يوسف الناصر ..
وحافة الضوء
نوري الجراح
من بين جميع التشكيليين العراقيين يعتبر الفنان يوسف الناصر أقرب أبناء جيله من الشعر، والأدب بصورة عامة، فثمة في جميع أعماله فضيلة الشيء الناقص الذي تتمتع به عادة أعمال الفنانين القلقين، وهو ما يجعل مغامرته في عالم الرسم أقرب إلى عوالم الشعراء التجريبيين. ويتجلى هذا المعنى في موضوعات لوحاته ومناخاتها وكذلك في علاقات اللون في رسومه أكانت على سطح قماشي أو كرتوني أو ورقي أو خشبي.
ثمة شيء مالانخولي يطبع الحالات التي تعبّر عنها لوحته، وهي غاليا ما تتشكل من عناصر تحمل عين المشاهد على السفر في مخيلته الشخصية، تدعوه إلى تذكر شيء من أحلامه القاتمة، وربما كوابيسه، حتى لكأنّ الناصر يؤلف في لوحته كوابيس تجعل من لوحته عالما أوتوبيوغرافيا بامتياز.
تلك هي اللوحة الفنية وقد ضربتها لوثة الأدب، واستفحلت فيها أوهام وتصورات، وجعلت ريشة الفنان من عمله مساحات لتضارب الأفكار أكثر منها مساحات للانسجام. فالعناصر التي تتشكل منها اللوحة والمنظور الذي يقدمها لنا، لا يملكان أيّ استعداد للحوار المساوم مع العين. ولعل سيرة الفنان المنفي من بلاده والمسافر في جغرافيا الكوابيس الإنسانية عبر المدن وقد احتضنت كوابيسه الشخصية إنما تحمل لنا الأجوبة عن الأسئلة التي تثيرها فينا مشاهدة أعمال معرضه اللندني الأخير كما كان الحال في معارضه العديدة التي أقيمت إن في لندن حيث يقيم أو في غيرها من العواصم الأوروبية، على ما تشكله تلك المعارض عبر عقود ثلاثة من تنوع في المواضيع والصياغات والمواد الفنية.
في هذا الحوار مع يوسف الناصر نتعرف عن قرب على جوانب من همومه وهواجسه وتطلعاته الفنية.
أسئلة: للفنان يوسف الناصر
أعمالك الفنية تقوم على رؤى أقرب إلى رؤى الشعراء، حدثني، من موقعك كفنان تشكيلي عن المسافة بين التشكيل والشعر، وكيف تتراءى لك هذه المسافة، عبر الخيال الفني، وكيف تتجسد في أدوات الفنان التشكيلي؟
ج : ما كنت يوما بعيدا عن الشعر ، بل هو دائما جزء اساسي من حياتي ويومياتي وتكويني الثقافي ، منذ صباي المبكر الى الان . كنت احفظ مطولات الشعر العربي في طفولتي ، يؤسرني ايقاع الكلام ونغمات الصوت اكثر من المعاني التي أفترض اني لم أكن ادرك اغلبها، لكن يبدو ان ذلك لم يكن مهما امام سحر الكلام وتأويلاتي الخاصة لما أقرأ ، فلم يكن هناك من يرشدني خارج المدرسة ولم يكن في بيتنا كتاب من اي نوع ،وكانت المكتبة الحكومية التي افتتحت انذاك في محلة الماجدية بمدينة العمارة جنوب العراق هي مأوى دائم لمجموعة من الصغار ، كنت بينهم ، وخصوصا في اوقات البرد والشتاء والمطر، في البداية لم يكن ذلك حبا بقراءة اشياء غير مجلات الاطفال، وهروبا من الاوضاع البائسة لبيوتنا الفقيرة وازقتنا الموحلة، ثم تطور الامر تدريجا ، وكان اكثر كتب المكتبة في التراث والشعر والادب ، زفي المدرسة الابتدائية ، مثلا ،كان عليّ ان اقرا قصيدة صباح كل خميس ، كما أظن ، في اصطفاف المدرسة وتحية العلم ، كنت اقرأ قصائد سهلة الفهم مثل قصيدة ابو القاسم الشابي ، اذا الشعب يوما اراد الحياة ، حتى زهق منها مدير المدرسة يوما وطلب مني ان احفظ قصيدة اخرى للاسابيع القادمة ، فلم أجد غير قصيدة ( بشر بن عوانة يصارع الاسد ) التي لم اتوصل للكثير من معاني مفرداتها الى اليوم ، سألني الدكتور صلاح نيازي عندما سمع مني بعضاً مما لازلت احفظه من أبياتها ، هنا في لندن ، ( من أين عثرت على هذه القصيدة ؟ وأضاف ضاحكا ، لا أظن أن هنا من يتذكرها غيرنا نحن الاثنين ) ، في المرحلة المتوسطة والثانوية كنت أعدّ نشرة حائطية فصلية عن الشعر ورغم اني توجهت للفرع العلمي من الدراسة الا اني قررت يوما ان أتعلم عروض الشعر ، وهكذا درسته منفردا من كتاب اشتريته من مكتبة في منطقة العشار بالبصرة وكان عنوانه ( ميزان الذهب ) ، ولما أُدخل العروض كدرس اساسي لطلاب الفرع الادبي كان ذلك مثل كارثة حلّت على الجميع ، فصرت اساعد الطلاب على تعلمه خارج ساعات الدراسة ، وكان مما يثير حنق بعضهم ممن استعصت عليهم ألغاز العروض، اني كنت ادرس في الفرع العلمي ، كما ذكرت ، الى ان هجم عليّ بعضم ممن لم يكونوا يفهمون لغز العروض هذا، ثم طلبت من مدرس الادب اعفائي من المهمة بعد توتر الوضع وتعرضت للاعتداء .
كنت ، ولازلت، اكتب الشعر واشارك في مهرجانات المدرسة ، وبعدها اكاديمية الفنون والجامعة ، وفي بغداد كان اتحاد الادباء هو مقري الدائم وليس جمعية الفنانين التشكيليين وكان معظم اصدقائي من الشعراء وليس الرسامين ، ولا يزال الوضع كذلك الى اليوم ،حتى أن صديقا شاعرا معروفا كان يردد ان يوسف شاعر ضلّ طريقة للرسم .
سوى أني لا اعتبر ذلك ضلالا ، لا مسافة في نفسي بين الشعر والرسم ولا أي فن اخر، ألمسافة في الشكل الذي يخرج فيه الشعر او الرسم او الموسيقى وفي طريقة تلقّيها، في الاداء والصورة التي تظهر بها وكيفية وصولها للمتلقي، وهي كالمسافة بين البصر والسمع والكلام ، تبدأ من مواضع مختلفة لكنها تلتقي جميعا في الدماغ ، وأظن أن مهمة الرسام الأساسية هي أن يدرك طبيعة المادة التي يعمل بها وأن يكون سعيه الدائم باتجاه الواقعة البصرية الخالصة،فالرسام يعمل في الاشكال والسطوح والالوان وليس بالكلمات او النغمات ، لكن الاعتراف باستقلال البصر في ثقافة يتسيّد فيها الكلام ، مثل ثقافتنا ، ليس بالامر اليسير .
منذ عقود وأنت تعيش في المنفى، بعيداً عن الوطن، العراق، نعرف أنك ترحلت وتوطنت لفترات من الزمن في أماكن، كدمشق، وبيروت، ونيقوسيا، قبل أنه ينتعهي بك المطاف في لندن. خبرت تلك الأمكنة وأقمت علاقات بناسها ولابد أنها تركت أثرها فيك، كيف تعيش فيك تلك الأمكنة، وما طبيعة وجودها في عملك الفني؟
ج : نعم عشت في تلك المدن وغيرها ايضا ورسمت فيها ، كلها مناف ما عدا دمشق ، في بيروت كان لي مرسم احتله الجيش اللبناني بعد دخول الجيش الاسرائيلي الى بيروت سنة 1982، أخذوا بعض محتوياته وألقوا الباقي في الشارع ، لم اخرج منه حتى بقصاصة ورق واحدة ، وفي قبرص كان عندي مرسم كبير وجميل كونته على مدى سبع سنوات ، حدث معه شيء مشابه ، تركته بما فيه في ليلة ليست جميلة بعدما اضطررت للمغادرة بدون عودة . وفي لندن اسست غاليري ( آرك ) ، يعني الطوف أو سفينة نوح ، وكان مرسما لي أيضا ، غير اني فقدته بعد ستة عشر عاما.
رسمت في كل هذه الاماكن ما ارسمه عادة ، لكني لم ارسم تلك الاماكن ذاتها ، ما عدا دمشق . ما كان لي فيها مرسم ، لكني رسمت ازقتها وبيوتها عندما كنت اعيش فيها. لوحاتي وتخطيطاتي عن دمشق كانت متعتي في ممارسة تمريني الاكاديمي الذي تعلمته في بغداد ولازال أحبه وأرى فيه أحد مكونات عملي الفني الاساسية . غير اني خرجت من دمشق بدون أي من لوحاتي مع الأسف وليس بدون دمشق، فرسمت عنها من ذاكرتي في قبرص ولندن ، لم اعتمد صورا فوتوغرافية ولم ارسم أزقة وحوارٍ فقط هذه المرة ، بل وأيضا ما يعتمل في روحي عن المدينة وناسها الذين احببت. وأظن أن هذه اللوحات ذهبت الى مكانها المناسب حيث بيعت في مزاد من أجل المهجّرين السوريين مؤخرا .
بعد أن عشت في دمشق هاربا من النظام المجرم في بغداد سنة 1979 ، شعرت ان اللله لم يخرجني من جنة العراق ليلقي بي في جحيم الغربة المجهول، بل أن العكس هو الذي حدث، فقد كان اللله رحيما هذه المرة على غير عادته.
عشت في قبرص سنوات اكثر مما عشت في دمشق ، لكني لم ارسم غير البحر ومناظر الطبيعة ، والان اكتشف ، وبسبب من حديثنا هذا ، اني وبعد ثلاثين سنة في لندن رسمت أشجارا فيها وطيورا وحدائق ووجوه لكني لم ارسم بيوتا ، فقط بيوت دمشق هي التي رسمتها . هل سيجد البعض في كلامي هذا ميوعة رومانسية زائدة عن الحد ؟ فليكن ، لا اتحرج من ذلك . لم اكن غريبا في دمشق ، وفي مرتبة اشواقي الأعلى دمشق وليس البصرة او بغداد
في معرضك اللندني الأخير، لوحاتك تتراوح بين الألوان والتشكيلات الحلمية القاتمة وبين مطالع ألوان خفيفة أو شبه خفيفة بعضها أقرب إلى التخطيطات الرائقة.. لكأنك أخيراً بدأت تخرج من دياميس العتمة اللونية التي هيمنت على اعمالك، وإن على استحياء.. حدثنا عن تلك الرحلة بين المعتم والمشرق، وذلك الدنو النفسي والفني من حافة الضوء؟
ج : ما يراه بعض الاصدقاء والمهتمين عتمة ، لا أراه كذلك . ألوان مقتصدة ومتسللة بهدوء ، نعم ، والمعرض عنوانه ( حافة ضوء ) ، لست شجاعا بما يكفي ولا متيقناً من الضوء كاملا مهيمنا سعيدا ، ولم أرد أن ابقى حبيساً لوساوس وهواجس القسوة والأذى التي عشتها . ثم انه ، وهذا هو المهم ، ليس عندي فهم ومعنى للون خارج اللوحة عندما نتحدث عن الرسم ، اللون يكتسب صفته ودوره من علاقاته اللونية بالالوان الاخرى على الورق او قماشة الرسم . ارسم باللون الأسود مثلما ارسم باي لون آخر في أي انشاء . رسمت مرة سلسلة من لوحات عن بساتين في يوم ربيع مبهج ، طافحة بالالوان والضوء ، لكنها كانت حقولا جرى فيها قتل ناس كثيرين . قبل أيام رأيت فيديو لصحافي يعرض صورا التقطها لحقول جميلة في ساحة حرب في اوكرانيا ، ويعلق بقوله انه لم يكن يعلم ان هذه المناظر الساحرة الجمال هي في الحقيقة حقول الغام وكان على وشك الدخول فيها .
أقصد من كلامي هذا انني لم ارسم تلك البساتين بالاسود والرمادي ودرجاتهما استنادا على الفهم المسبق الشائع عن معنى السواد لكي اصل الى صورة الاذى ، وبالمقابل لم اتجنب رسم ما هو جميل ومفرح باي الوان اخرى بما فيها الاسود. الرسام هو الذي يعطي الاسم الجديد للون والصفة المبتكرة له ، والا فلا معنى للعملية كلها وسيكون لدينا قاموس ذو معان محدودة للالوان ، وشفرة للوحة يمكن تحويلها الى كلمات ، وطبعا ذلك لا يعني ان ظلال الفهم المسبق للالوان محذوفة تماما من لوحاتي او لوحات الاخرين ، فهي ضمن موروثنا الثقافي وتربيتنا الروحية والاجتماعية ، رغم اني اذكّر نفسي دائما بانني في صدد ابداع شيء جديد في عملي الفني ، وابتكار اسماء جديدة ، وان هذه هي مهمتي الاولى .
ما الذي اعطتك إياه، وما الذي سلبته منك مدينة لندن أتحدث عن الضوء والظل عن الطقس، عن نظام العيش، والامكانات المختلفة للتصرف في ظل ثقافة عيش مختلفة عن تلك التي نعرفها في مدن الشرق.
ج : الحديث عن مكان العيش الآخر ، غير البلاد الأم ، دائما حديث متسع وذو شجون كما يقال ، خصوصا اذا كانت البلاد المعنية مدينة عظيمة مثل لندن ، وان هذا الشخص لايريد ان يعيش فقط ، بل ان يتعلم ويرسم ويساهم في نهر الثقافة الكبير ولو بقطرة . ورغم اني عشت في العراق اقل بكثير مّما عشته بعيدا عنه ، الاّ اني اسميه البلد الام ، وهذا سلوك طبيعي كما أظن .
مضى على وجودي في لندن ثلاثون سنة ، ودرست وعملت فيها، لكني لازلت ارى نفسي غريبا او حتى متطفلا، ربما سعة المدينة وتنوعها وكثافة الناس فيها تساهم في ذلك الشعور ايضا . حاولت ان اتبني فكرة اختلاط وتعدد وتمازج الثقافات في مجتمع ديناميكي مربك مثل الذي اعيش فيه ، حتى اني اعددت ونفذت وساهمت في برامج فنية واجتماعية كثيرة من أجل هذا الهدف في الغاليري الذي ادرته واماكن اخرى ، لكني ارى الان اني لم اكن مصيبا تماما ، وان جزءا كبيرا من افكاري وبرامجي كانت بتاثير رغباتي واحلامي اكثر منها من واقع الحال المُعاش ، صرت ارى نفسي مع اخرين القادمين من كل انواع الثقافات والتقاليد المتجاورة هنا والقادمة من كل اطراف الأرض، انما نتفاعل مع بعضنا ونتجاور ونعمل معا مثل راكبين في زورق صغير بانتظار ان نصل اليابسة لكي نتفرق مرة اخرى .
لا اطمح ان اعود الى العراق بعد كل هذا العمر ، وربما لا استطيع العيش هناك ، فقد وجدت بعد عودتي سنة 2011 ، اي بعد حوالي 37 سنة ، اني كنت اشد غربة في العراق وان افكاري عن انتهاء غربتي في لندن هي محض وهم ، واني محكوم بان ابقى غريبا اينما حللت ، وهذا حال الشخص الذي اصابه النحس وفقد بلاده ، لا اقول ذلك لاستدرار عواطف الاخرين فلا حاجة لي بذلك ، بل هو تقرير حال ، عندها قررت العودة الى لندن الى اصدقائي على الاقل ، الحياء منهم والاموات ، فهؤلاء الاصدقاء هم كل ما خرجت به من العراق ، هم اهلي وهم بلادي ، رغم اننا نستهين بصداقاتنا جهلا ونزقا .
كنت انوي محاولة العودة والاقامة في دمشق ، لكن الحرب حالت دون ذلك ، فدمشق اقرب لي كما سبق وان ذكرت . هربت من بغداد خائفا مرعوبا ، وتركت دمشق وفي قلبي شوق اليها .
لكن ما يجب علي قوله الان هو اني عشت في لندن حياة كاملة لم اعشها من قبل ، فقد كنت اتنقل من بلاد لاخرى باجزاء من تجارب ونتف من حياة ، شعرت بالامان ، عملت وتعلمت ودرست ورأيت الرسم كما لم يخطر ببالي ان اراه من قبل . لا اعتبر ما رسمته قبل ذلك سوى تاريخ لي ومحطات في سيرة حياة مبعثرة ، غير ما انا عليه الان ، حيث اتضح لي طريقي في الفن وصرت ارى حياتي بعيون رسام .
* عن مجلة الجديد