الطــرف الآخــر عــنــــد تــشـــيـــخـــوف -
أحــمــد الــخــمــيــســي
كتب معظم أدباء العالم القصص عما يحدث حين يقع شابان في حب بعضهما البعض، لكن أنطون تشيخوف الوحيد الذي كتب من زاوية أخرى، أي عما يحدث حين لا يحب شابان أحدهما الآخر! كانت لديه موهبة أن يرى الأشياء والظواهر من الناحية المضادة. وهكذا حين عاش ذلك الأديب العظيم كانت الموجة الفكرية والفلسفية والأدبية السائدة تعرية الرأسمالية وشن الهجوم على الأثرياء بصفتهم مصدر الشر كله، بهذه الرؤية كتب مكسيم جوركي، وأرسكين كالدويل، وجورج أوريل، وألدوس هكسلي، وغيرهم. أما تشيخوف فقد التقط الطرف الآخر، الجهة الأخرى، فكتب قصة "البدين والنحيف"، و"موت موظف"،و" المغفلة"، في الأولى يلتقى أصدقاء الطفولة بعد عشرين عاما عند محطة قطار، يتعانقان، يتبادلان الحديث كرفاق مدرسة واحدة، وخلال الحديث يكتشف أحدهما وهو النحيف أن صديقه أصبح موظفا كبيرا في الدولة، فيبدأ النحيف الذي مازال موظفا مغمورا فقيرا في تملق الآخر. يتعجب صديقه الثري من تحول لهجة ولغة صديقه، ويتأسف كثيرا لذلك، ويفترقان. هنا يقول تشيخوف أن المأساة ليست في الأُثرياء أو الأقوياء، أو ليست فقط في ذلك، بل إنها في ضعف الطرف الآخر، وخنوعه، وخوفه. في قصة " موت موظف" يعطس موظف صغير في قفا جنرال جلس أمامه في حفل بالأوبرا، فيعتذر للجنرال الذي يتقبل الاعتذار ويعتبر ان الموضوع انتهى، إلا أن خوف الموظف الصغير يدفعه إلى مواصلة الاعتذار والتأسف وابداء الندم حتى يطرده الجنرال الذي يرى أن الموضوع لا يستحق كل ذلك! مرة أخرى يشير تشيخوف إلى الطرف الآخر، فلم يكن العيب في الجنرال، الذي تقبل العطسة والاعتذار بصفتهما من الأشياء الاعتيادية التي قد تحدث في الحياة، المشكلة أو العيب كان في خوف الموظف، في رعبه، في جبنه، حتى أنه يتجه إلى منزله ويرقد على سريره ويموت! في قصة تشيخوف الثالثة " المغفلة" تطرق خادمة باب حجرة سيدها لتحصل على أجرها الشهري وهو ستون روبلا. يقول لها السيد صاحب البيت إنها حطمت فنجانين ولهذا سيخصم منها ثلاثة روبلات، فتوافق مدهوشة لأنها لم تحطم أي شيء، ثم يضيف أنها لم تتنزه مع الطفل يوم الأحد ولهذا سيخصم من راتبها خمسة روبلات. تتلجج المسكينة وتحاول أن تنفي ما قاله، لكنه يؤكد لها أن كل شيء مسجل عنده. في النهاية يمنحها عشرة روبلات من أصل ستين، فتتسلمها ودموعها في عينيها وتكاد تنصرف، لكن السيد يستوقفها ويسألها : لماذا تقبلين بكل هذا الظلم؟ أنت تعلمين أنني خدعتك، وأنني كاذب؟ لماذا أنت ضعيفة هكذا؟. مجددا يشير تشيخوف بعبقريته التي لا تبارى إلى أن المشكلة لم تكن في صاحب البيت الثري، بل في ضعف الشغالة، وعدم قدرتها على الدفاع عن نفسها، وقبولها بالظلم البين. فقط أنطون تشيخوف استطاع أن يرى أن المأساة ليست فقط في بطش القوة، ولكن أيضا وبالقدر نفسه في ضعف الحق. ليست المأساة فقط في عنف المستبدين ولكن أيضا في الضعف في مواجهة الطغاة. وستظل هذه النغمة تلمع من حين لآخر في أعمال ذلك الأديب العظيم، لتطرح السؤال بقوة، ليس فقط على المستوى الاجتماعي او السياسي، بل وحتى على المستوى الذاتي لدي كل فرد، فليست المأساة فقط في الظروف المحيطة بنا، بل وفي ضعفنا الشخصي، في أننا لا نستطيع أن نهزم الكسل، ولا نستطيع أن نضع خطة لحياتنا، وغير قادرين على تحقيق أحلامنا وتغيير الواقع. المأساة ليست فقط في الخارج، إنها أيضا في الداخل. في الطرف الآخر.
***
الدستور -
أحــمــد الــخــمــيــســي
كتب معظم أدباء العالم القصص عما يحدث حين يقع شابان في حب بعضهما البعض، لكن أنطون تشيخوف الوحيد الذي كتب من زاوية أخرى، أي عما يحدث حين لا يحب شابان أحدهما الآخر! كانت لديه موهبة أن يرى الأشياء والظواهر من الناحية المضادة. وهكذا حين عاش ذلك الأديب العظيم كانت الموجة الفكرية والفلسفية والأدبية السائدة تعرية الرأسمالية وشن الهجوم على الأثرياء بصفتهم مصدر الشر كله، بهذه الرؤية كتب مكسيم جوركي، وأرسكين كالدويل، وجورج أوريل، وألدوس هكسلي، وغيرهم. أما تشيخوف فقد التقط الطرف الآخر، الجهة الأخرى، فكتب قصة "البدين والنحيف"، و"موت موظف"،و" المغفلة"، في الأولى يلتقى أصدقاء الطفولة بعد عشرين عاما عند محطة قطار، يتعانقان، يتبادلان الحديث كرفاق مدرسة واحدة، وخلال الحديث يكتشف أحدهما وهو النحيف أن صديقه أصبح موظفا كبيرا في الدولة، فيبدأ النحيف الذي مازال موظفا مغمورا فقيرا في تملق الآخر. يتعجب صديقه الثري من تحول لهجة ولغة صديقه، ويتأسف كثيرا لذلك، ويفترقان. هنا يقول تشيخوف أن المأساة ليست في الأُثرياء أو الأقوياء، أو ليست فقط في ذلك، بل إنها في ضعف الطرف الآخر، وخنوعه، وخوفه. في قصة " موت موظف" يعطس موظف صغير في قفا جنرال جلس أمامه في حفل بالأوبرا، فيعتذر للجنرال الذي يتقبل الاعتذار ويعتبر ان الموضوع انتهى، إلا أن خوف الموظف الصغير يدفعه إلى مواصلة الاعتذار والتأسف وابداء الندم حتى يطرده الجنرال الذي يرى أن الموضوع لا يستحق كل ذلك! مرة أخرى يشير تشيخوف إلى الطرف الآخر، فلم يكن العيب في الجنرال، الذي تقبل العطسة والاعتذار بصفتهما من الأشياء الاعتيادية التي قد تحدث في الحياة، المشكلة أو العيب كان في خوف الموظف، في رعبه، في جبنه، حتى أنه يتجه إلى منزله ويرقد على سريره ويموت! في قصة تشيخوف الثالثة " المغفلة" تطرق خادمة باب حجرة سيدها لتحصل على أجرها الشهري وهو ستون روبلا. يقول لها السيد صاحب البيت إنها حطمت فنجانين ولهذا سيخصم منها ثلاثة روبلات، فتوافق مدهوشة لأنها لم تحطم أي شيء، ثم يضيف أنها لم تتنزه مع الطفل يوم الأحد ولهذا سيخصم من راتبها خمسة روبلات. تتلجج المسكينة وتحاول أن تنفي ما قاله، لكنه يؤكد لها أن كل شيء مسجل عنده. في النهاية يمنحها عشرة روبلات من أصل ستين، فتتسلمها ودموعها في عينيها وتكاد تنصرف، لكن السيد يستوقفها ويسألها : لماذا تقبلين بكل هذا الظلم؟ أنت تعلمين أنني خدعتك، وأنني كاذب؟ لماذا أنت ضعيفة هكذا؟. مجددا يشير تشيخوف بعبقريته التي لا تبارى إلى أن المشكلة لم تكن في صاحب البيت الثري، بل في ضعف الشغالة، وعدم قدرتها على الدفاع عن نفسها، وقبولها بالظلم البين. فقط أنطون تشيخوف استطاع أن يرى أن المأساة ليست فقط في بطش القوة، ولكن أيضا وبالقدر نفسه في ضعف الحق. ليست المأساة فقط في عنف المستبدين ولكن أيضا في الضعف في مواجهة الطغاة. وستظل هذه النغمة تلمع من حين لآخر في أعمال ذلك الأديب العظيم، لتطرح السؤال بقوة، ليس فقط على المستوى الاجتماعي او السياسي، بل وحتى على المستوى الذاتي لدي كل فرد، فليست المأساة فقط في الظروف المحيطة بنا، بل وفي ضعفنا الشخصي، في أننا لا نستطيع أن نهزم الكسل، ولا نستطيع أن نضع خطة لحياتنا، وغير قادرين على تحقيق أحلامنا وتغيير الواقع. المأساة ليست فقط في الخارج، إنها أيضا في الداخل. في الطرف الآخر.
***
الدستور -