أنطونيا بوزّي شاعرة قتلها الحب المستحيل
2016-05-11
أنطوان جوكي
في صباح الثاني من كانون الأول 1938، توجّهت شابة طويلة القامة، يلفّها سحرٌ غامض وهشّ، إلى محيط دير «كيارافال» في مدينة ميلان، حيث لطالما أحبّت التنزّه وحدها أو مع أصدقاء لها، للاستسلام مادياً وروحياً إلى رقّة الطبيعة. هناك، ابتلعت كمية كبيرة من الحبوب المسكّنة وتمددت على العشب منتظرةً موتها: «في البعيد، في مثلث من الخضار/ كانت الشمس تتمهّل. بقفزة واحدة/ كنت أريد بلوغ هذا الضوء/ التمدد تحت إشعة الشمس عاريةً/ كي يشرب الإله المنازِع/ من دمي. ثم البقاء طوال الليل/ ممددة في المرج، بعروقٍ فارغة/ بينما ترجم النجوم الغاضبة/ جسدي الجاف، الميت».
هذه الشابة هي الشاعرة الإيطالية أنطونيا بوزّي (1912 ـ 1938) التي وضعت حداً لحياتها في السادسة والعشرين بعدما كتبت مئات القصائد. نصوص جُمعت بعد وفاتها تحت عنوان «يوميات من شعر»، وصدرت حديثاً، وللمرة الأولى، الترجمة الفرنسية للجزء الأول منها (1929 ـ 1933) تحت عنوان «حياة محلومة» عن دار Arfuyen الباريسية. مناسبة نغتنمها للتعريف بهذه الشاعرة التي تسلّطت اللعنة على حياتها القصيرة ولم تفارقها حتى بعد وفاتها، كما يشهد على ذلك جهل معظمنا لها.
لتفسير انتحارها، تركت أنطونيا ثلاث رسائل، واحدة للشاعر فيتوريو سيريني نقلت فيها قصيدتها «ديانا» التي تستحضر فيها ذكرى صديق مشترك انتحر قبلها بثلاث سنوات، وواحدة لصديقها الحميم دينو فورمادجيو، ورسالة أخيرة إلى والديها تقول فيها: «أبي، أمي، لقد تعذبتُ كثيراً، ولا بد أن ذلك في طبيعتي، داء في الأعصاب يمتص قوتي ويمنعني من رؤية أشياء الحياة في توازنها. ستجدونني مجدداً في كل القبور التي لطالما أحببتها. ولا تذرفوا الدموع لأنني الآن في سلام».
شعر أنطونيا، مثل حياتها، يتراوح بين أمل وخيبة، بين عتمة ونور، بين هجران ونشوة، بين تقشّف وشهوانية. كما لو أنها كانت تحمل داخلها اندفاعاً يرزخ تحت ثقلٍ كبير. لكن مع أن هذه الشابة التي لطالما عشقت قمم الجبال والفضاءات الشاسعة وتحلّت بإروسية ذات حساسية تلورية، عاشت خاضعة لحركة عواطفها المتضاربة، إلا أن ذلك لم يمنعها من متابعة مسيرة اختارتها بنفسها. وفي رسالة إلى أحد أصدقائها، تفصح الشاعرة عن التصاقها بتلك الحيوية التي أحيتها بقدر ما حطّمتها: «أحيا كما لو أن سيلاً يعبرني. كل شيء يحمل معنى نهايةٍ مفاجئة، وهو حلمٌ يعي بأنه حلمٌ، لكنه يقتلعني من الواقع بذراعيه العنيفتين».
قصائد أنطونيا، التي تحضر على شكل يوميات تغطّي السنوات العشر الأخيرة من حياتها، تحمل آثار هذا التمزّق الوجودي الذي تارةً قاومته وتارةً خضعت له. بورجوازية الولادة والمنشأ، ما لبثت أن تمرّدت على محيطها لبلوغ تناغمٍ مع «الأشياء الفقيرة، المعذّبة في صمتها المطبِق». هكذا، ومنذ الطفولة، فضّلت على الحي الميلاني الثري الذي كان يقع منزل عائلتها الفخم فيه، قرية باستورو اللومباردية التي تقع على سفح سلسلة جبال الألب، وكانت العائلة تملك فيها أيضاً منزلاً قديماً. هناك، عثرت أنطونيا على جذورها وبدأت باكراً في ممارسة رياضة تسلّق الجبال. تجربة انبثق منها ذلك المسار الشعري الفريد، المشحون بالقوة والطاقة وقدرات حسّية كبيرة، كما تشهد على ذلك واحدة من قصائدها الأولى: «ليست جبالاً، بل أرواح جبال/ تلك الأُبَر الشاحبة، الجامدة/ في إرادة الارتقاء. ونحن نزحف/ على هذا الجمود المجهول: تلمّساً/ بأصابع مطوية من التوتر/ بالالتصاق المسطّح لأعضائنا/ نبلغ الصخر، وبجوع/ الحيوانات المفترسة نرفع على الحجر/ أجسادنا الرخوة. منتشين بالمدى الهائل/ نعرض على القمة الشائكة/ هشاشتنا المتّقدة».
معاناة أنطونيا انبثقت من الخيبات العاطفية المتتالية التي اختبرتها، في سن الثالثة عشرة حين وقعت في حب مغنٍّ، وخصوصاً في الثانوية حيث عشقت بجنونٍ ولسنوات أستاذ اللغتين اللاتينية واليونانية، قبل أن يضع هذا الأخير الذي يكبرها بستة عشر عاماً حداً لهذه العلاقة عام 1933، فكتبت له قصيدة وداع تتنبّأ بالقصيدة التي كتبتها بعد خمس سنوات، مباشرةً قبل انتحارها: «أنت/ يا وشاح فتوّتي/ ثوبي الرقيق/ حقيقتي المتوارية/ يا عقدة/ منيرة لحياةٍ حلمتُها ـ ربما ـ / ولأنني حلمتُ/ هذه الحياة العزيزة/ أبارك الأيام المتبقّية/ الغصن الميّت لجميع الأيام المتبقّية/ الموظّفة/ لبكائك».
في كلية الآداب والفلسفة، في ميلان، ارتبطت أنطونيا بصداقات متينة، خصوصاً حين التحقت بالمجموعة التي تشكّلت حول الفيلسوف أنطونيو بانفي. وداخل هذه المجموعة، افتُتنت بشاب سوداوي المزاج وذي ثقافة كبيرة، هو ريمو كانتوني، فكتبت هذه القصيدة فور تعرّفها إليه: «يا لنعمة/ الحب الثاني/ صبا منسوجٌ بعمق/ من خردة مهزومة، من حيوات معبورة/ وكل حياة ثراءٌ/ مغلوبٌ، كل دمعة مغسولة/ ابتسامة طويلة تعلّمتها/ كل كدمة ملامسة أكثر خفةً/ نرغب في منحها/ (…) مباركة آلام وموت/ جميع العوالم التي كنت أحملها في قلبي/ إن من الموت نُبعث أحياء/ يوماً/ إن من الموت أبعث حية/ اليوم ـ لأجلك/ واهبةً نفسي/ ليديك ـ مثل/ تُوَيْجٍ/ من حيوات منبوشة». لكن رفض ريمو لمشاعرها نحوه ما لبث أن أوقعها في حالة يأس أوحت لها بقصائد مؤثّرة يتراوح موضوعها بين الهجران السعيد والخيبة من تجربة الحب من طرفٍ واحد.
وبعد ترحال قادها إلى اليونان وأفريقيا الشمالية وألمانيا وأوروبا الوسطى وإنكلترا، ومنح هدنةً لحساسيتها المهزومة والمهشّمة، عادت أنطونيا إلى الكتابة عام 1935 ووضعت قصائد اعتبرتها بنفسها «تعزيماً للألم» فمدّتها برمزية رؤيوية تفتح أبواب عالم سحري مسكون بالقلق. وفعلاً، في مرحلة «استسلامها السرّي» لمحنتها، اتّخذ شعرها وجهتين: وجهة جحيم عالم اللاوعي والأمومة والحب المرفوضين لها، ووجهة الفضاء الغامض والأسطوري للقمم والرياح: «عند عتبة الخريف/ في غسقٍ/ صامتٍ/ نكتشف موجة الزمن/ واستسلامنا/ السرّي/ مثل سقوطٍ من غصنٍ إلى غصن/ لطيور لم تعد أجنحتها تحملها».
أما التنبؤ بموتها فيتّخذ طابعاً خرافياً يعزّزه اندفاع شعري نابع من حيوية مستعادة بألمٍ كبير ويستحضر بنبرته قصائد سيلفيا بلاث. فكما لدى الشاعرة الأميركية، توكيد الذات وانخراطها الرمزي في العالم ضمن خصوصيتها الأنثوية لم يكن ممكناً حصولهما لدى أنطونيا إلا بواسطة الشعر، لكن عدم تلقّيها أي تجاوب من هذا العالم دفعها، مثل بلاث، إلى خيار التضحية بذاتها.
عشية انتحارها، اقترحت أنطونيا على دينو فرومادجيو تحويل صداقتهما العميقة إلى علاقة حب، لكن هذا الأخير، مثل كانتوني قبله، عبّر لها عن خشيته من خسارة تواطؤه الفكري والروحي معها في حال تجاوبه مع طلبها. ولا شك في أن هذا الرفض الجديد لبحثها عبثاً عن الحب لعب دوراً، أثناء توجّهها في اليوم التالي إلى محيط دير «كيارافال»، في تلبيتها دعوة الموت التي لطالما ترددت في قصائدها: «مهجورةً بين ذراعَي العتمة/ تعلّميني الانتظار/ يا جبال./ عند الفجر، ستصبح الكنائس/ غاباتي/ سأحترق ـ شمعةً على زهور الخريف/ وأتوارى في الشمس».
(الحياة)
تعليق