الزمان والمكان في قصة(حفيدة الباشا) للقاص متولي بصل
قراءة د. وائل الصعيدي
قليلون هم الذين يمتلكون مواهب متعددة، وكتابة في ضروب أجناس الأدب المختلفة، هؤلاء يمتلكون التوازن في الأفكار، والتؤدة في الحديث، والسداد في الرأي، والوعي بالقضايا.
متولي بصل كاتب شامل نشيط له رأي ورؤية، كتبَ القصة القصيرة والرواية والشعر العامي والفصيح.
إذا قابلته مرة واحدة ثم بدأتَ تقرأ له تتخيل شخصيته الهادئة المهذبة وتُسْقِطها على كتاباته وشخوصه، فيأخذك إلى عالمه الذي نسجه بعقله وخطّه بقلمه، له العديد من الروايات: الربيع الذي لا يأتي، شعبان في خبر كان، العجوز والبحر، ومن المجموعات القصصية: الديك ذو العُرف الأبيض، الحب في الوقت الضائع، الرجل الذي سرق دُبًا، مأساة حصان، وديوان شعر فصحى: مَن يهتف في الميدان، بحار بلا مَرْسى، قبل أن تًرفع الجلسة، وديوان شعر عامية: نفسي أشوف النيل بيضحك، ليه يا بلد، العمر لحظة حب.
وقصة(حفيدة الباشا) التي بين أيدينا من مجموعته المتميزة(الديك ذو العُرف الأبيض) التي احْتَوَيَتْ ثمانية وثلاثين قصة، وهي تحتل القصة الأولى منها، وتنتهي بقصة الحياة الأخرى.
تتميز أعمال متولي بصل بالجمال والواقعية والبساطة، استطاع الكاتب في قصة(حفيدة الباشا) تسليط الضوء على حقبة من الزمن ثم ربطها بواقعية بفنيات الربط والوصل للأفكار والجمل والأحداث المختلفة.
لأول وهْلَةٍ يثير العنوان الفضول للتساؤل بصورة واضحة عن ماهيّة حفيدة الباشا، كما تتجلّى المقدمة في مدخلها، حيث ذكَرَ أنّ الثورة ألغت الباشوية والبكوية، غيرَأنّ الزوجة تُصِرّ على أنّ جدّها الأكبر من أصول تُركية مما ترتّب على ذلك طلباتها التي لا تنتهي، والتي ربما فاقت ما في جيب زوجها بكثير.
يستمع زوجها إليها وهو مُجْبَر على الرغم أنه لا يُصدّق ما تقول؛ إذ هي من عائلة فقيرة مثل عائلته تمامًا، يعرفها ويعرف أهلها جيدًا، تربطهم الجيرة القديمة، تتوالى الأحزان وينقلبُ البيت لِمأتم كلما اقتربت ذكرى ثورة 1952، ففي ذلك الوقت بالذات تتمادى كثيرًا، ويتحول البيت لسرادق عزاء، فزوجته لا تفتح التلفاز، وفوق كل هذا ترتدي الملابس السوداء في إشارة للحِداد.
ثم يلفت الكاتب أنظارنا إلى لمحة إنسانية فهو يغفر لها كل هذا، فهي طيبة وتحبه ورقيقة مُرهفة الحِس، مما يزيده حِرْصًا على توفير طلباتها بكل ما أوتي من جهد، فيعمل ليل نهار كَثَوْرٍ في ساقية لتحقيق أحلامها.
ادّخرَ صاحبنا مبلغًا بسيطًا من المال استطاع أن يشتري به قيراطيْن تتوسطهما دار قديمة لا تصلح للسكن على طريق رأس البر، يطلان على الطريق المسمى بطريق الموت لكثرة الحوادث عليه، عَرَفَ ذلك أثناء جلوسه في المقهى ينتظر البائع، وسمع أيضًا أنّ الأرض مسكونة بالعفاريت نتيجة الحوادث المُتكررة، ولكنه مضى مع البائع إلى المحامي لكتابة العقد، ولِجديّة الموضوع وإلزام نفسه كتم الأمر عن أقاربه وزوجته حتى لا يتبدّد المال الذي ادخره وتعب فيه.
ثم يضعنا الكاتب معه بجُرْأة وتصوير بديع في قَلْب الأحداث إبّان ثورة يناير وتوقف كل شيء، فقد عجز الزوج عن دفع إيجار الشقة، وانقلب المالِك الهادىء الطيب عليه، فأحضر معه عصابة هجموا عليهم وهددوهم بالسواطير والسكاكين والكلاب المفترسة، فطردوه وزوجته وأولاده، ورموهم وأثاثهم خارج الشقة.
ذهبت زوجته لأهلها لتبيتَ عندهم ومعها الأولاد، فاضطر لنقل الأثاث إلى تلك الدار القديمة التي اشتراها، لقد نام من شدة التعب والإرهاق وسط كومة الأثاث الذي تحوّل إلى حطام، فرأى أحلامًا وكوابيس تتمثّل في وجوه مُخيفة وأشياء عجيبة وأصوات وصراخ.
استيقظ مذهولًا في وسط نهار اليوم التالي عَرَفَ ذلك من أشعة الشمس التي تسلّلت من الشقوق المنتشرة في السقف والجدران، فانتبه للمكان ولِقِدَمِ الدار بكل أسى وحَسْرَة وأنها لا تصلح للسكن، فكأنه استفاق من سبات عميق، ولهذا قال في صفحة(7):"انتبهتُ إلى أنّ الدار قديمة، والسقف مُتهالِك، والجدران مُتآكلة، والأرضية قد نَخِرَ السوس ألواح الخشب التي تُبطّنها، كما أنّ فيها حفر استوطنتها الجرذان والحشرات، تساءلتُ بصوت مسموع عسى صوتي يبعد عني شبح الوحدة المُميتة، كيف سأعيش أنا وزوجتي وأولادي في هذا المكان الذي لا يصلح لكي يكون قبرًا؟"
وكأي إنسان فكّرَ لِتوّه في عملية ترميم بسيطة وسريعة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه بشراء بعض الرمال والإسمنت وسدّ الشقوق ومحارة السقف والجدران بنفسه، وتسفيل الأرضية، يقول في صفحة(8):" كان عليّ أولًا أن أنزع كل هذه الألواح المسوِّسَة من الأرضية؛ فمن المؤكّد أنّ تحتها جيوشًا من الحشرات والجرذان، وبالفعل بدأتُ في ذلك كنتُ حريصًا على نزع كل الألواح قبل حلول الليل".
وفي خِضَم هذا العمل الشاق وتصبّب العَرَق الذي أغْرَقه وملء التراب لأنفه ورئتيه، قَرَّرَ أخْذ استراحة، فغسلَ وجهه وخرجَ لاستنشاق بعض الهواء النقي، وأكلَ حتى شبعَ من ثمار الجوافة والتوت والبلح.
عادَ لينزع ما تبقى من ألواح فاكتشف وعاءًا كبيرًا من الفخّار مثل البلّاص مدفونًا تحت الأرض أسفل الألواح وفي داخله كومة من القطع الذهبية والمجوهرات اللامعة البديعة.
يبدو أنّ الحلم سيتحقق فنحن الآن في وقت طحنت الثورة الكثير من الناس، وأصاب الإفلاس كثرة كاثرة، وسقطت أسماء واختفت وجوه، وظهرت وجوه جديدة لم تكن مألوفة ولا في الحُسْبان، والبعض أصابه الثراء الفاحش، بل إنّ حلم زوجته سيتحقق.
ثم ينقلنا الكاتب إلى مرحلة أخرى مختلفة من حياة الزوج، إنه أصبح وبكل بساطة واحدًا من هؤلاء الباشوات رغم أنفه، فتساءل الناس: من أين أصابهم هذا الثراء والنعيم؟.قال في صفحة(10):" بمرور الوقت بدأ الناس يُطلقون عليّ لقب(الباشا)!، ولا يُنادون زوجتي إلا ويسبقون اسمها بكلمة (هانم) لدرجة أنني بدأتُ أصدق أنها بالفعل حفيدة الباشا، وربما تكون هذه الثروة مِلكًا لجدها الأكبر الذي هرب من مصر أيام التأميم، ولكنه لم يتمكّن من تهريب هذه الثروة معه فدفنها في هذا المكان"!.
يمكن إذن للخيال أن يتحقق، والذي يبدو مستحيلًا يمكنه في يوم من الأيام أن يكون واقعًا مُعاشًا، ربما يكون ذلك عن طريق الميراث، وربما عن طريق السرقة، وربما عن طريق كتابة بعض الأثرياء نصيبًا لفقير مُعدم بعد خِدمة طويلة بإخلاص، وربما أخيرًا تحت ألواح خشب في بيت قديم مُتهالِك السقف والجدران كما في قصة(حفيدة الباشا).
لقد استطاع متولي بصل توظّف الزمان والمكان توظيفًا جيدًا مع عناصر القصة الأخرى، فأدخلَ ذلك في تصوير حِقب وأماكن، كأوقات الثورات، والبيت، والليل والنهار، مستخدمًا الجو النفسي والبيئة المحيطة، بحكي مشاهد بعضها واقعي، والبعض الآخر أقرب إلى التصديق.
............................
الأحد 5/6/ 2022
القصة
حفيدة الباشا
رغم أن الثورة ألغت البشوية؛ والبكوية، إلا أن زوجتي كانت دائما تزعم أنها من أصول تركية؛ وأن جدها الأكبر كان باشا؛ بل كان من كبار باشوات دمياط قبل الثورة؛ كما تقول أن السنانية كلها كانت من أملاك جدها! ولولا الثورة؛ والتأميم لكانت تعيش اليوم في أفخم القصور؟
كنت أضحك كثيرا؛ وأنا مجبر على الاستماع إليها، ولم أكن أصدق حرفا مما تقول؛ فقد كنت أعرف أسرتها جيدا؛ إنهم جيراننا منذ زمن ٍ؛ ويعيشون في منزل قديم مجاور لمحطة القطار؛ وأهلها بُسطاء، وفقراء جدا، مثل أهلي! والعجيب والمؤسف في نفس الوقت أنها كانت تتمادى كثيرا عندما تقترب ذكرى ثورة 23 يوليو أو ذكرى التأميم؛ فكانت تحوّل البيت إلى جحيم؛ فتحرمنا من فتح التلفاز، وكأننا في سرادق عزاء؛ وترتدي ملابس الحداد السوداء! وبدأ الأولاد يقلدونها بتلقائية؛ فأجد نفسي في هذه الأيام وحيدا شريدا في الشوارع، لا أجرؤ على دخول البيت إلا في ساعة متأخرة من الليل!
ربما هي مريضة نفسيا؛ أو أنها تعاني من عقدة ما! لكنها رقيقة؛ مرهفة الحس؛ وتحبني؛ وهذا هو كل ما يهمني! حاولت بقدر المستطاع أن أوفر لها كل ما تريد، لكن هذا العِرق التركي العجيب كان يُفسد علينا حياتنا، فمهما فعلت لن أستطيع تحقيق الأحلام التي تتمناها من كان جدها باشا. كنت مثل ثور الساقية، أدور وأعمل ليل نهار دون كلل، ورغم حرصي على تلبية طلباتها الكثيرة، والتي يفوق بعضها حدود دخلي المتواضع، إلا أنني استطعت أن أدخر مبلغا من المال يُمكنني من شراء قطعة أرض صغيرة؛ فقد كنت أطمع أن أصبح يوما من الأعيان أصحاب الأطيان!
ولأن الأراضي مثل الذهب؛ والمبلغ الذي ادخرته بسيط! لم أجد شيئا يناسبني إلا في منطقة نائية على طريق رأس البر القديم؛ قيراطان - تتوسطهما دار قديمة لا تصلح للسكنى - سأضع فيهما تحويشة العمر، إنهما يطلان على الطريق مباشرة، ذلك الطريق الذي يقع بين ترعتين، ورغم سفلتته، وإشارات المرور المنتشرة عليه، وأعمدة الإنارة ، إلا أنه لا يكاد يمر أسبوع إلا وتقع حادثة أو أكثر؛ لدرجة أن الأهالي يسمونه طريق الموت، هذا ما عرفته من الناس وأنا جالس في المقهى أنتظر البائع.
لم يمنعني سماع هذا الكلام، ولا حكايات الموت المريرة التي تفنن الأهالي في قصها عليَّ بعبارات حزينة؛ وعيون دامعة! إنني غريب بينهم؛ وجئت لشراء قيراطين، ومن الطبيعي أن هؤلاء الناس يريدون بث الذعر في قلبي حتى لا أتمم إجراءات الشراء، هذا ما وقع في قلبي؛ فذهبت مع البائع إلى المحامي؛ وكتبنا العقد؛ وأكد المحامي أنه سيتمم التوثيق في الشهر العقاري في غضون أيام.
لم أهتم بما قاله لي بعض الأهالي من أن الأرض مسكونة من كثرة الحوادث التي وقعت قريبا منها؛ فقد كان كل ما يشغلني أن أحفظ المبلغ الذي ادخرته؛ وأن أصبح من ذوي الأملاك! اشتريت القيراطين؛ ولم أخبر أحدا من قريب أو بعيد؛ تكتَّمت الأمر خوفا من الحسد ولم أخبر زوجتي خشية أن تطالبني ببيعهما؛ لأشتري لها ذهبا؛ أو غسالة جديدة؛ أو .. .. إلخ!
ومرَّت الأيام ؛ وحدث ما لم يكن في الحسبان؛ قامت الثورة ( ثورة يناير) وتوقف كل شيء ! ولأول مرة منذ سنوات أعجز عن دفع إيجار شقتي! وانقلب الرجل الطيب البشوش مالك العمارة إلى وحش لا يرحم! فوجئت به يُحضر لي عصابة من المجرمين؛ لطردي أنا وزوجتي وعيالي؛ إنهم يعرفون أن الشرطة، وكل مؤسسات الدولة مشغولة بالثورة والثوار.
في ليلة سوداء؛ هجموا علينا؛ وهددونا بالسواطير والسكاكين؛ وبالكلاب المفترسة؛ ورمونا خارج الشقة؛ ولجأت زوجتي إلى أهلها؛ لتبيت عندهم هي والأولاد؛ ولم أجد مكانا أنقل إليه العفش والأثاث إلا تلك الدار القديمة التي تتوسط القيراطين ! ومن شدة التعب والإرهاق نمت وسط كومة الأثاث الذي أصبح حطاما، كان نوما متقطّعا، رأيت فيه أحلاما كثيرة بعدد كل الأحلام التي رأيتها في عمري الماضي كله! رأيت وجوها مخيفة؛ وأشياء عجيبة ورهيبة! ولكنني كنت خائر القوى؛ ومنهكا بطريقة لا أستطيع معها الوقوف على قدمي َّ! فقط كنت أفتح عيني َّ بصعوبة؛ ثم أغمضهما بسرعة!كنت أحاول أن أميز تلك الوجوه الكثيرة التي تتشكل من دخان ثم تختفي ثم تعود فتتشكل من جديد؛ وكان أحدها يصيح بصوت رهيب، والآخرون يصرخون صرخات مدوية
- لا تتركوه ينام! أحرقوه بالنار حتى لا ينام!
وكنت بالفعل أشعر باحتراق أجزاء من جسدي؛ لدرجة أنني شممت رائحة جلدي وهو يحترق، لكنني لم أستطع النهوض، ولم أستيقظ إلا في اليوم التالي؛ وبعد أن انتصف النهار، عرفت ذلك من آشعة الشمس التي كانت تتسلل من الخروق والشقوق الكثيرة المنتشرة في السقف والجدران؛ قمت وقلبي يكاد يتوقف من الرعب الذي أصابه؛ وومررت بيدي على جسدي؛ لأتأكد من هذه الحروق؛ فلم أجد أي أثر لما كنت أشعر به؛ ولم أجد أثرا لأي شخص في الدار! قلت بصوت مسموع وكأنما أكلم نفسي:
- ربما كل هذا مجرد كوابيس بسبب الرعب الذي أصابني أنا وزوجتي وأولادي من المجرمين الذين طردونا من شقتنا بالأمس!
حزنت على الأثاث الذي تحطم، وبكيت وأنا أنظر إلى حياتي وقد تحولت إلى ركام، ولو كنت أعلم ما سيصيبنا لتركنا لهم الشقة؛ ونجونا بأنفسنا وبالمتاع والأثاث. انتبهت إلى أن الدار قديمة؛ والسقف متهالك؛ والجدران متآكلة؛ والأرضية قد نخر السوس ألواح الخشب التي تبطنها، كما أن فيها حفر استوطنتها الجرذان والحشرات؛ تساءلت بصوت مسموع؛ عسى صوتي يبعد عني شبح الوحدة المميتة :
- كيف سأعيش أنا وزوجتي وأولادي في هذا المكان الذي لا يصلح لكي يكون قبرا؟!
فكرت في أن أقوم بعملية ترميم سريعة؛ فأشتري مترا أو مترين من الرمل؛ وبضع شكائر من الأسمنت؛ وأسد بنفسي تلك الخروق والشقوق؛ وأُسَفلت الأرضية بالأسمنت؛ ثم أحضر أحدا يقوم بمحارة السقف والجدران، ولكن قبل أي شيء كان علي َّ أولا أن أنزع كل هذه الألواح المسوسة من الأرضية؛ فمن المؤكد أن تحتها جيوشا من الحشرات والجرذان! وبالفعل بدأت في ذلك، كنت حريصا على نزع كل الألواح قبل حلول الليل؛ فلم أكن مستعدا للمبيت وحدي في هذا المكان مرة أخرى؛ ولو اقتضى الأمر سأبيت في محطة القطار القريبة.
غرقت في عَرَقي؛ وملأ التراب أنفي ورئتي َّ؛ ولم أعد أرى من ملوحة العرق الذي يتصبب من جبهتي ويسيل ويملأ عيني ! ذهبت إلى الحمام؛ وغسلت وجهي؛ ثم خرجت لاستنشاق بعض الهواء النقي؛ أشجار الجوافة، والتوت، ونخيل البلح في كل مكان؛ عليها أطايب الثمر؛ قطفت منها؛ وأكلت حتى شبعت. المنظر الجميل حولي جعلني أشعر ببعض الراحة والسكينة؛ واندهشت من نفسي كيف لم أكلف أحدا من الفلاحين بجني كل هذا الخير طيلة السنوات الماضية! كمية كبيرة من ثمار الجوافة والتوت والبلح كانت تذهب سدى؛ أو ربما في الجوار من كان يسرقها! عدت من جديد إلى الداخل، لكن هذه المرة كنت أكثر حماسا وأوفر قوة؛ فأخذت أنزع ما تبقى من الألواح، وبينما كنت أقوم بذلك شعرت بشيء يتكسَّر تحت قدمي؛ وعندما انحنيت لاكتشاف الأمر؛ فوجئت بوعاء كبير من الفخار؛ يشبه تماما ذلك البلاص الذي تحمله الفلاحات في الأفلام القديمة! كان مدفونا في الأرض تحت الألواح الخشبية، وفي داخله لمحت بريقاشد انتباهي؛ ولم أصدق عينيَّ وأنا أرىكومة ضخمة من القطع الذهبية والمجوهراتترقد في بطن هذا البلاص!
لم تستقر الأحوال بعد في البلد، الثورة طحنت الكثير من الناس، ولا تزال تحطم عظام البقية؛ والكساد الذي أصاب الجميع بالإفلاس؛ جعلهم يشعرون أنهم على أعتاب مجاعة ! لقد سقطت أسماء كبيرة؛ واختفت وجوه كثيرة؛ وظهرت وجوه جديدة لم يسمع عنها أحد من قبل! خرجت من تحت الأرض ؛ وفي وقت قصير ظهرت على هذه الوجوه علامات الثراء الفاحش! في غفلة من أجهزة الدولة التي أنهكتها الثورة؛ انتفخت كروش اصحاب الأعمال المشبوهة مثل تجار المخدرات والسلاح والآثار وانتشرت عمليات الخطف والسرقة ؛ .. .. إلخ
ورغم أنفي أصبحت واحدا من هؤلاء الذين ظهرت عليهم آثار النعيم دون سابق إنذار؛ وكنت أسمع من حولي يتهامسون، وهم في حيرة شديدة من هذا الثراء، والنعيم المفاجئ الذي أصبحت أعيش فيه أنا وزوجتي وأولادي؛ الجميع يعتقدون أنني أتاجر في آثار بلدي! لم يخطر على بال أحدهم قط أن الأرض المسكونة بالعفاريت كان مدفونا في بطنها كل هذه الكمية من الذهب والحلي ؛ والتي تُقدَّر بالملايين!
بمرور الوقت بدأ الناس يطلقون علي لقب الباشا! ولا ينادون زوجتي إلا ويسبقون اسمها بكلمة ( هانم ) لدرجة أنني بدأت أصدق أنها بالفعل حفيدة باشا؛ وربما تكون هذه الثروة ملكا لجدها الأكبر الذي هرب من مصر أيام التأميم؛ ولكنه لم يتمكن من تهريب هذه الثروة معه؛ فدفنها في هذا المكان !.
دمياط
24 / 7 / 2021 م
قراءة د. وائل الصعيدي
قليلون هم الذين يمتلكون مواهب متعددة، وكتابة في ضروب أجناس الأدب المختلفة، هؤلاء يمتلكون التوازن في الأفكار، والتؤدة في الحديث، والسداد في الرأي، والوعي بالقضايا.
متولي بصل كاتب شامل نشيط له رأي ورؤية، كتبَ القصة القصيرة والرواية والشعر العامي والفصيح.
إذا قابلته مرة واحدة ثم بدأتَ تقرأ له تتخيل شخصيته الهادئة المهذبة وتُسْقِطها على كتاباته وشخوصه، فيأخذك إلى عالمه الذي نسجه بعقله وخطّه بقلمه، له العديد من الروايات: الربيع الذي لا يأتي، شعبان في خبر كان، العجوز والبحر، ومن المجموعات القصصية: الديك ذو العُرف الأبيض، الحب في الوقت الضائع، الرجل الذي سرق دُبًا، مأساة حصان، وديوان شعر فصحى: مَن يهتف في الميدان، بحار بلا مَرْسى، قبل أن تًرفع الجلسة، وديوان شعر عامية: نفسي أشوف النيل بيضحك، ليه يا بلد، العمر لحظة حب.
وقصة(حفيدة الباشا) التي بين أيدينا من مجموعته المتميزة(الديك ذو العُرف الأبيض) التي احْتَوَيَتْ ثمانية وثلاثين قصة، وهي تحتل القصة الأولى منها، وتنتهي بقصة الحياة الأخرى.
تتميز أعمال متولي بصل بالجمال والواقعية والبساطة، استطاع الكاتب في قصة(حفيدة الباشا) تسليط الضوء على حقبة من الزمن ثم ربطها بواقعية بفنيات الربط والوصل للأفكار والجمل والأحداث المختلفة.
لأول وهْلَةٍ يثير العنوان الفضول للتساؤل بصورة واضحة عن ماهيّة حفيدة الباشا، كما تتجلّى المقدمة في مدخلها، حيث ذكَرَ أنّ الثورة ألغت الباشوية والبكوية، غيرَأنّ الزوجة تُصِرّ على أنّ جدّها الأكبر من أصول تُركية مما ترتّب على ذلك طلباتها التي لا تنتهي، والتي ربما فاقت ما في جيب زوجها بكثير.
يستمع زوجها إليها وهو مُجْبَر على الرغم أنه لا يُصدّق ما تقول؛ إذ هي من عائلة فقيرة مثل عائلته تمامًا، يعرفها ويعرف أهلها جيدًا، تربطهم الجيرة القديمة، تتوالى الأحزان وينقلبُ البيت لِمأتم كلما اقتربت ذكرى ثورة 1952، ففي ذلك الوقت بالذات تتمادى كثيرًا، ويتحول البيت لسرادق عزاء، فزوجته لا تفتح التلفاز، وفوق كل هذا ترتدي الملابس السوداء في إشارة للحِداد.
ثم يلفت الكاتب أنظارنا إلى لمحة إنسانية فهو يغفر لها كل هذا، فهي طيبة وتحبه ورقيقة مُرهفة الحِس، مما يزيده حِرْصًا على توفير طلباتها بكل ما أوتي من جهد، فيعمل ليل نهار كَثَوْرٍ في ساقية لتحقيق أحلامها.
ادّخرَ صاحبنا مبلغًا بسيطًا من المال استطاع أن يشتري به قيراطيْن تتوسطهما دار قديمة لا تصلح للسكن على طريق رأس البر، يطلان على الطريق المسمى بطريق الموت لكثرة الحوادث عليه، عَرَفَ ذلك أثناء جلوسه في المقهى ينتظر البائع، وسمع أيضًا أنّ الأرض مسكونة بالعفاريت نتيجة الحوادث المُتكررة، ولكنه مضى مع البائع إلى المحامي لكتابة العقد، ولِجديّة الموضوع وإلزام نفسه كتم الأمر عن أقاربه وزوجته حتى لا يتبدّد المال الذي ادخره وتعب فيه.
ثم يضعنا الكاتب معه بجُرْأة وتصوير بديع في قَلْب الأحداث إبّان ثورة يناير وتوقف كل شيء، فقد عجز الزوج عن دفع إيجار الشقة، وانقلب المالِك الهادىء الطيب عليه، فأحضر معه عصابة هجموا عليهم وهددوهم بالسواطير والسكاكين والكلاب المفترسة، فطردوه وزوجته وأولاده، ورموهم وأثاثهم خارج الشقة.
ذهبت زوجته لأهلها لتبيتَ عندهم ومعها الأولاد، فاضطر لنقل الأثاث إلى تلك الدار القديمة التي اشتراها، لقد نام من شدة التعب والإرهاق وسط كومة الأثاث الذي تحوّل إلى حطام، فرأى أحلامًا وكوابيس تتمثّل في وجوه مُخيفة وأشياء عجيبة وأصوات وصراخ.
استيقظ مذهولًا في وسط نهار اليوم التالي عَرَفَ ذلك من أشعة الشمس التي تسلّلت من الشقوق المنتشرة في السقف والجدران، فانتبه للمكان ولِقِدَمِ الدار بكل أسى وحَسْرَة وأنها لا تصلح للسكن، فكأنه استفاق من سبات عميق، ولهذا قال في صفحة(7):"انتبهتُ إلى أنّ الدار قديمة، والسقف مُتهالِك، والجدران مُتآكلة، والأرضية قد نَخِرَ السوس ألواح الخشب التي تُبطّنها، كما أنّ فيها حفر استوطنتها الجرذان والحشرات، تساءلتُ بصوت مسموع عسى صوتي يبعد عني شبح الوحدة المُميتة، كيف سأعيش أنا وزوجتي وأولادي في هذا المكان الذي لا يصلح لكي يكون قبرًا؟"
وكأي إنسان فكّرَ لِتوّه في عملية ترميم بسيطة وسريعة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه بشراء بعض الرمال والإسمنت وسدّ الشقوق ومحارة السقف والجدران بنفسه، وتسفيل الأرضية، يقول في صفحة(8):" كان عليّ أولًا أن أنزع كل هذه الألواح المسوِّسَة من الأرضية؛ فمن المؤكّد أنّ تحتها جيوشًا من الحشرات والجرذان، وبالفعل بدأتُ في ذلك كنتُ حريصًا على نزع كل الألواح قبل حلول الليل".
وفي خِضَم هذا العمل الشاق وتصبّب العَرَق الذي أغْرَقه وملء التراب لأنفه ورئتيه، قَرَّرَ أخْذ استراحة، فغسلَ وجهه وخرجَ لاستنشاق بعض الهواء النقي، وأكلَ حتى شبعَ من ثمار الجوافة والتوت والبلح.
عادَ لينزع ما تبقى من ألواح فاكتشف وعاءًا كبيرًا من الفخّار مثل البلّاص مدفونًا تحت الأرض أسفل الألواح وفي داخله كومة من القطع الذهبية والمجوهرات اللامعة البديعة.
يبدو أنّ الحلم سيتحقق فنحن الآن في وقت طحنت الثورة الكثير من الناس، وأصاب الإفلاس كثرة كاثرة، وسقطت أسماء واختفت وجوه، وظهرت وجوه جديدة لم تكن مألوفة ولا في الحُسْبان، والبعض أصابه الثراء الفاحش، بل إنّ حلم زوجته سيتحقق.
ثم ينقلنا الكاتب إلى مرحلة أخرى مختلفة من حياة الزوج، إنه أصبح وبكل بساطة واحدًا من هؤلاء الباشوات رغم أنفه، فتساءل الناس: من أين أصابهم هذا الثراء والنعيم؟.قال في صفحة(10):" بمرور الوقت بدأ الناس يُطلقون عليّ لقب(الباشا)!، ولا يُنادون زوجتي إلا ويسبقون اسمها بكلمة (هانم) لدرجة أنني بدأتُ أصدق أنها بالفعل حفيدة الباشا، وربما تكون هذه الثروة مِلكًا لجدها الأكبر الذي هرب من مصر أيام التأميم، ولكنه لم يتمكّن من تهريب هذه الثروة معه فدفنها في هذا المكان"!.
يمكن إذن للخيال أن يتحقق، والذي يبدو مستحيلًا يمكنه في يوم من الأيام أن يكون واقعًا مُعاشًا، ربما يكون ذلك عن طريق الميراث، وربما عن طريق السرقة، وربما عن طريق كتابة بعض الأثرياء نصيبًا لفقير مُعدم بعد خِدمة طويلة بإخلاص، وربما أخيرًا تحت ألواح خشب في بيت قديم مُتهالِك السقف والجدران كما في قصة(حفيدة الباشا).
لقد استطاع متولي بصل توظّف الزمان والمكان توظيفًا جيدًا مع عناصر القصة الأخرى، فأدخلَ ذلك في تصوير حِقب وأماكن، كأوقات الثورات، والبيت، والليل والنهار، مستخدمًا الجو النفسي والبيئة المحيطة، بحكي مشاهد بعضها واقعي، والبعض الآخر أقرب إلى التصديق.
............................
الأحد 5/6/ 2022
القصة
حفيدة الباشا
رغم أن الثورة ألغت البشوية؛ والبكوية، إلا أن زوجتي كانت دائما تزعم أنها من أصول تركية؛ وأن جدها الأكبر كان باشا؛ بل كان من كبار باشوات دمياط قبل الثورة؛ كما تقول أن السنانية كلها كانت من أملاك جدها! ولولا الثورة؛ والتأميم لكانت تعيش اليوم في أفخم القصور؟
كنت أضحك كثيرا؛ وأنا مجبر على الاستماع إليها، ولم أكن أصدق حرفا مما تقول؛ فقد كنت أعرف أسرتها جيدا؛ إنهم جيراننا منذ زمن ٍ؛ ويعيشون في منزل قديم مجاور لمحطة القطار؛ وأهلها بُسطاء، وفقراء جدا، مثل أهلي! والعجيب والمؤسف في نفس الوقت أنها كانت تتمادى كثيرا عندما تقترب ذكرى ثورة 23 يوليو أو ذكرى التأميم؛ فكانت تحوّل البيت إلى جحيم؛ فتحرمنا من فتح التلفاز، وكأننا في سرادق عزاء؛ وترتدي ملابس الحداد السوداء! وبدأ الأولاد يقلدونها بتلقائية؛ فأجد نفسي في هذه الأيام وحيدا شريدا في الشوارع، لا أجرؤ على دخول البيت إلا في ساعة متأخرة من الليل!
ربما هي مريضة نفسيا؛ أو أنها تعاني من عقدة ما! لكنها رقيقة؛ مرهفة الحس؛ وتحبني؛ وهذا هو كل ما يهمني! حاولت بقدر المستطاع أن أوفر لها كل ما تريد، لكن هذا العِرق التركي العجيب كان يُفسد علينا حياتنا، فمهما فعلت لن أستطيع تحقيق الأحلام التي تتمناها من كان جدها باشا. كنت مثل ثور الساقية، أدور وأعمل ليل نهار دون كلل، ورغم حرصي على تلبية طلباتها الكثيرة، والتي يفوق بعضها حدود دخلي المتواضع، إلا أنني استطعت أن أدخر مبلغا من المال يُمكنني من شراء قطعة أرض صغيرة؛ فقد كنت أطمع أن أصبح يوما من الأعيان أصحاب الأطيان!
ولأن الأراضي مثل الذهب؛ والمبلغ الذي ادخرته بسيط! لم أجد شيئا يناسبني إلا في منطقة نائية على طريق رأس البر القديم؛ قيراطان - تتوسطهما دار قديمة لا تصلح للسكنى - سأضع فيهما تحويشة العمر، إنهما يطلان على الطريق مباشرة، ذلك الطريق الذي يقع بين ترعتين، ورغم سفلتته، وإشارات المرور المنتشرة عليه، وأعمدة الإنارة ، إلا أنه لا يكاد يمر أسبوع إلا وتقع حادثة أو أكثر؛ لدرجة أن الأهالي يسمونه طريق الموت، هذا ما عرفته من الناس وأنا جالس في المقهى أنتظر البائع.
لم يمنعني سماع هذا الكلام، ولا حكايات الموت المريرة التي تفنن الأهالي في قصها عليَّ بعبارات حزينة؛ وعيون دامعة! إنني غريب بينهم؛ وجئت لشراء قيراطين، ومن الطبيعي أن هؤلاء الناس يريدون بث الذعر في قلبي حتى لا أتمم إجراءات الشراء، هذا ما وقع في قلبي؛ فذهبت مع البائع إلى المحامي؛ وكتبنا العقد؛ وأكد المحامي أنه سيتمم التوثيق في الشهر العقاري في غضون أيام.
لم أهتم بما قاله لي بعض الأهالي من أن الأرض مسكونة من كثرة الحوادث التي وقعت قريبا منها؛ فقد كان كل ما يشغلني أن أحفظ المبلغ الذي ادخرته؛ وأن أصبح من ذوي الأملاك! اشتريت القيراطين؛ ولم أخبر أحدا من قريب أو بعيد؛ تكتَّمت الأمر خوفا من الحسد ولم أخبر زوجتي خشية أن تطالبني ببيعهما؛ لأشتري لها ذهبا؛ أو غسالة جديدة؛ أو .. .. إلخ!
ومرَّت الأيام ؛ وحدث ما لم يكن في الحسبان؛ قامت الثورة ( ثورة يناير) وتوقف كل شيء ! ولأول مرة منذ سنوات أعجز عن دفع إيجار شقتي! وانقلب الرجل الطيب البشوش مالك العمارة إلى وحش لا يرحم! فوجئت به يُحضر لي عصابة من المجرمين؛ لطردي أنا وزوجتي وعيالي؛ إنهم يعرفون أن الشرطة، وكل مؤسسات الدولة مشغولة بالثورة والثوار.
في ليلة سوداء؛ هجموا علينا؛ وهددونا بالسواطير والسكاكين؛ وبالكلاب المفترسة؛ ورمونا خارج الشقة؛ ولجأت زوجتي إلى أهلها؛ لتبيت عندهم هي والأولاد؛ ولم أجد مكانا أنقل إليه العفش والأثاث إلا تلك الدار القديمة التي تتوسط القيراطين ! ومن شدة التعب والإرهاق نمت وسط كومة الأثاث الذي أصبح حطاما، كان نوما متقطّعا، رأيت فيه أحلاما كثيرة بعدد كل الأحلام التي رأيتها في عمري الماضي كله! رأيت وجوها مخيفة؛ وأشياء عجيبة ورهيبة! ولكنني كنت خائر القوى؛ ومنهكا بطريقة لا أستطيع معها الوقوف على قدمي َّ! فقط كنت أفتح عيني َّ بصعوبة؛ ثم أغمضهما بسرعة!كنت أحاول أن أميز تلك الوجوه الكثيرة التي تتشكل من دخان ثم تختفي ثم تعود فتتشكل من جديد؛ وكان أحدها يصيح بصوت رهيب، والآخرون يصرخون صرخات مدوية
- لا تتركوه ينام! أحرقوه بالنار حتى لا ينام!
وكنت بالفعل أشعر باحتراق أجزاء من جسدي؛ لدرجة أنني شممت رائحة جلدي وهو يحترق، لكنني لم أستطع النهوض، ولم أستيقظ إلا في اليوم التالي؛ وبعد أن انتصف النهار، عرفت ذلك من آشعة الشمس التي كانت تتسلل من الخروق والشقوق الكثيرة المنتشرة في السقف والجدران؛ قمت وقلبي يكاد يتوقف من الرعب الذي أصابه؛ وومررت بيدي على جسدي؛ لأتأكد من هذه الحروق؛ فلم أجد أي أثر لما كنت أشعر به؛ ولم أجد أثرا لأي شخص في الدار! قلت بصوت مسموع وكأنما أكلم نفسي:
- ربما كل هذا مجرد كوابيس بسبب الرعب الذي أصابني أنا وزوجتي وأولادي من المجرمين الذين طردونا من شقتنا بالأمس!
حزنت على الأثاث الذي تحطم، وبكيت وأنا أنظر إلى حياتي وقد تحولت إلى ركام، ولو كنت أعلم ما سيصيبنا لتركنا لهم الشقة؛ ونجونا بأنفسنا وبالمتاع والأثاث. انتبهت إلى أن الدار قديمة؛ والسقف متهالك؛ والجدران متآكلة؛ والأرضية قد نخر السوس ألواح الخشب التي تبطنها، كما أن فيها حفر استوطنتها الجرذان والحشرات؛ تساءلت بصوت مسموع؛ عسى صوتي يبعد عني شبح الوحدة المميتة :
- كيف سأعيش أنا وزوجتي وأولادي في هذا المكان الذي لا يصلح لكي يكون قبرا؟!
فكرت في أن أقوم بعملية ترميم سريعة؛ فأشتري مترا أو مترين من الرمل؛ وبضع شكائر من الأسمنت؛ وأسد بنفسي تلك الخروق والشقوق؛ وأُسَفلت الأرضية بالأسمنت؛ ثم أحضر أحدا يقوم بمحارة السقف والجدران، ولكن قبل أي شيء كان علي َّ أولا أن أنزع كل هذه الألواح المسوسة من الأرضية؛ فمن المؤكد أن تحتها جيوشا من الحشرات والجرذان! وبالفعل بدأت في ذلك، كنت حريصا على نزع كل الألواح قبل حلول الليل؛ فلم أكن مستعدا للمبيت وحدي في هذا المكان مرة أخرى؛ ولو اقتضى الأمر سأبيت في محطة القطار القريبة.
غرقت في عَرَقي؛ وملأ التراب أنفي ورئتي َّ؛ ولم أعد أرى من ملوحة العرق الذي يتصبب من جبهتي ويسيل ويملأ عيني ! ذهبت إلى الحمام؛ وغسلت وجهي؛ ثم خرجت لاستنشاق بعض الهواء النقي؛ أشجار الجوافة، والتوت، ونخيل البلح في كل مكان؛ عليها أطايب الثمر؛ قطفت منها؛ وأكلت حتى شبعت. المنظر الجميل حولي جعلني أشعر ببعض الراحة والسكينة؛ واندهشت من نفسي كيف لم أكلف أحدا من الفلاحين بجني كل هذا الخير طيلة السنوات الماضية! كمية كبيرة من ثمار الجوافة والتوت والبلح كانت تذهب سدى؛ أو ربما في الجوار من كان يسرقها! عدت من جديد إلى الداخل، لكن هذه المرة كنت أكثر حماسا وأوفر قوة؛ فأخذت أنزع ما تبقى من الألواح، وبينما كنت أقوم بذلك شعرت بشيء يتكسَّر تحت قدمي؛ وعندما انحنيت لاكتشاف الأمر؛ فوجئت بوعاء كبير من الفخار؛ يشبه تماما ذلك البلاص الذي تحمله الفلاحات في الأفلام القديمة! كان مدفونا في الأرض تحت الألواح الخشبية، وفي داخله لمحت بريقاشد انتباهي؛ ولم أصدق عينيَّ وأنا أرىكومة ضخمة من القطع الذهبية والمجوهراتترقد في بطن هذا البلاص!
لم تستقر الأحوال بعد في البلد، الثورة طحنت الكثير من الناس، ولا تزال تحطم عظام البقية؛ والكساد الذي أصاب الجميع بالإفلاس؛ جعلهم يشعرون أنهم على أعتاب مجاعة ! لقد سقطت أسماء كبيرة؛ واختفت وجوه كثيرة؛ وظهرت وجوه جديدة لم يسمع عنها أحد من قبل! خرجت من تحت الأرض ؛ وفي وقت قصير ظهرت على هذه الوجوه علامات الثراء الفاحش! في غفلة من أجهزة الدولة التي أنهكتها الثورة؛ انتفخت كروش اصحاب الأعمال المشبوهة مثل تجار المخدرات والسلاح والآثار وانتشرت عمليات الخطف والسرقة ؛ .. .. إلخ
ورغم أنفي أصبحت واحدا من هؤلاء الذين ظهرت عليهم آثار النعيم دون سابق إنذار؛ وكنت أسمع من حولي يتهامسون، وهم في حيرة شديدة من هذا الثراء، والنعيم المفاجئ الذي أصبحت أعيش فيه أنا وزوجتي وأولادي؛ الجميع يعتقدون أنني أتاجر في آثار بلدي! لم يخطر على بال أحدهم قط أن الأرض المسكونة بالعفاريت كان مدفونا في بطنها كل هذه الكمية من الذهب والحلي ؛ والتي تُقدَّر بالملايين!
بمرور الوقت بدأ الناس يطلقون علي لقب الباشا! ولا ينادون زوجتي إلا ويسبقون اسمها بكلمة ( هانم ) لدرجة أنني بدأت أصدق أنها بالفعل حفيدة باشا؛ وربما تكون هذه الثروة ملكا لجدها الأكبر الذي هرب من مصر أيام التأميم؛ ولكنه لم يتمكن من تهريب هذه الثروة معه؛ فدفنها في هذا المكان !.
دمياط
24 / 7 / 2021 م