لماذا لا يوجد كاتب أوحد فوق القمة؟
2022-05-300119
إبراهيم عبدالمجيد
الآداب والفنون ينالها ما ينال الحياة الاجتماعية والسياسية من تغير. ولن أتحدث هنا عن تاريخ المذاهب الأدبية التي خرجت كلها من رحم بعضها، رغم ما أعلنه كل مذهب أو اتجاه من ثورة على ما سبقه، ففي الآداب والفنون لا يوجد «نفي» لكن يوجد «نسخ» فلا يستطيع أيّ مذهب أو اتجاه ان ينفي كل أدوات المذهب السابق من لغة أو صورة أو ألوان، لكن ينسخ منها رؤى وطرق تعبير جديدة، ويظل المعنى الإنساني في كل الاتجاهات هو العابر للزمن.. هو الذي يجعلك تقرأ «دون كيخوتة» بالمتعة نفسها التي تقرأ بها «مئة عام من العزلة» وهو الذي يجعلك تقرأ نجيب محفوظ بالمتعة نفسها التي تقرأ بها مجيد طوبيا، رغم اختلاف الأجيال والزمن. السؤال لماذا حقا لا يوجد كاتب أوحد على القمة؟ في الرواية المصرية كان نجيب محفوظ دائما فوق القمة، حتى بدأت في الستينيات من القرن الماضي حركة تمرد على أساليب الحكي المعتادة، وكان نجيب محفوظ نفسه في مقدمة المتمردين على طريقته التي اختلفت تماما في الصياغة اللغوية مع روايته « اللص والكلاب «. لكن ظهر جيل صار من الصعب أن تذكر اسم واحد فيه يتربع على القمة، بعد أن كان دائما نجيب محفوظ هو المتربع، يقابله يوسف إدريس في القصة القصيرة.
من الصعب جدا ان تقول إن بهاء طاهر أو عبد الحكيم قاسم أو مجيد طوبيا أو صنع الله إبراهيم، أو غيرهم ممن عرفوا بكتّاب الستينيات، هو المتربع على القمة. تستطيع أن تجر الخيط إلى العالم العربي كله، ففي كل بلد صار هناك عدد كبير يتساوون في القيمة والأهمية لا تستطيع أن تشير إلى أيّ منهم باعتباره هو الأول والأهم. هذا التحول الذي جري كان نتيجة طبيعية لتطور الحياة، ورغم أننا في السياسة ما زلنا أسرى لفكرة الزعيم الأوحد، إلا أن ذلك انتهي في الفنون والآداب.
وبالمناسبة فكرة الزعيم الأوحد هي الفكرة البائسة التي جاءت منها فكرة العبقري الأوحد في كل مجال. فكما أن الزعيم هو الأوحد فمن هو أقل درجة منه في الحكم مثل رئيس الوزراء هو الأوحد بالنسبة لمن حوله وتحته، ومن ثم كل وزير في وزارته، وتهبط إلى المدير في إدارته، وفي الأجهزة الأمنية تهبط تهبط من الوزير حتى الشرطي.
هذه التراتبية في الحكم ألقت أثرها على التراتبية في وجوه الحياة الأخرى ومنها الآداب والفنون، رغم أن أصحابها لم يشغلهم ذلك. على العكس هم أكثر من يرفض ذلك، لكنه الذوق العام للجماهير قد تأثر بما جسدته السياسة أمامه من تراتبية. وعلى العكس أيضا يوم يشعر الأديب أو الفنان أنه الأوحد سيهبط فنه. لقد تحول الأمر في مصر نقديا إلى الحديث عن الأجيال، وكذلك في العالم العربي، لا الحديث عن هذه التراتبية، ورغم أن الحديث عن الأجيال يشوبه تناقض كبير في اعتبار العشر سنوات هي الفارقة بين الأجيال، فصار هناك جيل للستينيات وجيل للسبعينيات وجيل للثمانينيات والتسعينيات وجيل الألفية الثانية وهكذا، وما أكثر ما كتبت أن الأجيال هي بنت الأحداث الكبرى، ففي الستينيات مثلا شهد العالم في أوروبا الأقرب إلينا في التأثير، ثورة كبرى للشباب كان لها تأثير كبير في السياسة، ثم امتدت إلينا، خاصة أن هزيمة 1967 أيقظتنا على حقائق سياسية مرعبة غير ما نرى ونعرف، بل يمكن اعتبار الانقلاب الفكري في السبعينيات بصعود التيارات الإسلاموية، الذي امتد في العالم العربي كله، تطورا طبيعيا للهزيمة رغم حرب أكتوبر/تشرين الأول.
لقد كان رأيي دائمًا أن ما جرى في السبعينيات كان بابا لاتساع مساحة الرواية أكثر من القصة القصيرة التي زهت في الستينيات، وقد اشترك في كتابتها الجميع من كتاب الستينيات والسبعينيات بشكل واسع أكثر من ذي قبل، بل تقريبا كاد الكثيرون من كتاب الستينيات يتوقفون عن كتابة القصة القصيرة، رغم أنها كانت سبب شهرة أكثرهم. ساعد على ذلك أن بعضهم لم يكن بعيدا عن الرواية، إذ كانت له رواية واحدة أو اثنتان. بعيدا عن مصر حدث هذا الاتساع في كتابة الرواية ولا يزال يحدث. ما يهمني في ذلك بصرف النظر عن اتساع الرواية، هو أنك لا تستطيع بسهولة أن تقول إن كاتبا بعينه يتربع على عرش الرواية أو القصة القصيرة أو حتى المسرح أو السينما أو الفن التشكيلي. يمكن أن يقال ذلك على سبيل المحبة والمودة، لكن ليس على سبيل الحقيقة، خاصة أنه تزاحمت في الجيل الشاب الأسماء وصارت أحيانا عصية على الحصر، بل تزاحمت الأسماء واتسعت بشكل يصل أحيانا إلى حد الإرباك. ففي كل بلد عربي تجد على الأقل عشرة كتاب مجيدين في الرواية أو غيرها. حتى عُمان التي كانت حتى عشرين سنة سابقة شبه غائبة عن النقد في العالم العربي بحكم هدوء طبع شعبها وشعورهم بالرضا والاكتفاء الروحي، انفجرت فيها الكتابات الروائية بشكل مدهش، فصارت أسماء كثيرة رائعة في الرواية والقصة، أما في الشعر فحدث عن كثير من الشعراء هناك صاروا الآن حديث الدنيا.
تستطيع أن تمد الأمر إلى المملكة السعودية والإمارات والعراق والكويت وسوريا، رغم المنافي والموت ولبنان والأردن وسائر بلاد المغرب وموريتانيا والسودان وبينها مصر. يمكن جدا لجائزة الآن أن تضع كاتبا ما في مقدمة المشهد لبعض الوقت، لكن لا يمر عام إلا وتضع الجائزة نفسها كاتبا آخر أو كتابا آخرين، ومع كثرة الجوائز في العالم العربي صار الأمر عاديا. لم تعد الجوائز هدفا من أجل مقدمة المشهد، لكن من أجل المكافأة المالية، خاصة في بلاد فقيرة مثل مصر، التي مهما ارتفعت مبيعات الكتب فيها، لا تسد رمق الكاتب مع الغلاء الفاحش، إلا إذا كان له مصدر رزق آخر كبير، أو اتجهت إليه الدراما تشتري أعماله، وهذا لا يحدث للأسف إلا في مرات قليلة نادرة، رغم أن الدراما لا تقوم قيامة حقيقية إلا بالاعتماد على الروايات، فتاريخ ذلك هو تاريخ السينما العالمية ولا يزال، رغم ما مرّ عليها من ثورات مثل المخرج المؤلف، صنعت أفلاما عظيمة حقا، لكن ظلت قليلة أمام الأفلام المأخوذة عن الروايات، فضلا طبعا عن أن بعض الجوائز فقدت كثيرا من قيمتها المعنوية التي بدأت معها بسبب ما يُثار حولها من لغط يتجدد كل عام، مثل جائزة البوكر العربية.
لم يمر عام إلا ويتجدد اللغط، لكن ما يهمني أنا من معنى فقد القيمة المعنوية، هو المقارنة بين ما كانت تسببه هذه الجائزة من مبيعات أو ترجمة في لغات أخرى، وما تسببه الآن. يكشف لك ذلك تأثير هذا اللغط الذي يتجدد وعجز القائمين عليها من فهم سبب ذلك، لكن تظل الجوائز رغم أيّ شيء تضع الفائز بها في مقدمة المشهد لبعض الوقت، لكن ليس في أعلاه. لا توجد قمة، لكن يوجد سطح فوقه العديد من الكتاب لا كاتبا واحدا، فالإنتاج الروائي أو غيره لا يفقد روعته بين الأجيال. أقول هذا بعيدا عن مجاملات الميديا باعتباري قارئا إلى حد كبير لما يظهر منه، وإن قلَّت القراءة الآن بحكم العمر والصحة، فغيري لا يزال يقرأ والنقاد يتزايدون رغم ضجيج الأصدقاء من الشباب لبعضهم على الميديا أو حتى ضد بعضهم . باختصار حققت الآداب والفنون ما لم تحققه السياسة في بلادنا، وهو انتهاء عصر الكاتب الأوحد رغم استمرار عصر الزعيم الأوحد، وأخشي من كل من يشعر أنه زعيم أوحد، أن يمنع الكتابة من الأصل، مادامت تتسع للجميع وربنا يستر!
«القدس العربي»