قصة قصيرة
الحياة الأخرى
تأليف / متولي بصل
دمياط - مصر
- إلى متى أحتمل كل هذه الآلام؛ وكل هذا العذاب، إلى متى أظل غارقا في بحار هذه الحياة الظالمة المظلمة المليئة بالكراهية ؟! ليتني أستطيع الخلاص من كل هذا! ليتني أستطيع .. حتى ولو كان الثمن حياتي نفسها !
هكذا كان محسن يحدث نفسه، وهو يتطلع إلى النيل من فوق الكوبري؛ ودموع عينيه تنساب ساخنة على خديه؛ فتبعث إحساسا بالخدر؛ ثم تسقط في المياه منتحرة؛ وتذهب بلا رجعة، أحس أن دموعه تسبقه إلى مصيره المحتوم فقال لنفسه، وقد قرر أمرا :
- الحياة أصبحت جحيما لا يطاق؛ الموت أفضل من هذه الحياة!
كان ينظرإلى النيل بشوق ولهفة وكأنه ينظر إلى أمه وقد فتحت ذراعيها لاستقباله؛ وهمت بأن تضمه، وتأخذه في أحضانها، فلم ينتبه إلى تلك الأسرة الصغيرة التي كانت تسير نحوه، الأب والأم منشغلان بالحديث؛ وابنتهما الصغيرة ذات الضفيرة لا تكف عن الحركة، والدوران حولهما، وهي تتقافز في شقاوة واضحة! ورغم تذمر الأم وخوفها على ابنتها الشقية؛ إلا أن الأب ـ الذي كان يسير مستندا على عكاز، حيث كان مصابا بشلل أطفال في إحدى ساقيه ـ كان يبدو سعيدا كل السعادة بشقاوة ابنته وفرط حركتها، وبينما محسن يستعد للقفز في الماء؛ حتى يتخلص من حياته، ومشاكله! تذكر أنه يجيد السباحة؛ حتى إنه لو ألقى نفسه في الماء فلن يغرق، ولو ظل في المياه طول النهار! تذكر هذا فتبسم ساخرا من نفسه على الرغم من دموعه التي لا تتوقف عن الجريان؛ فمن يرى وجهه وهو على هذا الحال؛ يظن أن به مسا من الجنون، لكنه قال لنفسه
- الكوبري مرتفع، والسقوط من هذا الارتفاع الكبير أكيد سيصيبني بالإغماء؛ فأفقد الوعي؛ وأغرق في دقائق معدودة دون أن أشعر بأي ألم، تكفيني آلام حياتي وعذاباتي.
كاد أن يرمي نفسه من فوق الكوبري، لولا أن صك أذنيه صوت ارتطام شئ بالماء؛ أعقبه صراخ مفزع؛ فتجمد في مكانه في آخر لحظة؛ ثم تلفَّت حوله؛ ليستطلع الأمر؛ فرأى الأبوين يطلان بفزع على حافة الكوبري، وهما يصرخان، ويستغيثان، ويكاد الأب يقذف نفسه خلف ابنته حتى ينقذها من الغرق! وكانت على صفحة المياه دوامة كبيرة وفقاقيع هواء كثيرة مكان سقوط الصغيرة؛ فألقى محسن نفسه في الماء دون تفكير أو تدبير؛ وقد تبخر من عقله في تلك اللحظة كل ما كان يعشش فيه؛ وأصبح هدفه الوحيد إنقاذ هذه البنت الصغيرة؛ وإعادتها إلى أبويها وهي على قيد الحياة.
بعد وقت قصير مر كأنه دهر، كان محسن على الضفة والبنت الصغيرة راقدة في أحضان أبويها، وقد أحاط بهم جمع غفير من الناس، جمعهم صراخ الأبوين واستغاثاتهما، ولما أفاقت البنت، واطمأنوا على سلامتها ونجاتها، توجه الجميع نحو محسن يشكرونه على شهامته، ويحمدون له إسراعه إلى نجدة الصغيرة، وإنقاذها، وقبل أن ينصرفوا سمع أحدَ الواقفين يقول للأب الذي كان لا يزال يعاني من سكرات الصدمة، ويحتضن ابنته وعينيه لم تجف دموعهما بعد :
- احمد ربنا إنه أرسل هذا الشاب الشهم في الوقت المناسب لإنقاذ ابنتك ، والله العظيم ثلاثة شبان غرقوا في هذا المكان الأسبوع الماضي، أصل النيل في هذه المنطقة عميق جدا، وفيه دوامات كثيرة، وأحسن عوَّام ممكن يغرق فيها!
وبعد أن غادر الجميع، عاد محسن، ووقف في نفس المكان السابق الذي كان يقف فيه فوق الكوبري ، والمياه تتساقط من ملابسه وشعره؛ وتتناثر فوق صفحة المياه فتصنع دوائرا صغيرة؛ لا تلبث أن تكبر وتكبر، وتتسع شيئا فشيئا؛ ثم تتلاشى. وهنا ابتسم ابتسامة عريضة، وكأنه رأى الجنة بعينيه؛ ابتسم لأنه أدرك حقيقة كانت غائبة عنه، أدرك أن الحياة بضخامتها واتساعها تكون أضيق ما تكون عندما يعيشها الإنسان وهو مشغول بنفسه فقط، وأنها تكون أجمل وأغلى قيمة عندما يعيشها الإنسان من أجل الآخرين؛ هنا يجد أشياء كثيرة تستحق أن يعيش من أجلها؛ لذلك قرر أن يعيش، وأن يجرب لونا جديدا من الحياة لم يجربه من قبل حياة أخرى غير حياته السابقة.
تأليف / متولي بصل
دمياط
الحياة الأخرى
تأليف / متولي بصل
دمياط - مصر
- إلى متى أحتمل كل هذه الآلام؛ وكل هذا العذاب، إلى متى أظل غارقا في بحار هذه الحياة الظالمة المظلمة المليئة بالكراهية ؟! ليتني أستطيع الخلاص من كل هذا! ليتني أستطيع .. حتى ولو كان الثمن حياتي نفسها !
هكذا كان محسن يحدث نفسه، وهو يتطلع إلى النيل من فوق الكوبري؛ ودموع عينيه تنساب ساخنة على خديه؛ فتبعث إحساسا بالخدر؛ ثم تسقط في المياه منتحرة؛ وتذهب بلا رجعة، أحس أن دموعه تسبقه إلى مصيره المحتوم فقال لنفسه، وقد قرر أمرا :
- الحياة أصبحت جحيما لا يطاق؛ الموت أفضل من هذه الحياة!
كان ينظرإلى النيل بشوق ولهفة وكأنه ينظر إلى أمه وقد فتحت ذراعيها لاستقباله؛ وهمت بأن تضمه، وتأخذه في أحضانها، فلم ينتبه إلى تلك الأسرة الصغيرة التي كانت تسير نحوه، الأب والأم منشغلان بالحديث؛ وابنتهما الصغيرة ذات الضفيرة لا تكف عن الحركة، والدوران حولهما، وهي تتقافز في شقاوة واضحة! ورغم تذمر الأم وخوفها على ابنتها الشقية؛ إلا أن الأب ـ الذي كان يسير مستندا على عكاز، حيث كان مصابا بشلل أطفال في إحدى ساقيه ـ كان يبدو سعيدا كل السعادة بشقاوة ابنته وفرط حركتها، وبينما محسن يستعد للقفز في الماء؛ حتى يتخلص من حياته، ومشاكله! تذكر أنه يجيد السباحة؛ حتى إنه لو ألقى نفسه في الماء فلن يغرق، ولو ظل في المياه طول النهار! تذكر هذا فتبسم ساخرا من نفسه على الرغم من دموعه التي لا تتوقف عن الجريان؛ فمن يرى وجهه وهو على هذا الحال؛ يظن أن به مسا من الجنون، لكنه قال لنفسه
- الكوبري مرتفع، والسقوط من هذا الارتفاع الكبير أكيد سيصيبني بالإغماء؛ فأفقد الوعي؛ وأغرق في دقائق معدودة دون أن أشعر بأي ألم، تكفيني آلام حياتي وعذاباتي.
كاد أن يرمي نفسه من فوق الكوبري، لولا أن صك أذنيه صوت ارتطام شئ بالماء؛ أعقبه صراخ مفزع؛ فتجمد في مكانه في آخر لحظة؛ ثم تلفَّت حوله؛ ليستطلع الأمر؛ فرأى الأبوين يطلان بفزع على حافة الكوبري، وهما يصرخان، ويستغيثان، ويكاد الأب يقذف نفسه خلف ابنته حتى ينقذها من الغرق! وكانت على صفحة المياه دوامة كبيرة وفقاقيع هواء كثيرة مكان سقوط الصغيرة؛ فألقى محسن نفسه في الماء دون تفكير أو تدبير؛ وقد تبخر من عقله في تلك اللحظة كل ما كان يعشش فيه؛ وأصبح هدفه الوحيد إنقاذ هذه البنت الصغيرة؛ وإعادتها إلى أبويها وهي على قيد الحياة.
بعد وقت قصير مر كأنه دهر، كان محسن على الضفة والبنت الصغيرة راقدة في أحضان أبويها، وقد أحاط بهم جمع غفير من الناس، جمعهم صراخ الأبوين واستغاثاتهما، ولما أفاقت البنت، واطمأنوا على سلامتها ونجاتها، توجه الجميع نحو محسن يشكرونه على شهامته، ويحمدون له إسراعه إلى نجدة الصغيرة، وإنقاذها، وقبل أن ينصرفوا سمع أحدَ الواقفين يقول للأب الذي كان لا يزال يعاني من سكرات الصدمة، ويحتضن ابنته وعينيه لم تجف دموعهما بعد :
- احمد ربنا إنه أرسل هذا الشاب الشهم في الوقت المناسب لإنقاذ ابنتك ، والله العظيم ثلاثة شبان غرقوا في هذا المكان الأسبوع الماضي، أصل النيل في هذه المنطقة عميق جدا، وفيه دوامات كثيرة، وأحسن عوَّام ممكن يغرق فيها!
وبعد أن غادر الجميع، عاد محسن، ووقف في نفس المكان السابق الذي كان يقف فيه فوق الكوبري ، والمياه تتساقط من ملابسه وشعره؛ وتتناثر فوق صفحة المياه فتصنع دوائرا صغيرة؛ لا تلبث أن تكبر وتكبر، وتتسع شيئا فشيئا؛ ثم تتلاشى. وهنا ابتسم ابتسامة عريضة، وكأنه رأى الجنة بعينيه؛ ابتسم لأنه أدرك حقيقة كانت غائبة عنه، أدرك أن الحياة بضخامتها واتساعها تكون أضيق ما تكون عندما يعيشها الإنسان وهو مشغول بنفسه فقط، وأنها تكون أجمل وأغلى قيمة عندما يعيشها الإنسان من أجل الآخرين؛ هنا يجد أشياء كثيرة تستحق أن يعيش من أجلها؛ لذلك قرر أن يعيش، وأن يجرب لونا جديدا من الحياة لم يجربه من قبل حياة أخرى غير حياته السابقة.
تأليف / متولي بصل
دمياط