عمارة الريبة: هوس البنايات الكبرى والشوارع الواسعة
آخر تحديث: 2022-06-04
عزت القمحاوي
من بين أحداث السنة الأولى للثورة الفرنسية، مسيرة نسائية انطلقت في 5 أكتوبر 1789 إلى قصر فرساي، وكان على رأس مطالبها عودة الملك لويس السادس عشر للإقامة في باريس كدليل على حسن نيته في الإنصات لمتاعب الشعب.
كان فرساي يبتعد عن قلب باريس بنحو عشرين كيلو مترًا، وهو في الأصل بيت ريفي صغير بناه لويس الثالث عشر عام 1623 كاستراحة في ضاحية فرساي التي يمارس فيها هواية الصيد، قبل أن يأمر لويس الرابع عشر بتوسعته وتحويله إلى مقر دائم للحكم.
مطلب الثائرات الفرنسيات كان التعبير التاريخي الأشهر وربما الأول عن الوعي بخطورة انفصال الحكم عن الشعب عمرانيًا. لا يحدث ذلك الانفصال إلا عندما تتصاعد الريبة إلى حد لا يكفي معه انغلاق السور واختفاء الشرفة، فيسعى الأغنياء وتسعى السلطة إلى الانفصال التام.
كانت الخدمات في باريس متردية؛ شوارع القرون الوسطى الضيقة لا تستوعب الاحتياجات العمرانية التي واكبت الإصلاحات الاجتماعية للثورة.
من المفارقات أن يأتي التحديث على يد نابليون الثالث بعد انقلابه على الثورة وإعلان الإمبراطورية الجديدة. ارتبط تحديث نابليون العمراني باسم الإداري والمهندس جورج أوجين هاوسمان. تضمن المشروع شق الطرق الواسعة التي تسهل نشر القوات وقمع أية ثورات أو تمردات محتملة، لكن هذا لم يكن الهدف الوحيد لدى الديكتاتور المؤمن بفكر الـسان سيمونيين.
هناك ولع لدى الحكام المطلقين بكل ما هو مادي وبارز للعيان، ولا شيء يحقق هذه الغاية أكثر من العمارة وتخطيط المدن. لكن يُشترط أن تكون لدى الديكتاتور ثقافة وخطط بعيدة النظر
كان من بين أهداف نابليون خلق المظهر الاحتفالي الذي نلمسه في باريس إلى اليوم من خلال ربط المعالم الكبرى ببعضها البعض، وتحديث شبكات المياه والصرف الصحي، وإنشاء الحدائق باعتبارها مكانًا للنزهة والتجانس الاجتماعي، أنشأ أربع حدائق شاسعة المساحة في الاتجاهات الأربع للبوصلة، بالإضافة إلى عشرين منتزها أصغر في الأحياء أطلق عليها الصالونات الخضراء مع إحياء الحدائق القديمة.
وللمرة الأولى انفصلت الوظيفة الصناعية عن الإسكان في باريس، لكن استمرت الوظيفة التجارية، وتدعمت، إذ كان عائد بيع المتاجر الكبيرة على الشوارع الواسعة أحد أوجه الإنفاق على مشروع التطوير. تقوم هذه المتاجر بدور مساعد في ربط السكان وخلق التناغم بينهم بتداخل التريض والتسكع وارتياد المقاهي مع التسوق. وبهذا يتحول “الطريق” إلى “شارع” بمعناه الاجتماعي.
تحديث نابليون/هاوسمان صار نموذجًا للأحلام الكبرى دون أن يستطيع مشروع آخر أن يقاربه في شموليته وإعادة خلقه لقلب المدينة عبر عمل استمر على مدار سبعة عشر عامًا، تم بالكثير من العدوان على الملكيات الخاصة والتقدير المتدني للمباني المصادَرة. شرد المشروع 350 ألف باريسي، ولقي الكثير من المعارضة والنقد السياسي والأسى لدى عشاق المدينة، ومن بين المعارضات الباقية رثاء الشاعر شارل بودلير لباريس في قصيدته البجعة حيث الذكريات أثمن وأثقل من الحجر. لكن المعارضة لم تمنع المدن الأخرى من التطلع إلى باريس، وأن تكون مثالًا لأحلام التطوير في أوروبا وغيرها من بلاد العالم، بما فيها نموذج وسط القاهرة الذي أنجزه الخديو إسماعيل بالطبع.
ظل النموذج هاجسًا لديكتاتوريي القرن العشرين. رأينا هذا الولع بالبناءات الضخمة والشوارع الاستعراضية في مشروعات النازيين والفاشيين التي لم تزل من علامات روما وبرلين وعديد المدن الألمانية.
في زيارة استمرت ساعات قليلة لباريس؛ رأى هتلر مع أحد مهندسيه المفضلين كل معالم المدينة، واستقر في عقله اسم هاوسمان بوصفه أعظم مهندس في التاريخ.
حسب مذكرات ألبرت شبير* كبير مهندسي الرايخ، كان هتلر يتمنى أن يكون مهندسًا، وتمحور جنونه حول قاعة الشعب التي ستدور حولها برلين وتصبح رمزًا لألمانيا النازية الموحدة. كان هتلر يرى أن تجربته السياسية ستعيش مع عمارته طويلًا، وبعد ألف عام ينبغي أن تكون خرائبها في عظمة خرائب المعابد اليونانية والرومانية. كان الديكتاتور يحلم بخلود مظاهر قوته حتى عندما تصبح أنقاضًا.
هيأ لنفسه نظرية ترضي غروره، معتبرًا الحضارتين اليونانية والرومانية إرثًا ألمانيًا، لأن اليونانيين والرومان، بحسبه، يشتركون مع الألمان في الجنس الآري، لذا تعامل بعداء مع الحداثة وطرد ممثلي عمارة الباوهاوس.
أراد عمارة تستوحي العمارة الرومانية مع بعض التحديث، لتستحق لقب عمارة الشعب الاشتراكية.
كان مشروع قاعة الشعب أعز أحلام هتلر، بتصميم كبير مهندسي الرايخ ألبرت شبير، بارتفاع 290 مترًا باعتباره الارتفاع الأكبر أوروبيًا لتجسيد مستقبل الأمة الجرمانية، لكن المشروع تلقى ضربة أزعجت هتلر بشدة، فقد علم بمشروع قصر السوفييت بارتفاع 495 مترًا قبل أن يبدأ بناء قاعة الشعب.
يفسر شبير أثر هذا الإحباط بقرار هتلر غزو الاتحاد السوفيتي، إذ يقول في مذكراته “تأكدت أن مبنى موسكو كان قد سيطر على عقله بدرجة لم يكن مستعدًا للاعتراف بها”، ولم تكن هذه الملاحظة بعيدة عن الواقع؛ فمع تقدم جيوشه نحو موسكو قال “الآن ستكون نهاية مبانيهم مرة واحدة وللأبد”.
وُضعت بذرة عمارة العزلة في عهد جمال عبدالناصر، في الإسكندرية عبر شركة المعمورة التي ابتدعت مبدأ خصخصة البحر لصالح سكان المعمورة
تمكن هتلر من تغيير وجوه عدة مدن ألمانية، ووصل هوسه حد اعتبار الدمار الذي تسببه غارات الحلفاء خطوة تُسهِّل إعادة صياغة المدن الألمانية. كان واعيًا بدور تخطيط المدن وإنشاء الطرق الجديدة الواسعة في السيطرة ودور العمارة المهيبة في تحقيق الرهبة في النفوس، يقول شبير “كانت الأنصاب الضخمة إحدى وسائله لإرهاب المجموع”.
موسوليني، التابع المولع بهتلر والحذِر منه في الوقت ذاته، كان واعيًا تمامًا بالأثر العاطفي للعمارة. في مذاكرات المعماريين المقربين منه قصص مشابهة لما يرويه شبير عن هتلر. في سبيل أحلامه نقل الديكتاتور الإيطالي آثارًا ودفن الكثير منها تحت الطرق التي شقها في روما وغيرت جغرافيا المدينة، إلى الأبد.
سقط موسوليني وبقيت عمارته، واستمر تخطيطه الجديد لروما، وبين وقت وآخر يتحدث بعض الحالمين عن ضرورة إعادة التخطيط القديم للمدينة من أجل إعادة مبانيها المركزية القديمة كالبانثيون والكوليسيوم إلى الصدارة، لكن ذلك يظل مجرد حلم؛ لأن الطرق التي شقها موسوليني صارت أساسية في شبكة مرور روما الآن.
كان الديكتاتور الإيطالي مفتونًا بـالحركة المستقبلية، Futurism، وهي حركة أوروبية أهم أعلامها إيطاليون وبينهم مارينيتي، مصري النشأة، وأراد عمارة تحتفي بقيم المستقبلية مثل القوة والسرعة والمرونة. واستطاع المهندسون أن يحافظوا على شيء من التوازن بين تحقيق مبادئ المستقبلية والوفاء لروما القديمة. كما غالطوا الديكتاتور قليلًا وفاءً لتراث المدينة المعماري، ويبدو هذا جليًا في تصميمات حي EUR في العاصمة روما، بجاداته الواسعة الصالحة للاستعراضات.
هناك ولع لدى الحكام المطلقين بكل ما هو مادي وبارز للعيان، ولا شيء يحقق هذه الغاية أكثر من العمارة وتخطيط المدن. لكن يُشترط أن تكون لدى الديكتاتور ثقافة وخطط بعيدة النظر.
وهناك فارق مهم وحاسم بين ما يريده الديكتاتور الواثق من العمارة وما يريده الديكتاتور الخائف. الديكتاتور المنتصر أو الواثق من النصر بحاجة إلى الساحات الكبرى المؤهلة للاحتفال، الخائف يعمد إلى تضييق الفضاءات العامة، من الميادين والأرصفة وتجريد الشارع من وظيفته الاجتماعية. وهذا الإدراك لا يتطلب نباهة أو ثقافة خاصة، إذ بوسع الديكتاتور أن يدركه بحدسه وغريزته.
عمارة العزلة في مصر
خلقت الثورة الفرنسية حاجات عمرانية جديدة في باريس، استوعبته تعديلات نابليون الجذرية، وبالمثل خلقت تحولات يوليو في مصر حاجات عمرانية جديدة بتوسعها في سياسات التوظيف التي دفعت بالهجرة الداخلية من الأقاليم إلى القاهرة.
ما يبدو من سيرورة عمران القاهرة يؤكد أن ضباط يوليو لم يكن لديهم تصور عن الحراك الديموجرافي الذي ستقوده حركة تصنيع كبرى تركزت في القاهرة، فنشأت العشوائيات، بل قادت الدولة نفسها هذه العشوائية في شبرا الخيمة عندما وسَّعت المصانع الصغيرة بعد تأميمها وأنشأت غيرها، فأفسدت منطقة زراعية ضخمة، صارت مع الوقت إفسادًا لمحافظة القليوبية الزراعية كلها.
الدمار ذاته لحق بمنتجع حلوان الصحي بإنشاء مصنع الحديد والصلب والصناعات الأخرى في المنطقة ونشأت حولها مساكن العمال المخططة منها والعشوائية.
نفتقر إلى الوثيقة التاريخية التي تكشف الصلة بين السياسي والمعماري في مصر، بعكس الحالة الأوروبية. لا نعرف لماذا يقام حي سكني على هذا النحو أو ذاك، ولماذا يُغلق هذا الشارع أو يتسع، وانقطعت الصلة بين السياسي والمعماري
برج القاهرة ومبنى ماسبيرو أكبر مأثرتين معماريتين أنجزا في فترة الراحة القصيرة بين العدوان الثلاثي والنكسة، وغيرهما لا نذكر أنصابًا مهمة أو بنايات مهمة تُمثِّل رؤية حركة يوليو للعمارة، أما فيما يخص البناء الاجتماعي للمدينة، فالغريب أن الحركة التي حملت شعار المساواة هي التي أسست للانفصال.
وُضعت بذرة عمارة العزلة في عهد جمال عبدالناصر، في الإسكندرية عبر شركة المعمورة التي ابتدعت مبدأ خصخصة البحر لصالح سكان المعمورة، هذا الكومباوند الشاطئي الأول الذي بُني في عهد عبد الناصر، واكتسب أسواره في عهد السادات، وفقد أناقته في عهد مبارك.
مدينة نصر كنموذج للعزلة
في القاهرة كان تأسيس ضاحية مدينة نصر بقرار من عبد الناصر أواخر ستينيات القرن العشرين. ويمكننا أن نعتبر تخطيطها الصارم بروفة أولى للتجمعات عديمة التضامن التي نشأت في منتصف التسعينيات.
لم تعرف مدينة نصر أسوار الكومباوند التي تفصل سكانها عن غيرهم، لكنها تفتقر إلى الميدان. شوارعها مستقيمة عرضية تتقاطع مع شوارع طولية بزوايا قائمة لا تعرف ليونة التعرج والانحناء. نقاط تقاطع خطوط الطول والعرض ليست ميادينًا بالمفهوم المعماري للميدان كفضاء للاجتماع في الاحتفال والاحتجاج. ارتفعت المساكن فيها بين فيلات من طابق وطابقين وعمارات من أربعة طوابق فوق الأرضي، مع فراغ ثلاثة أمتار من الجهات الأربع لكل مبنى، بلا محال تجارية في العمارات. وتخدم كل مربع سكني صغير حديقة صغيرة على طرف منها سوق مكون من عدة محال سيئة التنفيذ، اتخذت من الحدائق الصغيرة الملاصقة مكبًا لنفاياتها فيما بعد.
انفصال الوظيفة التجارية عن العمارة السكنية حرم الشارع من ألفته، واشتراط الفراغ من جميع جهات كل بيت، منع الوشوشة بين المنازل، وأبرز عزلة كل عمارة، متيحًا الفرصة لنمط الإسكان العائلي المحافظ؛ يبني الأب لنفسه ولأبنائه ويضرب سورًا على الفضاء الخاص به، لينغلق على الأسرة باب واحد دون حاجة إلى التعامل مع جيران.
فتح هذا النمط من التنظيم الباب للتشوش البصري، حيث اختار كل بيت ارتفاع أسقفه وبالتالي اختلفت ارتفاعات الشرفات وأشكالها، بالإضافة إلى عشوائية خط التنظيم حيث يلتزم البعض بالاشتراطات القانونية للارتداد والبعض لا يلتزم، واثقًا من قدرته على تسوية الموضوع برشوة صغيرة لممثل الإدارة التي بدأت في وقت لاحق غض عن شرط الارتفاع، فصارت هناك عمارة من عشرين طابقًا تسحق بجوارها فيلا أو عمارة بالاشتراطات القديمة، وصارت الفراغات بين العمارات مقاه ومطاعم ومحال رخيصة، أو تحولت إلى مزابل لتخزين الكراكيب في كثير من الأحيان.
ليس في تخطيط مدينة نصر خدمات اجتماعية وثقافية تخلق لُحمة بين سكان هذا الحي، الذي ظل مجرد ثكنات للمبيت، يختلف سكانها إلى سينمات ومسارح ومطاعم وحانات وسط البلد ومصر الجديدة، بل إن القليل من سكانها هو مَن يحتاج إلى تلك الخدمات، لأن هذا النموذج المحافظ اجتذب سكانه.
أُضيفت مع الوقت إلى مدينة نصر حديقتان كبيرتان؛ الدولية والطفل لكنهما مسورتان، ولكل منهما بوابات ورسوم دخول مهما كانت صغيرة؛ فهي تباعد بين الحديقتين ومفهوم الخدمة العامة والأفق المفتوح في حدائق المدن، من حديقة الهايد بارك في لندن، إلى غابة لوكسمبورج في باريس، والكثير من مدن العالم الثالث، وبينها مدن المغرب التي بدأت بها منذ سنوات خطة لإعادة التأهيل وفي القلب من هذا المشروع التحديثي الحدائق المفتوحة.
تلبي التجمعات المعزولة بالضواحي رغبة الأقلية من الأغنياء الجدد في المنزل الحصين، وهذه سمة مميزة في كل بلاد الكمبرادور (السماسرة)
إذا قارنا مدينة نصر، المشروع الثاني المخطَط في القاهرة، بمصر الجديدة، الحي الأول المخطط، يتضح الفرق الشاسع بين الرؤيتين. اعتمد تخطيط البارون امبان لمصر الجديدة على الكتلة المعمارية المتصلة من جهة الشارع مع ممرات وفناءات داخلية للتهوية وتخفيف حرارة الجو والإنارة. تبدو كل ثلاث أو أربع عمارات وكأنها مبنى واحد، معتمدًا منطق باريس وقلب القاهرة.
وفي عمارة مصر الجديدة نلحظ تنوعًا في التفاصيل الزخرفية في إطار الوحدة. الشارع التجاري مثل شارع بغداد يحتفي بالشرفات، والرواقات في الطابق الأرضي تظلل الممشى أمام المحال التجارية والمطاعم. تقسيم العمارات إلى كتل يخلق التضامن المعماري بين أكبر عدد من الجيران، ويحقق الانسجام البصري من خلال الخطوط المستقيمة لتنظيم الفجوات من شرفات ونوافذ. طريقة تقسيم الأرض بزوايا مختلفة خلقت أشكال الشوارع، وتنوعاتها الوظيفية بين الكبير الذي يحقق الانسياب والصغير الهادئ. وهناك الميادين والنواصي المميزة، التي تحتفي بحديقة أو مبنى مميز كالبازيليك يمنح كل منطقة من الحي بصمتها الفريدة.
نفتقر إلى الوثيقة التاريخية التي تكشف الصلة بين السياسي والمعماري في مصر، بعكس الحالة الأوروبية. لا نعرف لماذا يقام حي سكني على هذا النحو أو ذاك، ولماذا يُغلق هذا الشارع أو يتسع، وانقطعت الصلة بين السياسي والمعماري؛ فلا نكاد نعرف لماذا أقيمت مدينة نصر على هذا النحو، ومن وضع فلسفة بنائها.
أصدر عبد الناصر قرارًا جمهوريًا بتأسيس مدينة نصر عام 1959، وخططها المعماري الفذ سيد كريم (1911- 2005) وهو الذي خطط مدنًا مثل بغداد الجديدة (1946)، ودمشق الجديدة (1947)، وأكثر من مدينة سعودية مثل جدة (1949)، والرياض (1950)، وله الكثير من البناءات الكبرى في مدن عربية عديدة، وهو أول من بنى الطوابق العالية، وله قبل يوليو 1952 علامات مميزة في القاهرة، بينها عمارة سينما ريفولي، وبرج الزمالك. فهل كان تخطيط مدينة نصر مجرد إيمان منه بأفكار في التخطيط تصادَف أن تلاقت مع أفكار الانغلاق السياسي والاجتماعي، أم كانت عن قصد سياسي طلبته الحركة الحاكمة آنذاك؟
هذا ما لن نعرفه. لكن النتيجة على أرض الواقع أن تخطيط مدينة نصر لم يضم فضاءات اجتماعية يلتقي فيها الناس للثرثرة ويعقدون صداقات جديدة، كالمقاهي المفتوحة على الشارع، والمطاعم، ناهيك عن البارات. وما انتشر فيها بعد ذلك من مقاه ومطاعم كان نتيجة تراخي الإدارة ضمن إغماضها العين عن ارتفاعات المباني.
القاهرة كممر إلى التجمعات
السعي إلى السكن العائلي الذي بدأ في مدينة نصر كنوع من المحافظة الاجتماعية، أو بوصفه فرصة استثمارية من حيث المبدأ، سيُستأنف في التجمعات الفاخرة الجديدة التي أحاطت بالقاهرة في النصف الأخير من ثلاثينية حكم مبارك، بعد أن صار رجال الأعمال شريكًا للدولة العميقة في اتخاذ القرار ورسم الخطط التي تحقق مصالهم؛ فتمت عملية تقسيم الأراضي الصحراوية الأوسع مع ما شاب تخصيصها من فساد؛ خصوصًا في فارق السعر الرهيب بين المستثمر العقاري وبين المواطن الفرد عندما يشتري قطعة صغيرة لبناء مسكنه.
وفرضت هذه التجمعات وجودها مع تداعي خدمات العاصمة، وتزايد رغبة النخبة الرأسمالية في العزلة بعد تصاعد الريبة بينها وبين بقية السكان، وقد صارت هذه النخبة أحد أسباب الغضب الذي أطاح بمبارك فيما بعد.
تلبي التجمعات المعزولة بالضواحي رغبة الأقلية من الأغنياء الجدد في المنزل الحصين، وهذه سمة مميزة في كل بلاد الكمبرادور (السماسرة).
سرعة التحولات في تخطيط الشوارع تؤكد حقيقة العشوائية، وعندما نتفحص لن نجد بنية متوازنة لمدينة أو لحي، بما يتطلبه ذلك من تعيين نقاط الخدمات من مستشفيات ومدارس ودور سينما ومسارح مما تقوم عليه المدن
في مصر امتدت هذه الرغبة لتشمل الشواطئ بالمخالفة لكل أعراف المساواة بين المواطنين في استخدام الموارد والنعَم العامة كالبحر والنهر. لم يبق شيء من الشاطئ للاستخدام العام من الإسكندرية حتى مطروح فحدث الفصل التام بين محدودي الدخل والأغنياء في الصيف، بينما تكفلت المدارس الخاصة والضواحي الغنية حول القاهرة بانفصال بقية العام.
ومثلما أخذ التعليم المجاني يتداعى أخذت القاهرة تتداعى تحت الإهمال يومًا بعد يوم؛ فهناك حدائق وبحيرات في بلد يعاني الشح المائي، لمن يدفع ثمن تلك الرفاهية في الأحياء الجديدة، التي لم تقطع اتصالها بالمدينة الرثة للأسف؛ لكنها تعيش عالة عليها، وسكانها يقطعون العاصمة يوميًا، التي كان عليها أن تتنازل عن شيء من جمالها كل يوم لصالح الوظائف المرورية، حتى أُرغمت على أن تتحول إلى ممر لتلك الضواحي.
تجنح هذه الضواحي إلى المبالغة فتحمل اسم “مدينة” أو تتواضع فتحمل صفتها الحقيقية “تجمع”. هناك تظاهر بوجود تخطيط لهذه التجمعات لكنها في الحقيقة غير مخططة، لا من جهة حساب أعبائها على المدينة الأم ولا من جهة تنظيم كل تجمع منها كمجتمع، وتوفير وسيلة عامة للنقل تربطها بالمدينة الأم كترام مصر الجديدة وقطار حلوان على سبيل المثال، أقصى ما هنالك شق طريق أو عدة طرق كبيرة، تتفرع منها المساحات التي تُقسَّم إلى كماوندات أو مشروعات صغيرة للعمارات، ومناطق للأفراد، تتراكم عامًا بعد عام.
سرعة التحولات في تخطيط الشوارع تؤكد حقيقة العشوائية، وعندما نتفحص لن نجد بنية متوازنة لمدينة أو لحي، بما يتطلبه ذلك من تعيين نقاط الخدمات من مستشفيات ومدارس ودور سينما ومسارح مما تقوم عليه المدن. شوارع تلك الضواحي بلا أي وظيفة اجتماعية؛ فهي طرق للسيارات الخاصة كما في طرق مدن الخليج.
ليست هناك فضاءات حميمة من المقاهي والمطاعم الصغيرة التي يمكنها أن تجمع بين السكان وتخلق مزاجًا عامًا بينهم، مما توفر لأحياء مثل المعادي ومصر الجديدة والزمالك قبل أن تتغير تركيباتها السكانية بفعل شقلبات الثروة بين فئات المجتمع. هناك المولات، بعضها مخطط من البداية، وبعضها أُضيف في صفقات بيع أرض تالية. في المول كل شيء، لكن ليس فيها مجتمع. مهما تسكع البشر في ممرات المولات يظلون غرباء.
لا يمكن القول بأن كل سكان الضواحي الغنية من الفاسدين، ولا بأنهم جميعًا من فئة السماسرة، لكن هذه الفئة هي النواة الأساسية وهي بحاجة إلى بشر آخرين يدورون حولهم ويشهدون نعمتهم، والأهم أنهم بحاجة إلى زبائن. وقد وجد المطورون العقاريون زبائنهم بين أفراد الطبقة الوسطى من التكنوقراط، الذين يبحثون عن الأمان بعيدًا عن عنف المدينة المتروكة للفوضى، يدفنون مدخراتهم في المستويات الأدنى من إسكان الضواحي.
العدد الأكبر من الزبائن هم العائدون من الخليج بعد سنوات طويلة من الحياة الهادئة ويبحثون عن بيئة مشابهة.
الأفلام والمسلسلات التي تبالغ في تصوير حجم البلطجة في المدينة القديمة تعزز ريبة العائدين من الخارج وتساهم في زيادة خوفهم من بشر لم يعودوا يعرفونهم، وتدفعهم إلى الاحتماء خلف سور الكمباوند.
ريبة الزبون، هي ريبة المكسور، تختلف عن ريبة المستثمر العقاري وريبة السلطة.
———–
* كان شبير على مدى سنوات طويلة رجل هتلر المقرب، والوحيد الذي أقر أنه مذنب في محاكمات نورمبرج، سجن لمدة عشرين سنة، وعندما خرج من السجن عام 1966 كان بانتظاره 25 ألف من قصاصات ورق الحمام كتب عليها مذكراته خلال السجن ونجح بمساعدة الحراس من تهريبها إلى الخارج. صدرت المذكرات بعنوان : سبانداو.. يوميات سرية صدر بالألمانية عام 1975، وصدرت في نيويورك ترجمته الإنجليزية بعنوان “ALBERT SPEER ..SPANDAU.. THE SECRET DIARIES “عن دار نشر ماكميلان عام 1976، وظلت لسنوات طويلة من الكتب الأكثر مبيعًا.
المقال الفائز بجائزة سمير قصير عن فئة «مقال الرأي»
موقع «المنصة»