طارق الطيب حاوره: حسن عبد الموجود
هناك عدة نوافذ هيَّأت الطريق لطارق الطيب، منذ طفولته، ليصبح كاتبا. أبوه اهتم بوجود مكتبة في البيت، وباقتناء الكتب وتجليدها في مطبعة وترقيمها ووضع اسمه على كعوبها، مما جعله يظن أن الأب هو مؤلف كل هذه الكتب، وأنه بالتالي يجب أن يصير مثله ذات يوم.
حينما دخل طارق مدرسة «الإمام محمد عبده الابتدائية» في مصر، صارتْ حصة القراءة والمحفوظات من أسهل الحصص بالنسبة له وأكثرها مللاً، فقد التحق قبلها بكُتّاب «الشيخ علي» وأصبح متمكناً من اللغة، وربما لهذا السبب عهدت إليه معلمته «الأبلة سميحة» بابنها العنيف الشرس وكان في الرابعة من عمره تقريبًا، واضطرت لإحضاره معها إلى المدرسة بسبب ظروف الحياة. حمَّلته مهمة مرافقة ابنها إلى حوش المدرسة والتمشّي معه حتى تنتهي الحصة. لم يستطع ترويض هذا النمر الصغير إلا بالحكاية. بدأ في تأليف حكاية عن غراب ونخلة وخروف. في اليوم التالي أراد الطفل أن يستمع لبقية الحكاية فأخطأ طارق وحوَّل الغراب إلى يمامة والنخلة إلى تينة والخروف إلى عنزة. صحح الطفل مستنكرًا، فانتبه طارق إلى أنه يصغي باهتمام، وعدل الحكاية وحفظها ليستكملها له فيما بعد.
جاره العلامّة الأزهري الدكتور عبد الغفار إبراهيم صالح، كذلك، كان يقطن في الدور الثاني من المنزل، واكتشف ولعه بالعربية فتعهده بالرعاية ومنحه ساعات من المتعة في تذوق العربية وفهمها واستيعابها. هذه أقدم صور شكلت وعي الكاتب السوداني المصري طارق الطيب، الذي يستعيد في هذا الحوار تفاصيل وحكايات نشأته في القاهرة ثم استقراره في النمسا، وكيف هضمت شخصيته عدداً من الثقافات المختلفة، كما يتحدث عن رؤيته للأدب انطلاقاً من روايته الجميلة «لهو الإله الصغير».
كيف تتذكر حياتك القديمة في مصر من مقر إقامتك الحالي في النمسا؟ وما تأثير كونك ابنا لأبوين من جنسيتين مختلفتين (أب سوداني، وأم مصرية) عليك ككاتب وإنسان؟
ذكرت الكثير من سيرتي الذاتية في مطبوعات عديدة وتوجد صفحات كثيرة عن مصر في كتابي «محطات من السيرة الذاتية». يظن البعض أن الابتعاد عن أصل المكان الذي نشأ فيه الإنسان سوف يحولّه ببساطة من مغترب إلى غريب عن بلده. أرى العكس، فهذا الغياب الفيزيقي يُجلي المكان الأصلي بصورة غير متخيلة، يُبقي لهبه مشتعلاً على الدوام. فالمكان الأصلي حاضر وله تاريخ وجذور موشومة في الوجدان والهوية.
يكفي أن أقول لك أنني بقيتُ السنوات السبع الأولى هنا في فيينا أكتب عن طفولتي وحياتي القاهرية، ولم تلمس النمسا كتاباتي بوضوح إلا بعد فترة طويلة من اجتياز عائق اللغة وبعدها التعرُّف على النمسا من الداخل كوطن حقيقي ثانٍ، كتاريخ وجغرافيا وعادات
وتقاليد ومصير. ممتن بمعرفة الأصل المهم للنمسا خارج العاصمة فيينا منذ أربعة عقود، في ذاك الريف العظيم حيث أقضي دومًا نهايات الأسبوع هناك في بيت أهل زوجتي الذي أصبح بيتنا الثاني، رغم أنني قد أصبحتُ فييناويًّا من الدرجة الأولى أيضًا.
أما كوني ابنا لأبوين من جنسيتين مختلفتين أو بالأصح من مولدين ونشأتين مختلفتين، فهذا في حكم فترة الخمسينيات والستينيات يختلف شكلاً وموضوعًا عن عصرنا الحالي، وقد عشتُ هذه الحِقَب على أروع ما يكون. الآن يميل الناس أكثر للبحث عن الاختلاف في الجنسية والعقيدة، مع أنه في كل اختلاف إضافة وفي كل تنوع للثقافات نعمة. وأؤكد مجددًا: أن أكون «في» ثقافتين وليس «بين» ثقافتين لهو منحة غالية وهبة عالية.
من هم أبناء جيلك؟ هل أنت مهتم بمسألة المجايلة؟ وما الذي تراه إيجابياً أو سلبياً في وجودك داخل قارة أخرى وثقافة غريبة؟
لا أستطيع تحديد الجيل أو الحقبة الأدبية بشكل قاطع، فالأمر في ظني ليس محددًا بعمر الكاتب، وإن كنتُ أرى أن المعاصَرة أهم من المجايلة، فالأولى تنفتح على أبعاد الثقافة بلا حدود بينما الأخيرة تركز على فترة زمنية وارتباط عمري.
أمّا فيما يتعلق بالثقافات الأجنبية، فلم تعد الثقافة النمساوية -أو الثقافة الألمانية كلغة أجنبية أولى عندي- ثقافة غريبة عني، فأنا أعايشها يوميًّا منذ ما يقرب من أربعين عامًا سواء في العاصمة فيينا أو في ريف شمال النمسا، تغلغلتُ فيها فأضافت لي من منبعها مباشرة وأثرت هويتي بالجديد.
عبر اللغة الجديدة وجدتُ لي مكانًا له «صوت» مسموع و«مكانة». رؤية الأوطان من الخارج كان لا بد لها أن تتسع. لستُ من المتحيزين الذين يتعاملون مع الثقافات مثلما يتعاملون مع شأن الرياضة بالمنافسات والمكاسب و«الخسائر». الثقافة أكبر شأنًا من تضييقها في بؤر صغيرة، الثقافة تنتجها قرائح عالية فريدة لا تقيدها حدود جغرافية وهي مشاع لكل من ينهل منها ويرتوي ويرتقي.
جزء من الصورة العامة عنك أنك أستاذ جامعي رصين، وكذلك مزارع ينشر صوره على الفيسبوك مع نباتاته وزهوره وثماره بفخر. ماذا تعكس هذه الصورة عنك؟
صورة الأستاذ الجامعي هنا في أوروبا تختلف عن صورة الأستاذ الجامعي في عالمنا العربي والشرقي. أثناء دراستي في جامعة الاقتصاد في فيينا كان الأساتذة ينادوننا نحن ال
طلاب بكلمة «زميلي». هنا لا يمكنك غالبًا أن تفرّق بين الطالب والأستاذ، فالملابس متشابهة وبسيطة، بل تسعين في المائة من الأساتذة يأتون إلى الجامعة من خلال المواصلات العامة أو بالدراجات.
هنا صورة الأستاذ والطالب مؤسسة على احترام متبادل من الطرفين دون خوف الطالب ودون تعالي الأستاذ، بل الطالب هو من يقيّم الأستاذ والمنهج والجامعة عبر استبيان سري في كل فصل دراسي.
أظن أن محاضراتي يحبها الطلاب فأنا أحكي الكثير من الحكايات والتجارب ذات المغزى التي لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بالموضوعات المقررة، أعرّفهم بعالمنا البعيد عبر الثقافة من خلال قصص واقعية ومن خلال الأدب والفن، عبر فكّ الاشتباكات الذهنية بالحكاية.
الفكرة القديمة البائسة عن محاولة تقديم الثقافة من خلال الدين فقط بشكل دعائي و«دَعَويّ» فكرة ثبت فشلها، لذا تتجه معظم المساعدات الملموسة والهامة
من الملحقيات الثقافية العربية هنا في الغرب نحو آفاق مسدودة. هل نرضى نحن في بلادنا العربية بتعلم اللغات الأجنبية بشكل تبشيري؟
أما صورتي كمُزارع أو فلاح فهي صورة عادية وطبيعية توافق الطبيعة الشمالية التي أعيش فيها في نهايات الأسبوع أو إجازات الصيف، فحديقة البيت في الريف كبيرة نسبيًّا وبها أشجار وزهور وثمار وخضروات، اعتنائي بهذه النِعم وإصداراتي منها تجعلني أكثر زهوًا وغبطة في كل موسم، ومع الوقت والعمر أجد ميلاً أكبر إلى هذا المكان البديع الأصيل. والمُزارع هنا في الريف النمساوي ليس على الصورة النمطية التي في أذهاننا، بل هو مزارع غني وعلى قدر من الحصافة والعلم والدراسة، ومن المعتاد أن يمتلك في بيته الريفي مكتبة ويعشق الموسيقى ويحضر الحفلات الموجودة في كل قرية أو في المدن القريبة ويزور المعارض والمتاحف ويسافر ويرى العالم ويحترم الفن وقد يمارسه بنفسه في صورة هواية تقترب من الاحتراف.
ما ملاحظاتك على الرواية العربية في الوقت الحالي؟ هل تضارع الرواية الأجنبية من حيث العمق والقوة والإنسانية؟ وما الذي ينقصها لتصل إلى العالمية؟
قد يكون غريبا أن أقحم هنا ردًا يستحق: الشعر حاليًا أقوى من الرواية ولكنه غير مرئي ولا مُتبنَّى وجوائزه العالية غير محايدة في شروطها.
أما الرواية العربية فهي بلا شك قوية وجديرة بكل تقدير وتضارع بلا جدال الرواية الأجنبية من حيث العمق والقوة والإنسانية. غربلة الرواية العربية أمرها صعب وتحتاج إلى زمن طويل. الغربلة في الأدب الغربي تحدث بشكل دائم وغالبًا بلا مجاملة. أصدقاء الكاتب الأوروبي على وسائل التواصل الاجتماعي لا يمثلون عالمه الأدبي ولا تقييمه الحقيقي المحدود مثلما يحدث في عالمنا العربي. كاتبتهم المتميزة أو كاتبهم المتميز تُطبَع له كمية أكبر بكثير من كتابه ولا تُهدى الكتب هكذا مجانًا مثلما هو في بلادنا العربية. يتم تناول الإصدارات نقديًّا على نطاق أوسع وأعمق، ويكسب الكاتب المميز من كتبه ما يجعله يعيش حياة كريمة. أما عن تعدد وتنوع المنح الأدبية في دولة مثل النمسا عدد سكانها لا يتجاوز 9 ملايين نسمة، فهي تُعادِل قيمةً وعددًا أكثر من قيمة وعدد الجوائز في سائر العالم العربي مجتمعًا بعدد سكانه الـ 340 مليون نسمة.
في رأيي أن اختيار الروايات المؤثرة والمهمة -وليس روايات الجوائز أو روايات العلاقات والمصالح المتبادلة- هو ما ينقص الرواية العربية حتى تصل إلى العالمية، وهذا شأن صعب ويحتاج إلى زمن طويل وضمير سليم.
هل ترى أنك أخذت حقك نقدياً؟ وما ملاحظاتك على النقاد العرب؟
ليس هناك حقيقة معيار يمكنني الاستناد إليه كتقييم عادل وصحيح للنقد عني: فهل هو حجم النقد الذي كُتب عن أعمالي؟ أم هي الأسماء المرموقة في عالم النقد التي كتبت عني؟ أم هو تأثير النقد المكتوب عن أعمالي في تقدير لاحق: توزيع أكثر للكتب، منح جوائز، مشاركات أدبية مهمة .. إلخ؟
أنا راضٍ عن ما كُتب عني حتى الآن وممتن.
في تعقيبي على ملاحظاتي عن النقاد العرب أعيد كلامًا قديمًا لي لكنه ما زال ساريًا: فأنا آخذ النقد بعين الاعتبار والعناية، أستثني من ذلك الكتابات «المُجامِلة».
أتمنّى من النقد الأدبي أن يثير شغف القارئ كي يبحث عن أصل العمل ويقرأه إن أمكن، وأن يتجنّب الشوفونيّة، فبعض النقاد يتعصّبون ويتحزّبون وينحازون إلى النقد القُطري العربي الضيّق أو إبراز الفروق الحدودية الجغرافية أكثر من تغليبهم للهَمّ الإنساني الجماعي.
إذا انتقلنا إلى روايتك «لهو الإله الصغير» سنجد أنها تعتمد على الفانتازيا، فالبطل «شمس» يدعو بالخلاص من كل البشر حوله في لحظة ضيق والإله يستجيب له، وبالتالي يجد شمس نفسه فجأة وحيداً على الأرض، ورغم هذه الأجواء الفانتازية إلا أن الرواية حرصت على أن تلامس الواقع من خلال ربط البطل بالعالم ومدنه وأماكنه. هل كان لديك قرار بالمراوحة بين الواقعي والفانتازي قبل أن تبدأ كتابة العمل؟
في ظنّي أن التراوح أو إدماج الواقعي بالفانتازي هو الذي يخلق الحيوية للنص والمتعة كما هو الحال أيضًا في الحياة، فالحياة الواقعية بلا خيا
ل ستكون بلا أمل وبلا ملاذ.
كل عمل أدبي عندي يخلق نفسه من خلال فكرة وليدة في لحظة ما. تنفيذ هذه الفكرة يستجمع تاريخي الشخصي كله ويشحذ كل فانتازيا ممكنة، بعدها يتكون النص على مهلٍ بالحذف والإضافة والتغيير وأيضًا بالصبر حتى يظهر العمل كلوحة فنية مقبولة.
التلقائية كذلك هي مراودة الفن الجميل، فالتخطيط الزائد عن اللزوم للعمل الأدبي قد يجعله عملاً توثيقيًّا أو تقريريًّا أكثر من كونه عملا إبداعيا، فالإبداع الفاتن يولد من تلقاء نفسه أثناء الكتابة.
في «لهو الإله الصغير» بدأ العمل من واقع ناقص أكمله الفانتازي بشبه أجوبة شكّلتْ بدورها مكر الكتابة عبر سكْب أسئلة أجَدّ، وهكذا تضافر الواقع بالفانتازي لإنشاء هذا البناء الأدبي الذي اخترته.
في الرواية راوٍ اسمه «العارف»، وراوٍ آخر أكثر اطلاعاً اسمه «الكاشف»، وشمس نفسه راوٍ، وهناك الراوي العليم. هل كان الهدف من تضارب حكايات هؤلاء الرواة هو إسباغ الإثارة على العمل من خلال تشكيك القراء في كل انطباعاتهم؟
عندك حق في رأيك فيما يتعلق بتضارب حكايات الرواة، لكنه مقصود، وإلا كان العمل تأكيدًا للمؤكَّد ونفيًا للنفي دون إثارة فكرية. حكايات شمس واضحة وصريحة لكنها ناقصة، والراوي يُسَيِّر مراكب الكلام للثلاثة ويُضفِّر توقيت دخول كل شخصية لتدلي بدلوها فيما فلَتَ كي تكتمل اللوحة.
لم يكن القصد أبدًا تشويش القارئ وتعسيره بقدر تشكيكه فعلاً. فالشك هو إعادة تفكير من أجل التيقُّن من صحة الطريق أو على الأقل تصديق أصل الحكاية أو البحث عن يقين يؤكّد أو ينفي.
«العارف» كان قريبًا من شمس وهو شخصية أرضية ذات معارف أصيلة ترتبط بظروف شمس الدقيقة منذ مولده، متتبعًا دقائق سيرته الحياتية وسيرة كل من
ارتبط به، و«العارف» مخلص لمعرفته بحال شمس وصادق في روايته.
«الكاشف» في المقابل شخصية سامية قريبة من الآلهة، يدرك الأمور العلوية وبعض أسبابها، يدرك بعض كبريات الأمور ويكشف فقط عما يحقّ له الكشف عنه وصادق أيضًا في روايته.
هكذا سارت المسارات الثلاثة، مرة بالتوازي أفقيًّا عبر تدفق الحكايات، ومرة بالتوازي رأسيًّا عبر التضارب أو الاختلاف في المسارات، وهذا هو ما شكَّل نسيج الرواية.
لجأت إلى الحل الطباعي للتفريق بين الرواة، فالعارف له «فنط» كتابي مختلف، بينما الكاشف مرتبط بجملة مفتاحية دائماً هي «العلم عند الإله الأعلى ولي حق الكشف والتصحيح». ألم يكن لديك تخوف من وجود نوع من النمطية مع تكرر ظهورهما؟
بالتأكيد رأيتُ أن الحل التقني الظاهري ضرورة في هذا العمل. استخدمتُ أثناء الكتابة ثلاثة ألوان من أجل التفريق السريع، ولو كان الأمر بيدي بعيدًا عن التكلفة الباهظة لأخرجتُ العمل بالألوان كما كان على شاشتي أثناء العمل.
أشفقتُ على القارئ من العودة دومًا إلى صفحات سابقة للتفريق بين الشخصيات، خصوصًا ما قد يبدو للبعض ظاهريًّا بأن شخصيتيْ «العارف» و«الكاشف» يمكن إدماجهما في شخصية واحدة، وهذا لن يجوز، بل كان سيخرّب العمل بالتأكيد ويجعل سياقاته متضاربة.
مَن سيقرأ بتمعُّن سوف يجد أن أقوال «العارف» تتطور في تعميق المعرفة بالأحداث الأرضية لشمس، ومن يتابع أقوال «الكاشف» سيكتشف أنه ينقل لنا شذرات مما سُمِح له به لـ«الكشف» و«التصحيح»، ولم يكن لديه أبدًا العلم الكامل ولن يكون. المساران مختلفان ومكمّلان لبعضهما.
*البطل الوحيد في المدينة يقول: «صرت ملكاً ومالكاً غنياً ومسكيناً وبائساً في آن» فهل يمكن القول إن الإنسان بدون الآخرين يفتقد أكبر المعاني، حتى إن صار مالكاً للعالم بأسره؟
حين قال «شمس» قوله هذا لنفسه كان في ذروة يأسه وتعاسته. لم يستمر له كل هذا المُلك وكل هذا المشاع إلا لزمن قصير حتى أدرك أنه وحيد في هذه الدنيا. والكارثي في الأمر أنه لا مجال لمقارنة ممكنة مع أي كائن آخر ولو على سبيل الافتراض، حالة تساوي الصفر باللانهائي، وهي حالة مزعزعة لا يقدر على قسوتها أي إنسان، هي منزلة لا بشرية، لأن شمس أصبح يملك أملاكًا لا يمكنه التحكم فيها. هناك أيضًا مثل في العامية يقول «الجنة من غير ناس ما تِنداس»، أراه تعبيرًا عبقريًّا.
هل يمكن تفسير كل شيء بالنشأة والتربية؟ هل هذا ما جعل الرواية تعود بامتداد الأحداث إلى حياة «شمس»، بين أبٍ يكره خلفة البنات وتعدد الزوجات، وأمٍ تقلقها الأحلام، وأخوةٍ بنات كنَّ يُلبِسن شمس ملابسهن ويضعن زينتهن على وجهه؟
للتربية ومرحلة الطفولة أثر عميق على حياة كل شخص حتى رحيله في أرذل العمر.
في علم النفس تبدأ حلول المشكلات النفسية بالعودة إلى الطفولة والتربية وتحليل أحداثهما والبحث عن المفاتيح هناك. فالخطوات الأولى هي التي تلقي الضوء على كثير من السلوك القادم.
أردت في حالة «راني» والد «شمس» أن آخذ قبسًا من نوعية هذه الحياة، توطئة نحو اتجاه آخر عانى منه «شمس». فالأهل أيضًا يصيغون حياة البنات والأبناء بقوالب يفلت منها من يفلت ويتشكّل بها من يتشكّل. ربما يكون في الحالين نجاة أو وجع عظيم. فإما أن يكون الشخص مثل قالب من الرمل م
حفوظًا في صدفته وحين تنكسر هذه الصدفة يتبعثر، وإما أن يكون داخل القالب مثل حجر صلد وحين تنكسر الصدفة أو القوقعة، يبقى طوال عمره على الشكل الذي خرج مشكولًا به. هذا ما سيتخلّق عليه الشخص في الحياة.
«شمس» تعرّض لحياة شاقة وكان فيه من التكوين الهشّ جانب ومن التكوين الصلد جانب آخر، وهنا كانت المعاناة أعظم فخرجتْ هذه الرواية.
كانت هناك إشارات بامتداد الرواية إلى الملابس النسائية في خزانة شمس بشكل مهد للنهاية التي تقول بجلاء إن شمس قد يكون أنثى وإن القابلة قد أخفت حقيقتها على الأب «راني» الذي ظن أنه صار أباً أخيراً لولد. هل فكرت أن تُكمل الرواية قليلاً بعد هذه الحقيقة الجديدة؟ لماذا قررت التوقف هنا؟
كان للرواية بالطبع أن تسير في هذا المسار وتبحث عن خلاص من الحالة النفسية المربكة لشمس، لكنني فضلت المسار الباحث عن الجانب الوجودي وهو الأهم من وجهة نظري لهذه الوحدة المرعبة. أردت مسار العودة شبه الطبيعية أولاً إلى الحياة، لأن شمس كان أشبه بميت في الحياة أو بشخص وهمي لا معنى لوجوده بمفرده في الدنيا. ركّزتُ على نقطة عودته إلى الحياة وهو فيها. وهي المعضلة شبه المستحيلة التي تطلّبتْ عملاً أصعب للوصول إلى كينونته البشرية وعودته إلى الحياة، وكانت الأجدر من التركيز على تحديد «جِنْدَر» شمس الأقل أهمية بكثير.
هناك شيء يشدك دائماً إلى مصر، وهو كذلك ما شد شمس في رحلته المثيرة الطويلة عبر البحر حتى وصل إلى أرض الأجداد، أرض المعابد والتماثيل والنقوش الفرعونية. هل منحت شمس جزءاً من تكوينك؟
بكل تأكيد منحتُ شمس جزءًا من تكويني وخبرتي داخل الرواية. أفعل ذلك في كل رواية، فأنا «حمزة» في «بيت النخيل»، وأنا «آدم» في «الرحلة 797 المتجهة إلى فيينا»، وأنا «مينا» في «وأطوف عاريًا». أنا جميعهم بقدر ما، ولستُ أيًّا منهم في الوقت نفسه. إنها دومًا حِرفة وحِرفية ومكر الراوي.
أما ما يشدني إلى مصر فهي بلد ميلادي وبلد الأم والجدات بدءًا من دمياط مكان مولد جدتي لأمي، مرورًا ببورسعيد مكان مولد جدتي وأمي، حتى الاستقرار في القاهرة: منيل الروضة، الحسينية، الظاهر، كوبري القبة، عين شمس. أزعم أنني أعرف دهاليز القاهرة بما يسمح لي بكتابات عنها عديدة ومتنوعة.
أين تضع هذه الرواية من أعمالك؟
لا أستطيع تقييم أي عمل لي بشكل نقدي منهجي أو عفوي مهما حاولت، حتى لو أوهمتُ نفسي بدور القارئ المحايد. لكني أطمح دومًا أن تكون كل رواية جديدة لي في منطقة أحدث، تصوغ أسئلة جديدة لتفتح أبواب شكوك مغلقة.
أبذل قصارى جهدي لإنجازٍ كيفيٍّ أراه الأجدى. لا يعني قولي إنني لا أُقَدّر أصحاب الإنجاز الكمي، فلكل اختياراته وقدراته. المنافسة مع النفس عندي هي الأصعب وفي ظني هي الأرقى.
نشرت حتى الآن أربع روايات ومجموعتين قصصيتين وخمسة دواوين شعرية ومسرحية وكتاباً في السيرة الذاتية، وتُرجمت أعمالك إلى عدد كبير من اللغات الأوروبية، وشاركت في مهرجانات أدبية عالمية، وحصلت على منحة «إلياس كانِتي» الكبرى في فيينـَّا عام 2005 والجائزة الكبرى للشعر في رومانيا عام 2007، وتم تعيينك كسفير للنمسا لعام الحوار الثقافي الأوروبي (ejid) عام 2008، فهل تشعر بالرضا؟
ينتابني الشعور دومًا بأنه كان من الممكن لي أن أنجز أكثر مما أنجزت، إلا أن طبيعتي تأبى التسرع واللهفة على الإصدار المتهافت، لكنني راضٍ عن ما أنجزت وهو رضا مؤقت، فالأوجاع في الحياة لا تزال بحاجة إلى مزيد من الكتابات. ما زلت موقنًا بأن الكتابة كأحد الفنون الأساسية هي تعويض جمالي ضروري وعلاج لازم، وإن كان أثره غير مباشر وغير مرئي في الأمد القصير.
كتابات
هناك عدة نوافذ هيَّأت الطريق لطارق الطيب، منذ طفولته، ليصبح كاتبا. أبوه اهتم بوجود مكتبة في البيت، وباقتناء الكتب وتجليدها في مطبعة وترقيمها ووضع اسمه على كعوبها، مما جعله يظن أن الأب هو مؤلف كل هذه الكتب، وأنه بالتالي يجب أن يصير مثله ذات يوم.
حينما دخل طارق مدرسة «الإمام محمد عبده الابتدائية» في مصر، صارتْ حصة القراءة والمحفوظات من أسهل الحصص بالنسبة له وأكثرها مللاً، فقد التحق قبلها بكُتّاب «الشيخ علي» وأصبح متمكناً من اللغة، وربما لهذا السبب عهدت إليه معلمته «الأبلة سميحة» بابنها العنيف الشرس وكان في الرابعة من عمره تقريبًا، واضطرت لإحضاره معها إلى المدرسة بسبب ظروف الحياة. حمَّلته مهمة مرافقة ابنها إلى حوش المدرسة والتمشّي معه حتى تنتهي الحصة. لم يستطع ترويض هذا النمر الصغير إلا بالحكاية. بدأ في تأليف حكاية عن غراب ونخلة وخروف. في اليوم التالي أراد الطفل أن يستمع لبقية الحكاية فأخطأ طارق وحوَّل الغراب إلى يمامة والنخلة إلى تينة والخروف إلى عنزة. صحح الطفل مستنكرًا، فانتبه طارق إلى أنه يصغي باهتمام، وعدل الحكاية وحفظها ليستكملها له فيما بعد.
جاره العلامّة الأزهري الدكتور عبد الغفار إبراهيم صالح، كذلك، كان يقطن في الدور الثاني من المنزل، واكتشف ولعه بالعربية فتعهده بالرعاية ومنحه ساعات من المتعة في تذوق العربية وفهمها واستيعابها. هذه أقدم صور شكلت وعي الكاتب السوداني المصري طارق الطيب، الذي يستعيد في هذا الحوار تفاصيل وحكايات نشأته في القاهرة ثم استقراره في النمسا، وكيف هضمت شخصيته عدداً من الثقافات المختلفة، كما يتحدث عن رؤيته للأدب انطلاقاً من روايته الجميلة «لهو الإله الصغير».
كيف تتذكر حياتك القديمة في مصر من مقر إقامتك الحالي في النمسا؟ وما تأثير كونك ابنا لأبوين من جنسيتين مختلفتين (أب سوداني، وأم مصرية) عليك ككاتب وإنسان؟
ذكرت الكثير من سيرتي الذاتية في مطبوعات عديدة وتوجد صفحات كثيرة عن مصر في كتابي «محطات من السيرة الذاتية». يظن البعض أن الابتعاد عن أصل المكان الذي نشأ فيه الإنسان سوف يحولّه ببساطة من مغترب إلى غريب عن بلده. أرى العكس، فهذا الغياب الفيزيقي يُجلي المكان الأصلي بصورة غير متخيلة، يُبقي لهبه مشتعلاً على الدوام. فالمكان الأصلي حاضر وله تاريخ وجذور موشومة في الوجدان والهوية.
يكفي أن أقول لك أنني بقيتُ السنوات السبع الأولى هنا في فيينا أكتب عن طفولتي وحياتي القاهرية، ولم تلمس النمسا كتاباتي بوضوح إلا بعد فترة طويلة من اجتياز عائق اللغة وبعدها التعرُّف على النمسا من الداخل كوطن حقيقي ثانٍ، كتاريخ وجغرافيا وعادات
وتقاليد ومصير. ممتن بمعرفة الأصل المهم للنمسا خارج العاصمة فيينا منذ أربعة عقود، في ذاك الريف العظيم حيث أقضي دومًا نهايات الأسبوع هناك في بيت أهل زوجتي الذي أصبح بيتنا الثاني، رغم أنني قد أصبحتُ فييناويًّا من الدرجة الأولى أيضًا.
أما كوني ابنا لأبوين من جنسيتين مختلفتين أو بالأصح من مولدين ونشأتين مختلفتين، فهذا في حكم فترة الخمسينيات والستينيات يختلف شكلاً وموضوعًا عن عصرنا الحالي، وقد عشتُ هذه الحِقَب على أروع ما يكون. الآن يميل الناس أكثر للبحث عن الاختلاف في الجنسية والعقيدة، مع أنه في كل اختلاف إضافة وفي كل تنوع للثقافات نعمة. وأؤكد مجددًا: أن أكون «في» ثقافتين وليس «بين» ثقافتين لهو منحة غالية وهبة عالية.
من هم أبناء جيلك؟ هل أنت مهتم بمسألة المجايلة؟ وما الذي تراه إيجابياً أو سلبياً في وجودك داخل قارة أخرى وثقافة غريبة؟
لا أستطيع تحديد الجيل أو الحقبة الأدبية بشكل قاطع، فالأمر في ظني ليس محددًا بعمر الكاتب، وإن كنتُ أرى أن المعاصَرة أهم من المجايلة، فالأولى تنفتح على أبعاد الثقافة بلا حدود بينما الأخيرة تركز على فترة زمنية وارتباط عمري.
أمّا فيما يتعلق بالثقافات الأجنبية، فلم تعد الثقافة النمساوية -أو الثقافة الألمانية كلغة أجنبية أولى عندي- ثقافة غريبة عني، فأنا أعايشها يوميًّا منذ ما يقرب من أربعين عامًا سواء في العاصمة فيينا أو في ريف شمال النمسا، تغلغلتُ فيها فأضافت لي من منبعها مباشرة وأثرت هويتي بالجديد.
عبر اللغة الجديدة وجدتُ لي مكانًا له «صوت» مسموع و«مكانة». رؤية الأوطان من الخارج كان لا بد لها أن تتسع. لستُ من المتحيزين الذين يتعاملون مع الثقافات مثلما يتعاملون مع شأن الرياضة بالمنافسات والمكاسب و«الخسائر». الثقافة أكبر شأنًا من تضييقها في بؤر صغيرة، الثقافة تنتجها قرائح عالية فريدة لا تقيدها حدود جغرافية وهي مشاع لكل من ينهل منها ويرتوي ويرتقي.
جزء من الصورة العامة عنك أنك أستاذ جامعي رصين، وكذلك مزارع ينشر صوره على الفيسبوك مع نباتاته وزهوره وثماره بفخر. ماذا تعكس هذه الصورة عنك؟
صورة الأستاذ الجامعي هنا في أوروبا تختلف عن صورة الأستاذ الجامعي في عالمنا العربي والشرقي. أثناء دراستي في جامعة الاقتصاد في فيينا كان الأساتذة ينادوننا نحن ال
طلاب بكلمة «زميلي». هنا لا يمكنك غالبًا أن تفرّق بين الطالب والأستاذ، فالملابس متشابهة وبسيطة، بل تسعين في المائة من الأساتذة يأتون إلى الجامعة من خلال المواصلات العامة أو بالدراجات.
هنا صورة الأستاذ والطالب مؤسسة على احترام متبادل من الطرفين دون خوف الطالب ودون تعالي الأستاذ، بل الطالب هو من يقيّم الأستاذ والمنهج والجامعة عبر استبيان سري في كل فصل دراسي.
أظن أن محاضراتي يحبها الطلاب فأنا أحكي الكثير من الحكايات والتجارب ذات المغزى التي لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بالموضوعات المقررة، أعرّفهم بعالمنا البعيد عبر الثقافة من خلال قصص واقعية ومن خلال الأدب والفن، عبر فكّ الاشتباكات الذهنية بالحكاية.
الفكرة القديمة البائسة عن محاولة تقديم الثقافة من خلال الدين فقط بشكل دعائي و«دَعَويّ» فكرة ثبت فشلها، لذا تتجه معظم المساعدات الملموسة والهامة
من الملحقيات الثقافية العربية هنا في الغرب نحو آفاق مسدودة. هل نرضى نحن في بلادنا العربية بتعلم اللغات الأجنبية بشكل تبشيري؟
أما صورتي كمُزارع أو فلاح فهي صورة عادية وطبيعية توافق الطبيعة الشمالية التي أعيش فيها في نهايات الأسبوع أو إجازات الصيف، فحديقة البيت في الريف كبيرة نسبيًّا وبها أشجار وزهور وثمار وخضروات، اعتنائي بهذه النِعم وإصداراتي منها تجعلني أكثر زهوًا وغبطة في كل موسم، ومع الوقت والعمر أجد ميلاً أكبر إلى هذا المكان البديع الأصيل. والمُزارع هنا في الريف النمساوي ليس على الصورة النمطية التي في أذهاننا، بل هو مزارع غني وعلى قدر من الحصافة والعلم والدراسة، ومن المعتاد أن يمتلك في بيته الريفي مكتبة ويعشق الموسيقى ويحضر الحفلات الموجودة في كل قرية أو في المدن القريبة ويزور المعارض والمتاحف ويسافر ويرى العالم ويحترم الفن وقد يمارسه بنفسه في صورة هواية تقترب من الاحتراف.
ما ملاحظاتك على الرواية العربية في الوقت الحالي؟ هل تضارع الرواية الأجنبية من حيث العمق والقوة والإنسانية؟ وما الذي ينقصها لتصل إلى العالمية؟
قد يكون غريبا أن أقحم هنا ردًا يستحق: الشعر حاليًا أقوى من الرواية ولكنه غير مرئي ولا مُتبنَّى وجوائزه العالية غير محايدة في شروطها.
أما الرواية العربية فهي بلا شك قوية وجديرة بكل تقدير وتضارع بلا جدال الرواية الأجنبية من حيث العمق والقوة والإنسانية. غربلة الرواية العربية أمرها صعب وتحتاج إلى زمن طويل. الغربلة في الأدب الغربي تحدث بشكل دائم وغالبًا بلا مجاملة. أصدقاء الكاتب الأوروبي على وسائل التواصل الاجتماعي لا يمثلون عالمه الأدبي ولا تقييمه الحقيقي المحدود مثلما يحدث في عالمنا العربي. كاتبتهم المتميزة أو كاتبهم المتميز تُطبَع له كمية أكبر بكثير من كتابه ولا تُهدى الكتب هكذا مجانًا مثلما هو في بلادنا العربية. يتم تناول الإصدارات نقديًّا على نطاق أوسع وأعمق، ويكسب الكاتب المميز من كتبه ما يجعله يعيش حياة كريمة. أما عن تعدد وتنوع المنح الأدبية في دولة مثل النمسا عدد سكانها لا يتجاوز 9 ملايين نسمة، فهي تُعادِل قيمةً وعددًا أكثر من قيمة وعدد الجوائز في سائر العالم العربي مجتمعًا بعدد سكانه الـ 340 مليون نسمة.
في رأيي أن اختيار الروايات المؤثرة والمهمة -وليس روايات الجوائز أو روايات العلاقات والمصالح المتبادلة- هو ما ينقص الرواية العربية حتى تصل إلى العالمية، وهذا شأن صعب ويحتاج إلى زمن طويل وضمير سليم.
هل ترى أنك أخذت حقك نقدياً؟ وما ملاحظاتك على النقاد العرب؟
ليس هناك حقيقة معيار يمكنني الاستناد إليه كتقييم عادل وصحيح للنقد عني: فهل هو حجم النقد الذي كُتب عن أعمالي؟ أم هي الأسماء المرموقة في عالم النقد التي كتبت عني؟ أم هو تأثير النقد المكتوب عن أعمالي في تقدير لاحق: توزيع أكثر للكتب، منح جوائز، مشاركات أدبية مهمة .. إلخ؟
أنا راضٍ عن ما كُتب عني حتى الآن وممتن.
في تعقيبي على ملاحظاتي عن النقاد العرب أعيد كلامًا قديمًا لي لكنه ما زال ساريًا: فأنا آخذ النقد بعين الاعتبار والعناية، أستثني من ذلك الكتابات «المُجامِلة».
أتمنّى من النقد الأدبي أن يثير شغف القارئ كي يبحث عن أصل العمل ويقرأه إن أمكن، وأن يتجنّب الشوفونيّة، فبعض النقاد يتعصّبون ويتحزّبون وينحازون إلى النقد القُطري العربي الضيّق أو إبراز الفروق الحدودية الجغرافية أكثر من تغليبهم للهَمّ الإنساني الجماعي.
إذا انتقلنا إلى روايتك «لهو الإله الصغير» سنجد أنها تعتمد على الفانتازيا، فالبطل «شمس» يدعو بالخلاص من كل البشر حوله في لحظة ضيق والإله يستجيب له، وبالتالي يجد شمس نفسه فجأة وحيداً على الأرض، ورغم هذه الأجواء الفانتازية إلا أن الرواية حرصت على أن تلامس الواقع من خلال ربط البطل بالعالم ومدنه وأماكنه. هل كان لديك قرار بالمراوحة بين الواقعي والفانتازي قبل أن تبدأ كتابة العمل؟
في ظنّي أن التراوح أو إدماج الواقعي بالفانتازي هو الذي يخلق الحيوية للنص والمتعة كما هو الحال أيضًا في الحياة، فالحياة الواقعية بلا خيا
ل ستكون بلا أمل وبلا ملاذ.
كل عمل أدبي عندي يخلق نفسه من خلال فكرة وليدة في لحظة ما. تنفيذ هذه الفكرة يستجمع تاريخي الشخصي كله ويشحذ كل فانتازيا ممكنة، بعدها يتكون النص على مهلٍ بالحذف والإضافة والتغيير وأيضًا بالصبر حتى يظهر العمل كلوحة فنية مقبولة.
التلقائية كذلك هي مراودة الفن الجميل، فالتخطيط الزائد عن اللزوم للعمل الأدبي قد يجعله عملاً توثيقيًّا أو تقريريًّا أكثر من كونه عملا إبداعيا، فالإبداع الفاتن يولد من تلقاء نفسه أثناء الكتابة.
في «لهو الإله الصغير» بدأ العمل من واقع ناقص أكمله الفانتازي بشبه أجوبة شكّلتْ بدورها مكر الكتابة عبر سكْب أسئلة أجَدّ، وهكذا تضافر الواقع بالفانتازي لإنشاء هذا البناء الأدبي الذي اخترته.
في الرواية راوٍ اسمه «العارف»، وراوٍ آخر أكثر اطلاعاً اسمه «الكاشف»، وشمس نفسه راوٍ، وهناك الراوي العليم. هل كان الهدف من تضارب حكايات هؤلاء الرواة هو إسباغ الإثارة على العمل من خلال تشكيك القراء في كل انطباعاتهم؟
عندك حق في رأيك فيما يتعلق بتضارب حكايات الرواة، لكنه مقصود، وإلا كان العمل تأكيدًا للمؤكَّد ونفيًا للنفي دون إثارة فكرية. حكايات شمس واضحة وصريحة لكنها ناقصة، والراوي يُسَيِّر مراكب الكلام للثلاثة ويُضفِّر توقيت دخول كل شخصية لتدلي بدلوها فيما فلَتَ كي تكتمل اللوحة.
لم يكن القصد أبدًا تشويش القارئ وتعسيره بقدر تشكيكه فعلاً. فالشك هو إعادة تفكير من أجل التيقُّن من صحة الطريق أو على الأقل تصديق أصل الحكاية أو البحث عن يقين يؤكّد أو ينفي.
«العارف» كان قريبًا من شمس وهو شخصية أرضية ذات معارف أصيلة ترتبط بظروف شمس الدقيقة منذ مولده، متتبعًا دقائق سيرته الحياتية وسيرة كل من
ارتبط به، و«العارف» مخلص لمعرفته بحال شمس وصادق في روايته.
«الكاشف» في المقابل شخصية سامية قريبة من الآلهة، يدرك الأمور العلوية وبعض أسبابها، يدرك بعض كبريات الأمور ويكشف فقط عما يحقّ له الكشف عنه وصادق أيضًا في روايته.
هكذا سارت المسارات الثلاثة، مرة بالتوازي أفقيًّا عبر تدفق الحكايات، ومرة بالتوازي رأسيًّا عبر التضارب أو الاختلاف في المسارات، وهذا هو ما شكَّل نسيج الرواية.
لجأت إلى الحل الطباعي للتفريق بين الرواة، فالعارف له «فنط» كتابي مختلف، بينما الكاشف مرتبط بجملة مفتاحية دائماً هي «العلم عند الإله الأعلى ولي حق الكشف والتصحيح». ألم يكن لديك تخوف من وجود نوع من النمطية مع تكرر ظهورهما؟
بالتأكيد رأيتُ أن الحل التقني الظاهري ضرورة في هذا العمل. استخدمتُ أثناء الكتابة ثلاثة ألوان من أجل التفريق السريع، ولو كان الأمر بيدي بعيدًا عن التكلفة الباهظة لأخرجتُ العمل بالألوان كما كان على شاشتي أثناء العمل.
أشفقتُ على القارئ من العودة دومًا إلى صفحات سابقة للتفريق بين الشخصيات، خصوصًا ما قد يبدو للبعض ظاهريًّا بأن شخصيتيْ «العارف» و«الكاشف» يمكن إدماجهما في شخصية واحدة، وهذا لن يجوز، بل كان سيخرّب العمل بالتأكيد ويجعل سياقاته متضاربة.
مَن سيقرأ بتمعُّن سوف يجد أن أقوال «العارف» تتطور في تعميق المعرفة بالأحداث الأرضية لشمس، ومن يتابع أقوال «الكاشف» سيكتشف أنه ينقل لنا شذرات مما سُمِح له به لـ«الكشف» و«التصحيح»، ولم يكن لديه أبدًا العلم الكامل ولن يكون. المساران مختلفان ومكمّلان لبعضهما.
*البطل الوحيد في المدينة يقول: «صرت ملكاً ومالكاً غنياً ومسكيناً وبائساً في آن» فهل يمكن القول إن الإنسان بدون الآخرين يفتقد أكبر المعاني، حتى إن صار مالكاً للعالم بأسره؟
حين قال «شمس» قوله هذا لنفسه كان في ذروة يأسه وتعاسته. لم يستمر له كل هذا المُلك وكل هذا المشاع إلا لزمن قصير حتى أدرك أنه وحيد في هذه الدنيا. والكارثي في الأمر أنه لا مجال لمقارنة ممكنة مع أي كائن آخر ولو على سبيل الافتراض، حالة تساوي الصفر باللانهائي، وهي حالة مزعزعة لا يقدر على قسوتها أي إنسان، هي منزلة لا بشرية، لأن شمس أصبح يملك أملاكًا لا يمكنه التحكم فيها. هناك أيضًا مثل في العامية يقول «الجنة من غير ناس ما تِنداس»، أراه تعبيرًا عبقريًّا.
هل يمكن تفسير كل شيء بالنشأة والتربية؟ هل هذا ما جعل الرواية تعود بامتداد الأحداث إلى حياة «شمس»، بين أبٍ يكره خلفة البنات وتعدد الزوجات، وأمٍ تقلقها الأحلام، وأخوةٍ بنات كنَّ يُلبِسن شمس ملابسهن ويضعن زينتهن على وجهه؟
للتربية ومرحلة الطفولة أثر عميق على حياة كل شخص حتى رحيله في أرذل العمر.
في علم النفس تبدأ حلول المشكلات النفسية بالعودة إلى الطفولة والتربية وتحليل أحداثهما والبحث عن المفاتيح هناك. فالخطوات الأولى هي التي تلقي الضوء على كثير من السلوك القادم.
أردت في حالة «راني» والد «شمس» أن آخذ قبسًا من نوعية هذه الحياة، توطئة نحو اتجاه آخر عانى منه «شمس». فالأهل أيضًا يصيغون حياة البنات والأبناء بقوالب يفلت منها من يفلت ويتشكّل بها من يتشكّل. ربما يكون في الحالين نجاة أو وجع عظيم. فإما أن يكون الشخص مثل قالب من الرمل م
حفوظًا في صدفته وحين تنكسر هذه الصدفة يتبعثر، وإما أن يكون داخل القالب مثل حجر صلد وحين تنكسر الصدفة أو القوقعة، يبقى طوال عمره على الشكل الذي خرج مشكولًا به. هذا ما سيتخلّق عليه الشخص في الحياة.
«شمس» تعرّض لحياة شاقة وكان فيه من التكوين الهشّ جانب ومن التكوين الصلد جانب آخر، وهنا كانت المعاناة أعظم فخرجتْ هذه الرواية.
كانت هناك إشارات بامتداد الرواية إلى الملابس النسائية في خزانة شمس بشكل مهد للنهاية التي تقول بجلاء إن شمس قد يكون أنثى وإن القابلة قد أخفت حقيقتها على الأب «راني» الذي ظن أنه صار أباً أخيراً لولد. هل فكرت أن تُكمل الرواية قليلاً بعد هذه الحقيقة الجديدة؟ لماذا قررت التوقف هنا؟
كان للرواية بالطبع أن تسير في هذا المسار وتبحث عن خلاص من الحالة النفسية المربكة لشمس، لكنني فضلت المسار الباحث عن الجانب الوجودي وهو الأهم من وجهة نظري لهذه الوحدة المرعبة. أردت مسار العودة شبه الطبيعية أولاً إلى الحياة، لأن شمس كان أشبه بميت في الحياة أو بشخص وهمي لا معنى لوجوده بمفرده في الدنيا. ركّزتُ على نقطة عودته إلى الحياة وهو فيها. وهي المعضلة شبه المستحيلة التي تطلّبتْ عملاً أصعب للوصول إلى كينونته البشرية وعودته إلى الحياة، وكانت الأجدر من التركيز على تحديد «جِنْدَر» شمس الأقل أهمية بكثير.
هناك شيء يشدك دائماً إلى مصر، وهو كذلك ما شد شمس في رحلته المثيرة الطويلة عبر البحر حتى وصل إلى أرض الأجداد، أرض المعابد والتماثيل والنقوش الفرعونية. هل منحت شمس جزءاً من تكوينك؟
بكل تأكيد منحتُ شمس جزءًا من تكويني وخبرتي داخل الرواية. أفعل ذلك في كل رواية، فأنا «حمزة» في «بيت النخيل»، وأنا «آدم» في «الرحلة 797 المتجهة إلى فيينا»، وأنا «مينا» في «وأطوف عاريًا». أنا جميعهم بقدر ما، ولستُ أيًّا منهم في الوقت نفسه. إنها دومًا حِرفة وحِرفية ومكر الراوي.
أما ما يشدني إلى مصر فهي بلد ميلادي وبلد الأم والجدات بدءًا من دمياط مكان مولد جدتي لأمي، مرورًا ببورسعيد مكان مولد جدتي وأمي، حتى الاستقرار في القاهرة: منيل الروضة، الحسينية، الظاهر، كوبري القبة، عين شمس. أزعم أنني أعرف دهاليز القاهرة بما يسمح لي بكتابات عنها عديدة ومتنوعة.
أين تضع هذه الرواية من أعمالك؟
لا أستطيع تقييم أي عمل لي بشكل نقدي منهجي أو عفوي مهما حاولت، حتى لو أوهمتُ نفسي بدور القارئ المحايد. لكني أطمح دومًا أن تكون كل رواية جديدة لي في منطقة أحدث، تصوغ أسئلة جديدة لتفتح أبواب شكوك مغلقة.
أبذل قصارى جهدي لإنجازٍ كيفيٍّ أراه الأجدى. لا يعني قولي إنني لا أُقَدّر أصحاب الإنجاز الكمي، فلكل اختياراته وقدراته. المنافسة مع النفس عندي هي الأصعب وفي ظني هي الأرقى.
نشرت حتى الآن أربع روايات ومجموعتين قصصيتين وخمسة دواوين شعرية ومسرحية وكتاباً في السيرة الذاتية، وتُرجمت أعمالك إلى عدد كبير من اللغات الأوروبية، وشاركت في مهرجانات أدبية عالمية، وحصلت على منحة «إلياس كانِتي» الكبرى في فيينـَّا عام 2005 والجائزة الكبرى للشعر في رومانيا عام 2007، وتم تعيينك كسفير للنمسا لعام الحوار الثقافي الأوروبي (ejid) عام 2008، فهل تشعر بالرضا؟
ينتابني الشعور دومًا بأنه كان من الممكن لي أن أنجز أكثر مما أنجزت، إلا أن طبيعتي تأبى التسرع واللهفة على الإصدار المتهافت، لكنني راضٍ عن ما أنجزت وهو رضا مؤقت، فالأوجاع في الحياة لا تزال بحاجة إلى مزيد من الكتابات. ما زلت موقنًا بأن الكتابة كأحد الفنون الأساسية هي تعويض جمالي ضروري وعلاج لازم، وإن كان أثره غير مباشر وغير مرئي في الأمد القصير.
كتابات