غادة العبسي: شِباكنا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • غادة العبسي: شِباكنا

    غادة العبسي: شِباكنا

    وقفت لبرهة أمام المبنى المألوف، أحاول استيعاب الأمر، أنني عشتُ لثلاثين عامًا بالقرب منه ولم أدخله قط، يسألونني أين تسكنين؟ أقول : جنب المحكمة، وهنا برغم وجود مجمع محاكم مصر الجديدة بالقرب من مبنى محكمة الأسرة إلا أن الميدان الواقع في قلب الحي الراقي يسمونه ميدان المحكمة نسبةً إلى محكمة الأسرة، ومع ذلك لعقود لم أدرك من المبنيين-بفضل الله- سوى العربات الزرق الكبيرة، بشبابيكها الصغيرة التي لا تكشف سوى عن ظلمة مخيفة، ليس بمقدور تليكسوب جيمس ويب التحقق منها، تتخيل حفنة من العيون الناظرة إلى المارة من الداخل، لو أتيحت لك فرصة الاقتراب دون تورط، ودققت النظر لرأيت أبرقة الأحداق تضوي، ربما تهيأت لك فرصة سماع لهاث أو صيحات أو نحيب، ربما اصطدمت أمام إحداها بأمٍّ في سوادها تبكي صامتة، ترسل سلاما لأحدهم في الداخل، أو بأبٍ يدعو دعاء المضطر ليخرج السجين وتنكشف الغمة وينصلح الحال، لو كنتَ أكثر جرأة، لوقفت تنتظر نزولهم لترى كيف يبدو السجناء وما شكل القيود، تنظر في عيونهم، تتأمل هيئاتهم، تنصّب روحك قاضيا لبعض الوقت، تبحث عن أدلة البراءة، أو تشتم رائحة الجريمة تفوح من أنفاسهم وملابسهم ككلب بوليسي مدرب، تصدر أحكامًا انطباعية، لا تفيد أحدًا، تقرّ في كوابيس منتصف الليل، ممزوجة بصرخات الأم الصامتة ذات السواد التي لم تقدر على الصراخ سوى في حلمك..
    أقف أريد استيعاب الأمر، التقاط أنفاسي، أوثق لحظة فارقة وهامة في حياتي، الفتاة القاطنة بمصر الجديدة، المحاطة بذكريات طفولتها وصباها وشبابها، هنا مدرستان وشارع طويل أشبعته وَرفيقاتي سيرا وضحكا وأملا، نحمل الحب في قلوبنا والموسيقى في آذاننا وأيدينا، محل الورد، نادي النصر القريب وأول مرة أطأ استاد كرة قدم، بائع الجرائد والكتب المستولي على مصروفي أولًا بأول، مكتب تصوير المستندات وملازم ما قبل الامتحان، على مدار الشهور الأخيرة استبدلت هذه الذكريات بإعلانات المحكمة وتصوير مستندات الدعاوى والترجمة المعتمدة. والآن يجب أن أصعد، لا بد، هذه المرة تحديدا لا أحد يمكنه القيام بذلك نيابةً عني، جموع من البشر، من جميع الأعمار، رجال ونساء وشيوخ وأطفال، الحقائب في أيدي السادة المحامين، تحمل تاريخ هؤلاء البشر، المختصر في شهادات الميلاد ووثائق الزواج والطلاق، أصعد معهم، وللحظة أشعر كأن يد الله تصعد بنا جميعًا إلى حيث لا ندري، حولي شجار عنيف ودعوات بهلاك المال والذرية، دعوات للنفس وعليها بالخلاص، أشم رائحة حريق، طبيخ شايط، قهوة طازجة تعيدني إلى ما قد يشتهيه الانسان الطبيعي وسط الخرائب، تعيدني إلى فطرة الاشتهاء والاحتياج للحب والزواج والإنجاب، الفطرة التي قادتني في النهاية إلى هذا المكان: محكمة الأسرة، أبحث عن متنفس، أجد نافذة حديدية مزينة بزخارف نباتية وهندسية مطلة على الميدان الذي طالما أحببته، أعد النجمات ذات الاثني عشر رأسًا، وأبحث عن إشارات، قد ترشدني في الطريق الجديد، أبتسم، ها أنا امرأة في القرن الواحد والعشرين مازلتُ أقف خلف نافذة، مثلما وقفت جدتي خلف مشرفيتها في زمنٍ قديم، في ظروف مختلفة، بمعطيات جديدة للمسألة الشائكة، أدندن بلا وعي:
    شباكنا ستايره حرير، من نسمة شوق بتطير، أضحك ساخرة، يلتفت إليّ الحارس في ذهول، بالتأكيد نعتني بالجنون، لا يعرف أني قد أنهيتُ لتوي مشهدًا كاملاً في ذهني لفيلم روائي طويل، بلا حوار، يحاكي حياتنا من خلف شبابيك محكمة الأسرة!
    -وحياة أمَّك ما هسيبك!
    يندمج زوج من الأحبة القدامى في حوار عائلي على مقربة مني، أخرجا ما في جعبتهما في سب وقذف ولعن، عن فوري أردد من خلف كمامتي رائعة حورية حسن:
    "وحياة حبك ما شبكنا غير شباكوا وشباكنا"..
    يناديني المحام، جاء دورنا، أجلس في غرفة أنيقة، يسألني سيادة القاضي:
    -ما عنوانك؟
    يقفز في ذهني سؤال وديع الصافي لفيروز:
    "إنتِ من وين؟"
    تجيب فيروز:
    -أنا من بلد الشبابيك المجروحة بالحب مفتوحة ع الصدفة"..”
    تسأله بدورها: "إنتَ من وين؟"
    -"أنا من بلد الحكايات المحكية ع المجد ومبنية ع الألفة"..

    #غادة_العبسي
    - طبيبة وكاتبة ومطربة مصرية.
    - صدر لها خمس روايات وثلاث مجموعات قصصية.
    - آخر أعمالها رواية كوتسيكا ورواية سدرة.
    - حصلت غادة على العديد من الجوائز المحلية والعربية.
    - وصلت روايتها ليلة يلدا إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد.
    - حاصلة على الزمالة الفخرية في الكتابة من الولايات المتحدة الأمريكية.
    ????



يعمل...
X