الأساس لانتظام تلك العلاقة الحرّة والضرورية بين المُبدعين والقُرَّاء والنُقَّاد؛ أيْ تلك العلاقة التي لا تخضع للمُجامَلة أو للصداقات، والتي لا تسمح باصطناع طقوس التكريم التي يسعى بعض الكُتَّاب إلى تحضيرها علانية أو من وراء ستار.
مجلة «الدوحة»