عبد السلام قطرميز.. رحلة الإبداع المتشعّبة والطويلة
د. محمود شاهين (عبد السلام قطرميز) واحد من النحاتين المهمّين والذين نهضت على عاتقهم حركة فن النحت الحديث في سوريّة، فهو منذ تخرّجه في قسم النحت بكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق عام 1964 (وهي أول دفعة تتخرج فيها) يعمل بجدٍ واجتهادٍ في هذا المجال: إنتاجاً وتأهيلاً للكوادر الفنيّة الشابة من خلال ترؤسه مركز أحمد وليد عزت للفنون التطبيقيّة بدمشق، وتدريسه مادتي النحت والخزف فيه لعدة عقود من الزمن، وما زال يثري حركة النحت السوري المعاصر بعطاءات متلاحقة حتى اليوم، سواء بالأعمال النصبيّة أو الحُجريّة. يُضاف إلى ذلك تمكنه من تقانات فن النحت كافة وخبراته العميقة في التعامل معها، بدءاً بمادة البرونز وخامتي الحجر والرخام وانتهاءً بالحجر الصناعي والخزف والبوليستر وغيره. إنتاج غزير للنحات قطرميز إنتاج فني غزير تتوزعه مطارح عديدة في سوريّة، وهو بشكل عام لم يغادر الضفاف الواسعة للواقعيّة، رغم المقاربات التجريديّة والاختزالات المكثفة للعناصر المكوّنة لمنحوتاته، والتي تفرضها عليه طبيعة الخامة أحياناً من جهة، ويفرضها هو عليها لتأكيد معاصرته لما تكتظُ به محترفات النحت العالميّة من اتجاهات وأساليب جديدة من جهة ثانية. وفي أحايين أخرى يلجأ إلى اختزال وتكثيف المفردة الواقعيّة بهدف الخروج بتكوينات جماليّة بصريّة معبّرة قادرة على مشاغلة عين المتلقي قبل أن تقدّم له دلالتها الواقعيّة، أو تُفصح عن رموزها ومضامينها. كما أتقن النحات قطرميز وسائل التعبير التقليديّة والحديثة في فن النحت، وكان وزميله النحات الراحل وديع رحمة من أوائل الذين أتقنوا حرفة صبّ البرونز في سوريّة، وقد كان نصب (الثوري العربي) الذي كان موجوداً لعدة عقود أمام مبنى محافظة دمشق (مكان تمثال يوسف العظمة حالياً) قبل أن يُنقل إلى جانب مبنى اتحاد الفلاحين في منطقة البرامكة، أولى تجاربهما على هذا الصعيد، وهو مؤلّف من تمثال لفلاح يحمل مشعل الثورة ومجموعة لوحات نحت نافر، تتناول موضوعات متشابهة تُحيط بقاعدة التمثال، وقد شارك النحاتين قطرميز ورحمة في تصميم وتنفيذ هذا العمل النحتي النصُبي والذي بات من معالم دمشق المتميزة، الفنان الرائد محمود جلال. بعدها أنجز النحات عبد السلام قطرميز نصُب شهداء الثورة السوريّة الكبرى الموجود حالياً في إحدى ساحات مدينة السويداء، وهو منفّذ من البرونز أيضاً، وله العديد من التماثيل الميدانيّة والنصُب التذكاريّة المنفّذة من تقانات مختلفة، والموجودة في أكثر من مدينة وبلدة سوريّة، وهي في مجملها تكتنز قيماً فنيّة رفيعة وشديدة المقاربة لمن تمثّلهم من شخصيات وطنيّة اعتباريّة سياسيّة وثقافيّة، وتمّ تنفيذها بكثير من المعلّميّة والإتقان. اتجاه واقعي رصين تُصنف تجربة النحات عبد السلام قطرميز ضمن الاتجاه الواقعي الرصين، والمتمثل لروح وقيم الكلاسيكيّة المتقنة، غير أن له أيضاً توجهات واقعيّة مختزلة شارف في بعضها التكعيبيّة، وفي بعضها الآخر لامسَ التجريد الهندسي القائم على النسب الواقعيّة، ما أعطى منحوتته معادلاً بصرياً يقفُ في البرزخ الفاصل بين (المشخّص) و(المجرّد).. معادلٌ يقوم بمشاغلة بصر المتلقي ويدفعه للقيام بعملية تفكيك وتركيب وإدراك لمكوّناته البصريّة بحثاً عما تكتنزه من دلالات وإيحاءات ومعانٍ، وفقاً للحالة اللحظيّة التي تتلّبسه أثناء مواجهته للعمل، الذي رغم صِغر حجمه أحياناً يحمل خاصيّة نصُبيّة مدهشة. ويتخذ النحات قطرميز من الإنسان، الموضوع الرئيس لمنحوتاته، فهو مولعٌ (كما يقول الناقد الراحل طارق الشريف) بالموضوعات الإنسانيّة والقضايا الاجتماعيّة، وقد اكتسب خبرةً كبيرة في النحت نتيجة لدراسته في القاهرة في البداية ثم في دمشق، وتعرّفه إلى بعض عمالقة هذا الفن في مصر، الأمر الذي انعكس بوضوح في البنية القوية لعمله النحتي وتكوينه المعماري الذي يمنح المتلقي الإحساس بواقعيته المتحركة والمعبّرة، وخير مثال على ذلك أعمال مشروع تخرّجه من كلية الفنون القائمة على كتلة قوية راسخة ومتحركة قادرة على التعبير عن موضوعها باللغة النحتيّة النصُبيّة الجامعة بين القيم الفنيّة التقليديّة والحديثة لهذا الفن العريق بكثير من التوافق والانسجام، وهذه خصيصة مهمة ونادرة قلّما نراها لدى نحات آخر. ولهذا نرى جملة هذه الخصائص والمقومات الفنيّة الراسخة في فن النحت قديمه وحديثه بوضوح في العديد من أعمال النحات قطرميز، لاسيّما منها نصُبْ شهداء الثورة السوريّة وتمثال الأمومة وسلسلة الوجوه التي وضعها لسياسيين ومثقفين سوريين، وكلها تميزت بكتلها المبنيّة بإحكام وتوازن ورسوخ وحركيّة معبّرة وتنوّع في السطوح والملامس، ما جعلها تجمع ببراعة بين روح النحت الكلاسيكي والصياغة الحديثة لهذا الفن الذي رافق الإنسان منذ صيرورته الأولى وحتى يومنا هذا. موضوعات إنسانية طغت على التجربة النحتيّة الخاصة للفنان عبد السلام قطرميز (الحاضنة لبحثه الفني) الموضوعات الإنسانيّة الشفيفة، كما في عمله (عناق) الذي شارك فيه بالمعرض السنوي للفنانين التشكيليين السوريين عام 1997، وعالج فيه موضوعاً عاطفياً رقيقاً من خلال شخصين امتزجا في كتلةٍ واحدةٍ - حسب طارق الشريف- صلبةٍ لا نظير لها، هيأت لنا أن نرى كيف تتحوّل العواطف الجارفة إلى لغة نحتيّة لها مقوّماتها. وهذا ما نراه في عمله (جذع امرأة) الذي عبّر فيه عن هيكليّة جسم بلا رأس يتضور ألماً، لكنه يتماسك بقوة رغم المحن.. وهذه الحالة الشكليّة والتعبيريّة تنسحب على غالبية أعمال النحّات قطرميز التي كرّسها للموضوعات الإنسانيّة التي تُبرز بوضوح مقدرته النحتيّة وخبراته التقانيّة. وبناءً على ذلك يرى الشريف أن عبد السلام قطرميز من النحاتين المتميزين والذين جدّدوا نحتهم، وأعطوا الحركة الفنيّة السوريّة الكثير من التجارب والأعمال النحتيّة المكتنزة خبرةً كبيرةً، سواء في الجوانب الفنيّة أو الخبرات الواسعة في مجال التقانات النحتيّة المختلفة، ما جعل منه (معلّماً) له أسلوبه وخبراته ومقدرته على معالجة أضخم المشروعات النصُبيّة، ومرجعاً يفرض احترامه على كل من عرفه. خبرات واسعة معارف النحات قطرميز وخبراته الواسعة وتمكّنه من وسائط ووسائل بناء وإنجاز العمل النحتي بشقيه (النصُبي) و(الحُجري)، إضافة إلى موهبته الفنيّة الحقيقيّة التي ظهرت لديه مُبكراً وتأكدت وتبلورت ونضجت من خلال الدراسة الأكاديميّة منحته المقدرة على التوفيق بين مضمون العمل النحتي والمعالجة المناسبة، واحتضان صياغة العمل فكرته بانسجام كبير واستنهاض من التقنية أقصى حد ممكن من التعبير الذي تكتنزه، ما يؤكد فهمه العميق للخصائص والمقوّمات الصحيحة للفن الذي يشتغل عليه، وانتخابه السليم للأسلوب والتقنية المناسبين للموضوع المعالج بهما، فهو ملِّحٌّ على التفاصيل والنسب التشريحيّة الصحيحة في منحوتاته المنفّذة من البرونز، ومختزلٌ في أعمال الرخام والحجر والحجر الصناعي، ومُجرّدٌ في الأعمال الخزفيّة. بمعنى إنه يقوم باستنهاض حالة توفيقيّة بين (الخامة) أو (المادة) ونوعيّة الصياغة النحتيّة التي يختارها لها، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على الناحية التشكيليّة والتعبيريّة للمنحوتة، وهذا النزوع في احترام وسائط التعبير ووسائله وتكييفها مع الموضوع المتناول فيها من مزايا المعلّمين الكبار من النحاتين الذين تمكنوا من وضع اليد على أسرار لغة النحت، فطوّعوها دون إذعان للموضوعات والأساليب المناسبة لها. إن عبد السلام قطرميز باجتهاده المتواصل وخبراته الواسعة والكبيرة الناهضة في الأساس على موهبة حقيقيّة، يقفُ (اليوم) بجدارة في الصفوف الأولى لحركة النحت المعاصر في سوريّة.. هذه الحركة التي ما زال يُثريها بالمزيد من العطاءات دائمة التجديد والابتكار والإضافة. • عبد السلام قطرميز- مواليد حماه 1939. • درس الفن في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة لمدة عام ثم أكمل دراسته في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، وكان في عداد الدفعة الأولى التي تخرّجت فيها عام 1964. • مارس فن النحت بأجناسه وتقاناته وأساليبه كافة، وله إسهاماته المتميزة بفن الخزف، وقام بتأهيل وتدريب العديد من المواهب الشابة في الحقلين. • شغل منصب رئيس مركز أحمد وليد عزت للفنون التطبيقيّة في دمشق حتى إحالته إلى التقاعد. • مَثّل سوريّة في العديد من المهرجانات والمعارض العربيّة والعالميّة ونال عدة جوائز. • شارك في العديد من المعارض الفنيّة الرسميّة والخاصة، وله مساهمات متميزة في ملتقيات النحت المحليّة والعالميّة. • له العديد من النصُب التذكاريّة الموزعة في أكثر من مدينة وبلدة سوريّة. |