عازف الكمان.
بقلم : سمير الفيل.
( مهداة إلى روح الأستاذ ميشيل ، معلم الموسيقى ، في مدرسة دمياط الإعدادية بنين ، سنة 1964).
استقر على مقعده الوثير ، تنقلت عيناه بين شهادات التقدير الموقعة من هيئات موسيقية قومية ومحلية.
توقفت عند الكمان الذي رآه معلقا عند زاوية من زوايا الصالون الذي يفضل الجلوس فيه عند شعوره بالوحدة.
يفكر في نظراتها الحانية ، وهي تنسحب من الحياة ، كم كانت حنونة ومؤثرة.
يأتيه نقيق الضفادع من حقول زراعية قريبة من بيته الذي اختاره في ناحية بعيدة عن الناس.
كان ساعي البريد يأتيه بخطابات المعجبات والمعجبين ، يطلبون منه أن يأتي لمدنهم كي يعزف على كمانه ألحانا تتميز بالرقة والرهافة.
كانت السعادة تغمره وهو يرفع سماعة التليفون ، يرد على مكالماتهم ، يعدهم أن يلتقي بهم في أقرب فرصة.
طاف بالبلاد شرقا وغربا، وآن له أن يستريح بعد أن حقق الشهرة والمجد.
يخرج النياشين الموضوعة في دولاب زجاجي كبير ، يتفحصها من جديد ، يرى أن الأوشحة قد ذهب بهاؤها فصارت أقرب للملابس القديمة المصفرة .
لا أحد يمنعه من العزف ، عليه أن يجرب من جديد تمرير القوس على الأوتار ، غير أن أصابعه لا تطاوعه. تخرج النغمات نشازا .
هو يثق في إمكانية عودته لمجده السالف غير أن أطباء الأعصاب نصحوه أن يستريح ، فلا يجهد نفسه .
سافر بولس وحنا إلى كندا بينما استقرت مارجريت في ألمانيا. قبل أن تغمض أوديت عينيها طلبت منه أن يعزف لها فالسا كانت تحبه ، وقتها استجمع شجاعته ، وعزف لها وحدها ببراعة غير مسبوقة . كان عزفه يرتقي بها لسموات بعيدة .
تشجعه بإيماءة من رأسها بينما ينظر إلى شعرها الأبيض الذي بدا كالتاج. قالت له والالم يعتصرها: رائع يا ميشيل.
كانت آخر كلمة نطقت بها ، حضر قداسها بالكنيسة جيران كثيرون ، ولم يكن ممكنا عودة الابنين والابنة.
يرى صورتها معه في إحدى حدائق مدريد يتجولان بانطلاق ، وهو يسبقها بخطوة وهي تحاول اللحاق به.
حياة مليئة بالموسيقى والمقامات والسفريات البعيدة.
قال لمارجريت قبل سفرها : جهزي جواز سفرك ، ادرسي هناك ثم عودي لترعي امك.
هزت رأسها انها ستفعل ، ولكن مشاغل الحياة منعتها من العودة، وإن ظلت الاتصالات التليفونية بلا توقف .
وقت الجلوس على المائدة كانت تفضل العشاء مع إشعال الشموع، ضحك محذرا إياها: تبدين كالخواجات؟
ضحكت ضحكتها المحبة للحياة ، هزت رأسها ، قالت له مشاغبة: حاضر يا خواجة ميشيل.
حين وقع بولس من فوق الحصان ، حمله أبوه وجرى به لعيادة الدكتور محمد عقل. تخطى الدور بعد استئذان الناس: أرجوكم ، معي طفل .
كانوا متسامحين فسمحوا له بالدخول ، في داخل حجرة الكشف ، أكد له الدكتور محمد أن الإصابات طفيفة ، وكلها سطحية.
مال على الطفل وربت على رأسه: من أسقطك ، الحصان أم خوفك من أبيك ميشيل؟
كان الطفل يمر بمرحلة حرجة فلم يرد عليه. تجولت نظراته في المكان ، خرج والضمادات تحيط برأسه.
قالت أمه بالخارج. لو تعافى علينا أن نفي بالندر في مولد القديسة دميانة.
يسترجع أوقاتا صعبة مرت بهم ، حين تشاجر حنا ، وتلقى ضربة على رأسه من زميله عبدالسلام الخياط.
ذهب إلى المدرسة غاضبا، أرسل الناظر يستدعي الطفل. وجده الأب مثل نواة البلح الإبريمي ، لا ينطق وجهه بالشقاوة.
قال حنا ، وهو يرى جسد زميله يرتجف: أنا سامحته يا أبي.
قبل أن يجيب الأستاذ ميشيل بشيء ، أسرع عبدالسلام بالاعتذار. قال لحنا : اضربني فوق راسي بقبضتك . واحدة بوحدة هذا حقك.
شعر حنا بالحرج، رفع يده وهبط بها على رأس زميله بخفة ، ضربة خفيفة كأنه يقبله.
ضحك الناظر والأستاذ ميشيل وضحك حنا ، أما عبدالسلام فقد أمسك بيد زميله ، رفعها وجعلها تهوي بقوة على رأسه فسمعت الضربة في فضاء الحجرة التي ترفع علم الجمهورية ويحتلها صورة جمال عبدالناصر.
وقت الانصراف ، قال عبد السلام لحنا وهما يغادران المدرسة، وبشكل عفوي: تعالى لتلعب معنا الكرة ؟
قال حنا متحيرا: أبي لو علم سيعاقبني.
جذبه من يده: ومن يفتن علينا؟
عاد حنا إلى البيت متأخرا ، وعند جلوس الأسرة على مائدة الطعام ، قبل أن يضع لقمة في فمه، نطق حنا: أنا يا أبي خالفت تعليماتك ولعبت الكرة في الشارع.
لحظت صمت قطعتها أوديت، وكانت ما زالت شابة وجميلة: ولم لا.. كل الأطفال يلعبون.
يذهب للحائط يمسك الكمان ، يحاول من جديد أن يعزف بكل المهارة التي تعلمها ، في الحجرة نفسها التي قبلها فيها القبلة الأولى.
يشعر أنه لن يخفق هذه المرة ، لم يملك نفسه وهو يرى أوديت في صورتها المعلقة على الحائط، تهز رأسها مشجعة : رائع جدا .. رائع .. يا ميشيل؟!
3 / 7/ 2022.
بقلم : سمير الفيل.
( مهداة إلى روح الأستاذ ميشيل ، معلم الموسيقى ، في مدرسة دمياط الإعدادية بنين ، سنة 1964).
استقر على مقعده الوثير ، تنقلت عيناه بين شهادات التقدير الموقعة من هيئات موسيقية قومية ومحلية.
توقفت عند الكمان الذي رآه معلقا عند زاوية من زوايا الصالون الذي يفضل الجلوس فيه عند شعوره بالوحدة.
يفكر في نظراتها الحانية ، وهي تنسحب من الحياة ، كم كانت حنونة ومؤثرة.
يأتيه نقيق الضفادع من حقول زراعية قريبة من بيته الذي اختاره في ناحية بعيدة عن الناس.
كان ساعي البريد يأتيه بخطابات المعجبات والمعجبين ، يطلبون منه أن يأتي لمدنهم كي يعزف على كمانه ألحانا تتميز بالرقة والرهافة.
كانت السعادة تغمره وهو يرفع سماعة التليفون ، يرد على مكالماتهم ، يعدهم أن يلتقي بهم في أقرب فرصة.
طاف بالبلاد شرقا وغربا، وآن له أن يستريح بعد أن حقق الشهرة والمجد.
يخرج النياشين الموضوعة في دولاب زجاجي كبير ، يتفحصها من جديد ، يرى أن الأوشحة قد ذهب بهاؤها فصارت أقرب للملابس القديمة المصفرة .
لا أحد يمنعه من العزف ، عليه أن يجرب من جديد تمرير القوس على الأوتار ، غير أن أصابعه لا تطاوعه. تخرج النغمات نشازا .
هو يثق في إمكانية عودته لمجده السالف غير أن أطباء الأعصاب نصحوه أن يستريح ، فلا يجهد نفسه .
سافر بولس وحنا إلى كندا بينما استقرت مارجريت في ألمانيا. قبل أن تغمض أوديت عينيها طلبت منه أن يعزف لها فالسا كانت تحبه ، وقتها استجمع شجاعته ، وعزف لها وحدها ببراعة غير مسبوقة . كان عزفه يرتقي بها لسموات بعيدة .
تشجعه بإيماءة من رأسها بينما ينظر إلى شعرها الأبيض الذي بدا كالتاج. قالت له والالم يعتصرها: رائع يا ميشيل.
كانت آخر كلمة نطقت بها ، حضر قداسها بالكنيسة جيران كثيرون ، ولم يكن ممكنا عودة الابنين والابنة.
يرى صورتها معه في إحدى حدائق مدريد يتجولان بانطلاق ، وهو يسبقها بخطوة وهي تحاول اللحاق به.
حياة مليئة بالموسيقى والمقامات والسفريات البعيدة.
قال لمارجريت قبل سفرها : جهزي جواز سفرك ، ادرسي هناك ثم عودي لترعي امك.
هزت رأسها انها ستفعل ، ولكن مشاغل الحياة منعتها من العودة، وإن ظلت الاتصالات التليفونية بلا توقف .
وقت الجلوس على المائدة كانت تفضل العشاء مع إشعال الشموع، ضحك محذرا إياها: تبدين كالخواجات؟
ضحكت ضحكتها المحبة للحياة ، هزت رأسها ، قالت له مشاغبة: حاضر يا خواجة ميشيل.
حين وقع بولس من فوق الحصان ، حمله أبوه وجرى به لعيادة الدكتور محمد عقل. تخطى الدور بعد استئذان الناس: أرجوكم ، معي طفل .
كانوا متسامحين فسمحوا له بالدخول ، في داخل حجرة الكشف ، أكد له الدكتور محمد أن الإصابات طفيفة ، وكلها سطحية.
مال على الطفل وربت على رأسه: من أسقطك ، الحصان أم خوفك من أبيك ميشيل؟
كان الطفل يمر بمرحلة حرجة فلم يرد عليه. تجولت نظراته في المكان ، خرج والضمادات تحيط برأسه.
قالت أمه بالخارج. لو تعافى علينا أن نفي بالندر في مولد القديسة دميانة.
يسترجع أوقاتا صعبة مرت بهم ، حين تشاجر حنا ، وتلقى ضربة على رأسه من زميله عبدالسلام الخياط.
ذهب إلى المدرسة غاضبا، أرسل الناظر يستدعي الطفل. وجده الأب مثل نواة البلح الإبريمي ، لا ينطق وجهه بالشقاوة.
قال حنا ، وهو يرى جسد زميله يرتجف: أنا سامحته يا أبي.
قبل أن يجيب الأستاذ ميشيل بشيء ، أسرع عبدالسلام بالاعتذار. قال لحنا : اضربني فوق راسي بقبضتك . واحدة بوحدة هذا حقك.
شعر حنا بالحرج، رفع يده وهبط بها على رأس زميله بخفة ، ضربة خفيفة كأنه يقبله.
ضحك الناظر والأستاذ ميشيل وضحك حنا ، أما عبدالسلام فقد أمسك بيد زميله ، رفعها وجعلها تهوي بقوة على رأسه فسمعت الضربة في فضاء الحجرة التي ترفع علم الجمهورية ويحتلها صورة جمال عبدالناصر.
وقت الانصراف ، قال عبد السلام لحنا وهما يغادران المدرسة، وبشكل عفوي: تعالى لتلعب معنا الكرة ؟
قال حنا متحيرا: أبي لو علم سيعاقبني.
جذبه من يده: ومن يفتن علينا؟
عاد حنا إلى البيت متأخرا ، وعند جلوس الأسرة على مائدة الطعام ، قبل أن يضع لقمة في فمه، نطق حنا: أنا يا أبي خالفت تعليماتك ولعبت الكرة في الشارع.
لحظت صمت قطعتها أوديت، وكانت ما زالت شابة وجميلة: ولم لا.. كل الأطفال يلعبون.
يذهب للحائط يمسك الكمان ، يحاول من جديد أن يعزف بكل المهارة التي تعلمها ، في الحجرة نفسها التي قبلها فيها القبلة الأولى.
يشعر أنه لن يخفق هذه المرة ، لم يملك نفسه وهو يرى أوديت في صورتها المعلقة على الحائط، تهز رأسها مشجعة : رائع جدا .. رائع .. يا ميشيل؟!
3 / 7/ 2022.