رغبةٌ مؤجلة ( قصّة قصيرة )
***********************
ذاتَ شفقٍ، كان جالسًا على رأس حقله الأخضر، أسفل شجرة التوتِ العتيقةِ، على شاطيء الترعة الغربيَّة، يرتدي جلبابًا أبيضَ ويتصفَّحُ كتابًا ضخمًا عابثًا في ذقنه المُشذَّبِ؛ أحسَّ بوقعِ خطواتٍ حثيثةٍ يقتربُ في الجوارِ؛ رفعَ رأسَه فهالَهُ ما أبصرَ..
رآها غير بعيدٍ على الشطِّ الثاني، تتجرّدُ من ملابسها الواحد تلو الآخر؛ أغلقَ الكتابَ وغضَّ البصر.
خالهَا جنيَّةَ الغروبِ؛ همَّ بالقيامِ مهرولًا تجاه البلدةِ. استوقفه نداؤها وصياحها باسمه؛ دقَّ قلبًه واهتاجَ عقلُه.
خاطبَه قلبُه اللاهثُ: عسى أن تكونَ في ورطةٍ.. هيَّا اقتربْ.. اعبرْ المانعَ!
صاحَ به عقلُه الثائرُ: إنَّها فتنةٌ .. هيَّا ابتعدْ!
جذبه القلبُ: استفتني! إنَّها مُضطَرَّةٌ، وتستجيرُ بكَ.
بعدَ التشتتِ، انتصرَ القلبُ المُتقدُ على العقلِ الراشدِ. اجتازَ الترعةَ، فتحتْ له ذراعيها، وقد توهّج منها الوجه ونفرت العروقُ. انتفضَ الجسدانِ المُتعانقانِ، قالَ لها مُتلعثمًا: ماذا بكِ؟ وما بُغيتُكِ؟!
ردَّتْ شفتاها القرمزيتّانِ في شبه انهيارٍ:
- أريدَ.. يدكَ.. أنتَ.
- أنا.. أنا.. لكن!
- نعم! أنتَ لي وكلُّ حياتي.
حاولَ التملُّصَ منها؛ لكنّ كلَّ أعضائه وجوارحه ثارتْ ضدَّه. حملها بينَ ذراعيه، وهي تنظرُ إليه ضاحكةً بعينينِ كاحلتين وثغر باسمٍ أفلجَ الأسنانِ، تعبثُ بأناملها الرشيقة في شعيراتِ ذقنه الخفيفة.
من خلف أشجارٍ عاليَّةٍ، انبلجَ قصرٌ مشيدٌ يعجُّ بالخدمِ والحشمِ المُحتفين:
- مرحبًا سيدنا، تفضلا على الرحب والسعةِ!
ولجَ حاملًا غنيمته إلى إحدى الغرفِ المُعدَّة بسريرٍ وثيرٍ، أنزلها برفقٍ، مال ناحيتها، شبَّكتْ يديها حول رقبته وتمازجا، ذابا في عسل الحُبِّ. فُضَّ الغشاءُ فارتعدَ وشعرَ بثقلِ الخطيئةِ...
فجأةً تفجَّرتْ من تحتِ الأقدامِ العيونُ المُتدفِّقَةُ كأنما كانت ترقبهما من زمنٍ حتّى مجيءِ اللحظة الحاسمة.
هرولا إلى الخارجِ تتبعهما العيون الجاريّةَُ، توقّفتْ، أسرعَ بمفردِهِ بأقصى قوّتَِه، وهي تتابعُ وثباته وتخبطاته.
انهمر المطرُ مدرارًا، حينما وصل إلى الترعةِ الّتي صارتْ خضمًا عظيمًا. تذكَّرَ الطوفانَ وسفينة نوح دون وجودٍ لجبلٍ يعصمه من الماء أو أثرٍ لسفنٍ. جالَ بخاطره موسى وعصاتَه؛ لكن أين هو من موسى؟!
واصلَ هروبَه حتّى سقطَ في جُبٍّ عميقٍ؛ صاحَ مؤنبًا نفسه: أين أنتَ يا يوسف الصدِّيق؟!
رآها تقف فوق البئر المعطَّلة تضحكُ طارحةً رأسها للخلفِ وشعرها العاصفُ يغطي وجهها فتدفعه للوراء ضاربةً كفًّا بكفٍّ ولم تزل تقهقه. مرَّ بذهنه الشيطانُ وآدمُ عاري الجسم يخصف عليه من ورق الجنَّةِ وسط سخرية زعيم الجِنَّةِ الشامتة.
هبَّ من نومه مذعورًا، طفقَ يستجير ويستعيذُ بالله قارئًا آية الكرسيّ، وانطلقَ قرآنُ الفجر من المسجد المجاورِ؛ قام فاغتسلَ وسارَ إلى المسجدِ للصلاةِ...
فكَّرَ في حلم الليلةِ، تذكَّرَ الفتاةَ التي واقعها، أدركَ أنَّها عذراءُ القرية ذاتَ الخُلقِ المُباركِ والجمالِ الخارقِ.
تقدَّمَ لها الكثيرون فنالوا الرفضَ والإعراضَ دون استثناءٍ.
تذكَّرَ أنَّه أطالَ النظرَ إليها بالأمسِ فتبسَّمتْ؛ لكنَّه استعاذ بالله ساعتها على الرغم من أن خيالها لم يفارق عينيه. أدركَ أنَّه الوحيدُ الذي لم يتقدَّمْ لها وقد توفتْ امرأته بعد زواجٍ قصيرٍ نتيجة مرضٍ لم يدمْ طويلًا.
سألَ نفسه: لم لا أنال شرف المحاولة؟ هل ستقبلُ أرملَ؟!
صلّى ركعتَىّ الاستخارةِ فَهُدِيَ إلى خطبتها.
ارتدى حلة جديدة وتعطر، وخرج يحث الخطى، يدفعه شوقه إلى حيث منزل والدها في أقصى البلدة...
استوقفه صراخ وعويل، استعاذ من الشيطان الرجيم، وانطلق مندفعا إلى مصدرهما ليجد نفسه أمام بيتها الذي تأكله النار، والناس تتآزر لإخماد الحريق.
دفع الباب المشتعل، وجد النار تحاصرها من كل جانب. خلع حلته وألقاها عليها كاتما اللهب، حملها بين ذراعيه منتحبا.
تحركت شفتاها المحترقتان باسمه باسمة:
_ لقد تأخرت كثيرا، فلنلتقي إذن في جنة الخلد عند مليك مقتدر!
ثم لفظت أنفاسها الأخيرة.
"""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
تمت بحمد الله
الأربعاء 29/6/2022
***********************
ذاتَ شفقٍ، كان جالسًا على رأس حقله الأخضر، أسفل شجرة التوتِ العتيقةِ، على شاطيء الترعة الغربيَّة، يرتدي جلبابًا أبيضَ ويتصفَّحُ كتابًا ضخمًا عابثًا في ذقنه المُشذَّبِ؛ أحسَّ بوقعِ خطواتٍ حثيثةٍ يقتربُ في الجوارِ؛ رفعَ رأسَه فهالَهُ ما أبصرَ..
رآها غير بعيدٍ على الشطِّ الثاني، تتجرّدُ من ملابسها الواحد تلو الآخر؛ أغلقَ الكتابَ وغضَّ البصر.
خالهَا جنيَّةَ الغروبِ؛ همَّ بالقيامِ مهرولًا تجاه البلدةِ. استوقفه نداؤها وصياحها باسمه؛ دقَّ قلبًه واهتاجَ عقلُه.
خاطبَه قلبُه اللاهثُ: عسى أن تكونَ في ورطةٍ.. هيَّا اقتربْ.. اعبرْ المانعَ!
صاحَ به عقلُه الثائرُ: إنَّها فتنةٌ .. هيَّا ابتعدْ!
جذبه القلبُ: استفتني! إنَّها مُضطَرَّةٌ، وتستجيرُ بكَ.
بعدَ التشتتِ، انتصرَ القلبُ المُتقدُ على العقلِ الراشدِ. اجتازَ الترعةَ، فتحتْ له ذراعيها، وقد توهّج منها الوجه ونفرت العروقُ. انتفضَ الجسدانِ المُتعانقانِ، قالَ لها مُتلعثمًا: ماذا بكِ؟ وما بُغيتُكِ؟!
ردَّتْ شفتاها القرمزيتّانِ في شبه انهيارٍ:
- أريدَ.. يدكَ.. أنتَ.
- أنا.. أنا.. لكن!
- نعم! أنتَ لي وكلُّ حياتي.
حاولَ التملُّصَ منها؛ لكنّ كلَّ أعضائه وجوارحه ثارتْ ضدَّه. حملها بينَ ذراعيه، وهي تنظرُ إليه ضاحكةً بعينينِ كاحلتين وثغر باسمٍ أفلجَ الأسنانِ، تعبثُ بأناملها الرشيقة في شعيراتِ ذقنه الخفيفة.
من خلف أشجارٍ عاليَّةٍ، انبلجَ قصرٌ مشيدٌ يعجُّ بالخدمِ والحشمِ المُحتفين:
- مرحبًا سيدنا، تفضلا على الرحب والسعةِ!
ولجَ حاملًا غنيمته إلى إحدى الغرفِ المُعدَّة بسريرٍ وثيرٍ، أنزلها برفقٍ، مال ناحيتها، شبَّكتْ يديها حول رقبته وتمازجا، ذابا في عسل الحُبِّ. فُضَّ الغشاءُ فارتعدَ وشعرَ بثقلِ الخطيئةِ...
فجأةً تفجَّرتْ من تحتِ الأقدامِ العيونُ المُتدفِّقَةُ كأنما كانت ترقبهما من زمنٍ حتّى مجيءِ اللحظة الحاسمة.
هرولا إلى الخارجِ تتبعهما العيون الجاريّةَُ، توقّفتْ، أسرعَ بمفردِهِ بأقصى قوّتَِه، وهي تتابعُ وثباته وتخبطاته.
انهمر المطرُ مدرارًا، حينما وصل إلى الترعةِ الّتي صارتْ خضمًا عظيمًا. تذكَّرَ الطوفانَ وسفينة نوح دون وجودٍ لجبلٍ يعصمه من الماء أو أثرٍ لسفنٍ. جالَ بخاطره موسى وعصاتَه؛ لكن أين هو من موسى؟!
واصلَ هروبَه حتّى سقطَ في جُبٍّ عميقٍ؛ صاحَ مؤنبًا نفسه: أين أنتَ يا يوسف الصدِّيق؟!
رآها تقف فوق البئر المعطَّلة تضحكُ طارحةً رأسها للخلفِ وشعرها العاصفُ يغطي وجهها فتدفعه للوراء ضاربةً كفًّا بكفٍّ ولم تزل تقهقه. مرَّ بذهنه الشيطانُ وآدمُ عاري الجسم يخصف عليه من ورق الجنَّةِ وسط سخرية زعيم الجِنَّةِ الشامتة.
هبَّ من نومه مذعورًا، طفقَ يستجير ويستعيذُ بالله قارئًا آية الكرسيّ، وانطلقَ قرآنُ الفجر من المسجد المجاورِ؛ قام فاغتسلَ وسارَ إلى المسجدِ للصلاةِ...
فكَّرَ في حلم الليلةِ، تذكَّرَ الفتاةَ التي واقعها، أدركَ أنَّها عذراءُ القرية ذاتَ الخُلقِ المُباركِ والجمالِ الخارقِ.
تقدَّمَ لها الكثيرون فنالوا الرفضَ والإعراضَ دون استثناءٍ.
تذكَّرَ أنَّه أطالَ النظرَ إليها بالأمسِ فتبسَّمتْ؛ لكنَّه استعاذ بالله ساعتها على الرغم من أن خيالها لم يفارق عينيه. أدركَ أنَّه الوحيدُ الذي لم يتقدَّمْ لها وقد توفتْ امرأته بعد زواجٍ قصيرٍ نتيجة مرضٍ لم يدمْ طويلًا.
سألَ نفسه: لم لا أنال شرف المحاولة؟ هل ستقبلُ أرملَ؟!
صلّى ركعتَىّ الاستخارةِ فَهُدِيَ إلى خطبتها.
ارتدى حلة جديدة وتعطر، وخرج يحث الخطى، يدفعه شوقه إلى حيث منزل والدها في أقصى البلدة...
استوقفه صراخ وعويل، استعاذ من الشيطان الرجيم، وانطلق مندفعا إلى مصدرهما ليجد نفسه أمام بيتها الذي تأكله النار، والناس تتآزر لإخماد الحريق.
دفع الباب المشتعل، وجد النار تحاصرها من كل جانب. خلع حلته وألقاها عليها كاتما اللهب، حملها بين ذراعيه منتحبا.
تحركت شفتاها المحترقتان باسمه باسمة:
_ لقد تأخرت كثيرا، فلنلتقي إذن في جنة الخلد عند مليك مقتدر!
ثم لفظت أنفاسها الأخيرة.
"""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
تمت بحمد الله
الأربعاء 29/6/2022