المتعة تكمن خلف الأشياء الصغيرة
قراءة فى مجموعة انتصاف ليل مدينة لسمير الفيل
د/ أشرف حسن عبد الرحمن
لعل ما يلفت النظر فى تلك المجموعة الصغيرة المحتوية على اثنتى عشرة قصة والصادرة عن كتاب اتحاد الكتاب، هو احتفاء الكاتب بالتفاصيل ومنمنمات الحياة، وإذا كان الأسد هو مجموعة خراف مهضومة فالكاتب لديه القدرة من خلال الصور الجزئية على خلق دلالة كلية . يستطيع سمير الفيل تحقيق تلك المعادلة الصعبة من خلال تقنيات مختلفة متوسلا بلغة طيعة حميمة ومألوفة تتراوح مابين التراثية والحياتية تراهن اولا وأخيرا على متعة القارىء . ما يلفت النظر أيضا أنها المجموعة الأولى التى قدم سمير الفيل نفسه فيها كقاص وليس كشاعر عامية والغريب عدم التفات النقد اليها رغم خصوصيتها.عتبات النص:أول العتبات هى العنوان "انتصاف ليل مدينة" ولعل العنوان يذكرنا بقصيدة احمد عبد المعطى حجازى: أنا والمدينة، حين يقول: هذا أنا /وهذه مدينتي /عند انتصاف الليل/ رحابة الميدان / والجدران تل/ تبين ثم تختفي وراء تلّ/وريقة في الريح دارت / ثم حطت / ثم ضاعت في الدروب .زمكانية العنوان تحيلنا للمدينة حيث كانت مسرحا تدور فيه معظم الأحداث، اللهم إلا قصة واحدة، المدينة بقانونها الصارم وعلاقاتها الاجتماعية المرتبكة والملتبسة حيث يتقزم الفرد داخل تلك الآلة الجهنمية . مدينة هى فى الغالب بلا قلب ومازلت اقتبس من حجازى. أما انتصاف الليل فيوحى بلحظة التغير والتبدل، لعلنا نذكر حكاية سندريلا لشارل بيرو أو الأخوان جريم حيث كانت دقات انتصاف الليل هو موعد عودة سندريلا وإلا غادرها السحر. لكن فيه أيضا نوع من القدرية، عبر عنها بامتياز جوته فى فاوست، حيث استدعى الشيطان مفستوفيليس ليبرم معه عقداً يقضي بأن يقوم بخدمته طوال حياته ليستولي على روحه بعد مماته، لكن الاستيلاء على روح فاوست مشروط ببلوغه قمة السعادة. مع انتصاف ليل المدينة هل سيهرب الأبطال من اللعنة ام يتحررون منها؟ العتبة الثانية هى الإهداء " إلى روح الأسلاف فى الجنوب الى جرانيت الناس الأشداء حيث باحت المعابد القديمة ببعض أسرارها" حيث تحفل المجموعة بالعمال والحرفيين وصغار الموظفين.كذلك يختار الكاتب تناصا لبورخيس من ديوان "نمور الحلم" : وردةٌ لا تفنى خلفَ شعرِي ،وردةٌ كاملةٌ شذِيّةٌ، وردةٌ بحديقةٍ سوداءَ من عُمقِ ليلتي."نلاحظ أن هناك إذن ثالوث سيتحرك فيه الأبطال :المدينة واللحظة الفارقة ودائما الكلمة حيث كان البطل فى الكثير من قصص المجموعة شاعرا او كاتبا يبحث دائما عن تلك الوردة عزيزة المنال.وعندما نقرأ المجموعة نجد ان النصوص تتحرك فى عدة دوائر يلفت نظرنا منها:موت الأب:علاقة الفرد بالأب كما نعرف هي علاقة مزدوجة ومعقدة، فمن ناحية يصبح قتل الأب هي محاولة للتخلص منه، و احتلال مكانه باعتباره منافساً له، و الاستحواذ الكلّي على الأم، ومن ناحية أخرى يمثل الحنين و الحب تجاه الأب المغدور، هكذا يعيش الفرد في حالة صراع دائم ( على مستوى الأنا العليا)، وفي حالة تقمص للشخصية الأبوية، يحبه، و يتمنى إبعاده. و عندما يُدرك الفرد، في سنّ معين أن عملية إقصاء الأب، باعتباره منافساً و ندّاً، يعاقب عليها بالاخصاء أو بفقدان الذكورة، ( الدّورالسلطوي للأب في المجتمع البطريركي)، يتخلى عن هذه الرغبة، على الأقل في عقله الواعي، لكنها تبقى في لا وعيه، مصدراً للإحساس بالذنب،.أما غياب الأب أو موته بيولوجيا فيمثل نوعا من الفقد يبدو فى عين الطفل فقدانا غير مبرر لكائن كلى القدرة وعامود خيمة عالمه، وهى صورة لاتنى تظهر بشكل ما فى الأدب، ألم تكن صورة الأب القوي هي المحور المركزي في رواية "أولاد حارتنا"، حيث الأب جبلاوي هو الممثل الكنائي لله تعالى. بصفة عامة هناك نوع من الاهتمام بصورة الأب حاضرا أو غائبا فى روايات نجيب محفوظ، حيث نجد الأب إما ميتا كما فى بداية ونهاية، و السراب، أو عاجزا عن أداء واجباته ومسئولياته تجاه ابنه ، كما فى القاهرة الجديدة، وفى الحاتين يلعب ذلك دورا هاما فى مصير الأبطال. ومع سمير الفيل نجد إلحاحا على موت الأب نذكر على سبيل المثال لا الحصر قصة "الساتر" وقصة "الله يرحمه" أو غائبا فى " بقعة للضوء".والأمر جدير باهتمامنا لسببين، أولهما أن سمير الفيل يكتب عن مجتمع يسوده النظام الأبوي – كان ممثلا فى أقصى صوره فى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى- ولذا يصبح لغياب الاب تأثيرا بالغا وتداعيات كثيرة، والسبب الثاني أن تكرار هذه الظاهرة بصور مختلفة يوحي بأن المؤلف يُعنَى بشكل خاص بهذا الموضوع . المسألة تتعدى إذن مجرد الالحاح على قسوة الظروف الاقتصادية للأبطال حين ينشئون أيتاما .والبطل الطفل ،ليس كما فى الحواديت، يخرج لمواجهة العالم تاركا دفء الأسرة ويخرج فتهب لنجدته الجنيات ويفوز بقلب ابنة السلطان. إنه يخرج ليواجه مجتمعا شرسا ماديا، دون أى سند مادى أو معنوى، مما يعجل بشعوره بالمسئولية ويعجل أيضا بعذاباته وسرعة وداعه لطفولته .فى قصة "الساتر" الذى أقيم أمام البيت أثناء الحرب تتكرر المفردة اربع عشرة مرة. إن الجد يرفض بعد استشهاد الأب هدم الساتر حيث أن الحرب لم تنته مع العدو، وحين يسمع عن مزيد من القتل " ضرب طائرات اسرائيل لبيروت ومصرع عشرات الأطفال والنساء" يحكى لحفيده حكاية الأسد والبقرات الثلاث مصمما أن " الساتر لازم يفضل الحرب ماانتهتش". وبوفاة الجد يتم هدم الساتر، فيقول الحفيد" غلبنى البكاء وقدمى تطأ بقايا من الساتر" حسب مقولة الكاتب كتبت معظم نصوص المجموعة فى نهاية السبعينات والكاتب كما هو واضح ضد فكرة التصالح مع العدو فالسلطة أو الدولة تريد هدم الساتر وكأنه معادل موضوعى للكفاح والجهاد. فى حين أن الجد وهو هنا شخصية يتم استدعاؤها وتحميلها بعد غياب الأب بميراث حكمة الأجداد واستشراف المستقبل الذى يدق ناقوس الخطر، فيقف دون هدم الساتر والركون للاستسلام بل تنتهى حياته لحظة هدمه.البطل المثقف والبطل الفاعل:يقابلنا فى المجموعة نوعان من الأبطال :تتحقق المتعة والصدق عادة مع البطل العادى، أما البطل المثقف المأزوم المشغول بمطاردة القصة والقصيدة والمعارض السياسى فهو تكرار لوجه واحد ويكاد الأبطال يتشابهون، بل تتشابه القصص نفسها وتكاد تكون اعادة انتاج لنص آخر كما فى قصص "متتاليات حزينة"،"اللحظة المناسبة" ، "بيت جدتى". لكن أجمل الشخوص هو ذلك البطل الصغير الذى يجيد الفيل رسمه - ربما لواقع انسانى مشابه لسمير الفيل الطفل- الذى فقد والده مبكرا وذاق اليتم والعمل فى ظروف غير انسانية . كما أن الكاتب يزج ببطله الصغير أحيانا فى قصة حب بريئة ساذجة - سيطور هذ البطل فى مجموعات أخرى ويجعله فريسة قصة حب يائسة مع فتاة تكبره، فلا تملك فى كل الأحوال سوى التعاطف معه.فى قصة "الله يرحمه" يفقد الطفل الذى مات أبوه تعاطف الجيران تدريجيا، حتى نصل إلى "الله يرحمه ماعرفش يربي" . إنه يترك اللعب ويصبح مضطرا للعمل، يدوخ فى المشاوير دون تعلم صنعة، ويتخلى عن لعب الكرة، وأخيرا يطرد من عمله لمجرد أنه ضحك فى حضرة الأسطى . ولأن كل رأسمالية هى بلا قلب فقد أجاد الكتب رسم ذلك، متحيزا بوضوح للفقراء والمستضعفين. انطلاقا من موقفه السياسى كيسارى كما تشى بذلك الكثير من النصوص. كذلك هناك نوع من الخبث الفنى الذ يجعل الكاتب يفتح أحيانا مجالا للتأويل ويمثل المسكوت عنه لحظتها مساحة لمخيلة القارىء فى تعميق صورة الشخصية . هل تلك الأم التى ترجو بدلال الأسطى الفناجيلى أن يعلم ابنها الصنعة وهى (تحبك الملاءة حول وسطها ) تفعل ذلك رغبة منها فى الاحتشام؟ الصورة ثنائية الدلالة ..عن نفسى أشك فى ذلك، ولكن حبك الملاءة من شأنه أن يبرز تفاصيل الجسد. أم شابة لولد وحيد هل هذا مجرد دلال ورشوة أنثوية أم باب موارب؟ لعلها رغبة لحظية فى الاحساس بسلطة او الرضوخ لمطالب ذلك الجسد. النص لايقطع بهذا أو ذاك لكنه يفتح مساحة للتفكير لأول مرة فى تلك الأم وفى أزمتها هى الأخرى.فى قصص الرمز أو الفكرة لانجد نفس توهج سمير الفيل، لقد كانت الخبرة الحياتية والإنسانية حين يتحدث عما خبره بحق من فقد الأب والعمل فى سن مبكر والاغتراب والحرب تجعل قصص النوع الأول أفضل من وجهة نظرنا المتواضعة .إلا أننا احقاقا للحق نجد الشاعرية وارتفاع مستوى الأداء اللغوى مبررا حين تكون أنا النص هى أنا شاعر أو كاتب فتصبح تلك الفصاحة مبررة فنيا. أما حين يعير شخوصه العادية نفس رؤاه للعالم تبدو نوعا من الفشل غير المبرر فنيا.- لغة الحوار :رغم ان السرد جاء سلسا ويكاد يقترب من السرد الشفاهى حيث هناك ميل واضح للجملة الاسمية وبداية الجملة بالفاعل وليس بالفعل واستخدام ثيمة التكرار ومحاولة تفصيح كلمات عامية نجد ان معظم الحوارات جاءت بلغة فصيحة، ولم يستعمل الكاتب وهو شاعر عامية تلك اللغة التى كان من شأنها أن تثرى النص وتفتح أبوابا -سواء بالأغنيات بالأمثال أو العديد- لتلك المنطقة ذات الامكانات سحرية وإذا كانت الأحلام هى الباب الملكى للاشعور بكل كنوزه وأسراره كما يقول فرويد فقد توقفت عند هذه الملاحظة. خاصة ان هناك بعض المناطق فى النص كانت تغرى بذلك: مشلا مشهد البومة فى قصة "حكاية من الزمن الردىء" يقول على لسان البطلة" نعقت بومة... تشاءمت أمى وصممت أن أخلع ملابسى الداخلية فى التو، وأعيد ارتداءها مقلوبة، ثم أتت بالأحذية والصنادل والشباشب فقلبتها وراحت شفتاها تتمتمان اللهم اجعله خيرا".لكن جملا مثل :"تأخرت قسرا؟ أو هل تظنين زوجك مأفونا؟ أجاء يطلب نارا أم ترى جاء يشعل البيت نارا؟ قد يجدها البعض نتوءا فى النص، علما أن الفصحى نفسها تملك مستويات فى الاداء اللغوى ولديها طاقات تعبيرية متفاوتة المستويات. واعتقد أن القصص التى لجأ فيها للحوار العامى جاءت من وجهة نظرى أكثر توفيقا وأكثر ثراء دلاليا، وأكثر تعبيرا عن نفسية وواقع الأبطال مثلا حديث الطفل بلغة طفولية تتناسب مع برائته" ادينى صاغ .طيب بلاش..كفاية جنيه".4-التفاصيل:تلك التفاصيل التى تسهم فى تعميق أزمة الشخوص التى تعطى مصداقية على زمكانية الحكى، التفاصيل التى تشىء بنفوس وثقافة والظروف المعيشية لا للبطل فقط ولكن لعصر السادات بكامله. التفاصيل التى يسخرها ويشحذ دلالتها لتصرخ بسخرية عميقة للكاتب وبحس نقدى يقف ضد السائد والمألوف. تفاصيل قادرة على رسم المفارقات الصارخة، وأحيانا هى تفاصيل تدخل فى ما يجوز تسميته بمتعة الحكى لدى الكاتب الذى يستعذبها القارئ والتى تمارس عليه نوعا من الرقى والتعازيم او التعاويذ الى يجعله يسلم نفسه للكاتب. لنتأمل بعضا من تفاصيله فى قصة " الصفعة" يقول" عاد مجهدا يحمل قرطاس البرتقال أبو صرة وحزمة الفجل، فتحت تفيدة الباب، وحملت عنه أكياسه ، لمحت بغتة حزنه الأسيان، عللت الأمر بالإجهاد وحين حدقت فى يده اليمنى، رأت آثار الطباشير فعرفت أنه خارج لتوه من المدرسة، وذهبت بلفافة السمك المشوى، ووضعته فى الصاج وسخنت الماء فى الكنكة، وعصرت ليمونة كاملة على الماء، وأذابت الملح ثم قلبت الشبار ليتملح، وغرفت الأرز فى القارب الميلامين الأصفر، وعلى السفرة فردت جريدة الأمس..."كما أن هناك شغف بالتفاصيل التى تؤرخ لتلك الفترة – زمن الانفتاح: بورسعيد فى بداية عهدها كسوق حرة، مثلا استخدام كلمة بنطلون كاوبوى وليس جينز، الساعة الرقمية كنوع من الوجاهة، الآلات الحاسبة، والحقيبة السامسونايت، وأقلام الباركر. 5-لغة السرد:يتبنى سمير الفيل منطقا سرديا يكاد يكون روائيا فى عنايته بالتفاصيل واختيار أكثر من لحظة فارقة فى حياة شخصية أو عدة شخصيات وكأننا احيانا فى أجواء الف ليلة، بل يلجا لعناوين فرعية شبيهة: مثلا "حكاية النادل التى انتهت عندما حطمت الكوب" أو "حكاية الصديق فى الليلة التالية ليسرى عنه" لتسهم فى تشظى الحكى، وتفتيت اللحظة، بل إن لغته فى بنيتها تشبه لغة حكايات شهر زاد .مثلا فى حكاية النادل يقول " لكنه أطاعنى وحكى لى حكايته، فرأيت ان حاله من حالى، وأن بنى آدم إن لم تعظه الحكايات كان كالحجر الصوان الذى لاحس فيه ولا روح ، أو كالهواء الذى يتحرك ويحرك الأشياء، لكنك لاتستطيع أن تقبض عليه."وفى حكاية الصديق البستانى " اللهم اجعل كلامى خفيفا وحروفى من مسك وعنبر. الدنيا لايدوم صفاؤها، والأيام فى حركتها كالساقية القلابة، وأنا الوحيد فى هذا العالم الذى لاتفرحنى ضحكة فتاة ولايطربنى اطراء سيدة. جدى المسن ربانى على حكمة... خائب من كانت صناعته الحريم ومهموم من اهتم بالنساء"وإذا كانت شهر زاد هى افضل حكاءة فى التاريخ لأن سيف مسرور كان مسلطا على رقبتها، ولم تكن تملك رفاهية الخطأ أو تسلل الضجر إلى شهريار، يستطيع الفيل أن يكتب بنفس الخشية، ويستطيع دائما الهروب فى اللحظة المناسبة وإثارة شهية القارىء لمزيد من الحكى والتفاصيل دون أن يفلت منه القارىء. كانت بنية الجملة احيانا وكان تقسيم النص الى عناوين فرعية لخلق مشاهد قصصية أو ميتا قصة حيث تسلمنا الحكاية للأخرى احدى تقنياته، وأحيانا اللجوء لتلك التفاصيل التى تشبه نثارا سحريا يلقيه فوق رؤوسنا فيخدر مشاعرنا.كانت الشاعرية أيضا ملمحا فى سرد الكاتب وليس هذا بغريب على شاعر متحقق، لكن بكل أسف نظرا لقلة خبرة الكاتب – وقت انتاج النصوص- رغم موهبته كحكاء فى السرد الدرامى اعتمد السرد على شعرية لا شاعرية الأداء اللغوى فجاء عبئا على النص. مثلا عندما يتحدث عن امرأة رحل عنها زوجها للعمل فى الخليج يقول " تخمش الليل بأظافرها.. الظلمة تمددت وراحت تنهش انتظارها" وهكذا تقوده اللغة ولايقودها . 6-الاغتراب:هناك اغتراب للذات عن الموضوع فى معظم النصوص ، وتتأزم علاقتها بالعالم، فلا يفهمها اقرب الأقربين وتعيش فى جزيرة معزولة رغم كونها لم تغادر المكان ومازالت تحيط بها نفس شبكة العلاقات القديمة، العاشقون الذين تخلت عنهم الحبيبة، أو العكس، لكن الكاتب يجعل الاغتراب بعد ذلك حقيقيا مئة بالمئة حيث غالبا ماتسافر الشخصيات تحت وطأة الفقر والفشل ماديا وعاطفيا للخليج، وكانت هذه من علامات فترة السبعينات تحديدا ولكن المشكلة أن الاغتراب لم يكن بمنطق الامام على بن أبى طالبغَرَّبْ عَنِ الأَوْطَانِ فِيْ طَلَبِ العُلَا وسافِرْ ففي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِـدِ تَفَرُّيجُ هَـمٍّ، واكتِسَـابُ مَعِيْشَـــــــةٍ وَعِلْمٌ ، وآدابٌ، وصُحْبَـةُ مَاجِـــدِبل تسبب السفر فى تحول الزوج لماكينة لعد النقود واللهاث وراء السيارة والفيديو فى حين أنه لم يكلف نفسه فى المكالمة عناء السؤال عن ابنه المريض الذى كاد ينسى صورته فى قصة "بقعة للضوء مساحة للظلال" وهاهو العمر يتفلت من بين يديه ويسقط البطل كجثة لحظة الوصول كما فى قصة "جثة".مابين الاستهلال والخاتمة:يبدأ الكاتب دائما قصصه من نقطة عالية وبعدها تأتى الشروح ويأتى الفلاش باك مبررا لتلك اللحظة التى فاجئنا بها سمير الفيل. وإن كنت أعيب على خاتمة قصة "الصفعة" التعجل والمفاجأة واستخدام حيلة البرقية التى يعلن فيها البطل استقالته، فى حين أن القصة لو انتهت برعب المدرس امام قبضة السلطة التى تهدده وتجبره على أن يعتذر لتلميذه الوقح، لتركت مساحة للقارىء وحرية فى التأويل لو انتهت على مشهد البطل وقد خرج يجر ساقين منهكتين دون اسباغ البطولة بشكل مفاجىء على تصرفه، لكنها بطولة باردة، جاءت مبتورة فى برقية، أو فى قصة "متتاليات حزينة" حيث يستمر الكاتب فيما نسميه مجازا مابعد الخاتمة وأرى أن هذا يضعف نصوصه. لقد انتهى النص بوصف الدمار النفسى الذى لحق بالبطل على يد السلطة، فالزوجة كانت موجودة دائما للتخفيف عنه ولمواساته ولكن تستمر السلطة فى التنكيل به ،والنهاية كانت ستكون رأينا المتواضع أجمل بتلك الجملة فى: "كان هذا قبل ان تهجره الزوجة"، فما الداعى إذن لمتتالية سردية أخرى يجنح فيها البطل/الكاتب لغنائية لم تقدم جديدا" ياحزن ارحل...الخ"،لكنه كان موفقا فى نهاية قصة "حكاية من الزمن الردىء" حيث تطل الزوجة الراحلة وهى تسخر من براجماتية الزوج الذى يودعها دامعا وهو يحسب مصاريف جنازتها. كذلك حين يغوص البطل فى وجوه الناس فى "اللحظة المناسبة" ليكتب قصصا حقيقية وهو مشتت بين آلاف من لحظات المعاناة فى حياة المصريين".ومن أعذب وأجمل النهايات هى قصة "الله يرحمه". إن وفاة الأب تجعل الطفل عرضة فى كل موقف، لمن يتهم الأب أو يتباكى عليه، وفى كل الأحوال تؤكد حجم فجيعة الولد وصعوبة مشواره فى الحياة وحده دون أب. فمن" الله يرحمه لو كان عايش ماكانش يبهدله كده" حتى النهاية حين يقول الأسطى السمج قبل أن يقطع عيشه " الله يرحمه ماعلمكش الأدب" جملة رغم مافيها من ادانة للأب إلا إنها تدل بحسم على وجوده القصير فى الحياة وأن القدر لم يمهله لتربية الطفل، وينتهى الأمر بالولد وقد صار هدفا لكل الطعان.وموقف الأم فى خاتمة "بقعة للضوء" التى تصبح بديلا عن الزوج فتصبح أما وأبا وتقول وهى تراهن على المستقبل وعلى الأمل وابنها المريض يشكو الظلام فتنجح بعد محاولات فى اشعال عود ثقاب ذو ضوء شحيح لكنها تؤكد "سيزداد نوره ياولدى." وفى القصة التى حملت اسم المجموعة "انتصاف ليل مدينة"، جاءت النهاية بالرهان على الثورة، وعلى الأطفال الذين حسب نبؤة قديمة لسمير الفيل سيأتون بالأمل، ولقد فعلوا.. سيخرجون فى انتفاضة الحجارة الأولى و الثانية، ثم خرجوا فى كل ميادين مصر وهم فى عمر الزهور للدفاع عن الأقصى، وأخيرا صاروا شباب وشهداء ثورة يناير، وورود ربيعنا العربى. وفى "جثة" نجدها تنتهى بالزوجة المشغولة بتفحص الأشياء ثم تكتشف أن الزوج قد سقط جثة هامدة ولم يمهله القدر الاستمتاع بتلك الأشياء وتركها وحيدة بين ركام من اشياء باردة وبلا حياة.ومع احترامى لروح المقاومة التى تتغلغل المجموعة تمنيت لو انتهت القصة الجميلة "الساتر" بموت الجد ولكن لحظة هد الساتر، حيث تصبح شخصية الجد لحظتها مشحونة بدلالات قوية. ان شخصية مصر وحكمة الأجداد مرهونة بالكفاح وعدم التخلى عن فضيلة الجهاد، لكن الخاتمة بجملة الطفل الذى يتساءل "هل يستطيع أن يبنى ساترا فى المستقبل؟ " جاء منطقها أعلى من منطق الشخصية، ومحاولة لأدلجة نص مؤدلج فعليا، فبدا الكاتب مصطنعا لنهايته. قد يجدها قارئ آخر برهانا وتوكيدا من الكاتب على قدرة الأجيال الجديدة على الثورة، واستكمال النضال، لكن النص الذى جاء بمنطق طفل، خان هذا المنطق واستمسلم لمنطق أنا الكاتب الثورى.التمرد والرفض:"لاتصالح" هو منطق قصة "الصفعة" حيث يرفض الأستاذ حسين الاعتذار لتلميذه أحد ابناء طبقة الأثرياء الجدد أو nouveaux riches وهم أثرياء مابعد الانفتاح الذين لم تكن لهم أصول برجوازية حقيقية تحمل منظومة قيمية ما، أو فى حدها الأدنى تقدر الفن أو الخير او الجمال. ويفضل فى نهاية القصة رغم ظروفه الخانقة تقديم استقالته. كما أن موقف الكاتب من المرأة فى ادانة القمع الذكورى والمجتمع البطريركى الذى يجعل المرأة مجرد لعبة جنسية يتم استغلالها بمنهجية يتضح فى قصة حكاية من الزمن الردىء فالزوج اختارها على سبيل حب الاقتناء على هذا حين تطلب العمل يصفعها قائلا: "انا رجل وانت امرأة" . وهناك حضور قابض للسلطة ممثلة فى الضابط والمخبر ومدير العمل. أما المجند فله حضوره الفعلى فى النص وكذلك حضوره الرمزى أو الأليجورى من خلال طيف محارب أو شهيدن بل ترفرف أرواح الجنود الشهداء على كل نصوص المجموعة بدءا من قصته الأولى "الساتر" الأب " وحتى الخال الشهيد فى آخر قصص المجموعة "بيت جدتى". نعود مرة أخرى لدلالة العنوان : فنقول إن مدينة/وطن سمير الفيل حين ركنت للصمت والخضوع وتجاهل العدوان الذى هدم "تلك البيوت على سكانها"، والمثقفون أو التكنوقراط الذين تغنوا بأغنية " وأنا مالى"، الرجال الذين "خلعوا بدلهم الصوفية الثمينة وارد يوركشير وعلقوها على المشاجب، وارتدوا بيجاماتهم الحريرية، وداعبوا زوجاتهم واستغرقوا فى أحلام لذيذة" فى انتصاف ليل مدينة. مرة أخرى نتذكر منطق أمل دنقل فى "أقوال جديدة عن حرب البسوس" لم يعودوا بفرسان- لا فى الحقيقة ولا فى الغرام - وواتتهم الوقاحة على النظر فى عيون النساء.لكن لم تتحقق لهم اية سعادة لقد تحولوا إلى زجاج مشروخ، داهمتهم الدانات التى كانوا يظنونها بعيدة، وتحولوا إلى ركام. ألا تشبه تلك المدينة فاوست فى تحالفه مع الشيطان؟ ياإلهى الشيطان هل هو أمريكا التى سولت توقيع معاهدة السلام فسرقت روح مصر ولم تمنحها تلك الرفاهية المزعومة أو الاستقرار المنشود؟ كانت اذن السبعينات لحظة فارقة منتصف ليل مثل لحظة فاوست.أخيرا نقول أن تلك المجموعة هى وليمة بحق، لكنها ليست منذورة أبدا لأعشاب البحر، إنها وليمة قصصية تحفل بالشخوص والمواقف الانسانية والتراكيب الانشائية والأبنية القصصية المغايرة والكثير الكثير من التفاصيل الحميمية التى تجعل من النص بامتياز وثيقة تاريخية واجتماعية وسياسية لمصر قبل اغتيال السادات. مصر الانفتاح بكل قسوتها على أبناءها. إنها تقدم لنا المسكوت عنه فى كتب التاريخ. يتوسل الفيل بتفاصيل ذات خصوصية اجتماعية ونفسية وسياسية نستطيع بها أن نفهم لا وقائع تلك الفترة من سبعينيات القرن المنصرم، بل ان نفهم نفسية شعب فى لحظة تاريخية حاول أن يسير به قادته نحو الهاوية، وهنا الفارق الحقيقى بين المؤرخ والفنان.
قراءة فى مجموعة انتصاف ليل مدينة لسمير الفيل
د/ أشرف حسن عبد الرحمن
لعل ما يلفت النظر فى تلك المجموعة الصغيرة المحتوية على اثنتى عشرة قصة والصادرة عن كتاب اتحاد الكتاب، هو احتفاء الكاتب بالتفاصيل ومنمنمات الحياة، وإذا كان الأسد هو مجموعة خراف مهضومة فالكاتب لديه القدرة من خلال الصور الجزئية على خلق دلالة كلية . يستطيع سمير الفيل تحقيق تلك المعادلة الصعبة من خلال تقنيات مختلفة متوسلا بلغة طيعة حميمة ومألوفة تتراوح مابين التراثية والحياتية تراهن اولا وأخيرا على متعة القارىء . ما يلفت النظر أيضا أنها المجموعة الأولى التى قدم سمير الفيل نفسه فيها كقاص وليس كشاعر عامية والغريب عدم التفات النقد اليها رغم خصوصيتها.عتبات النص:أول العتبات هى العنوان "انتصاف ليل مدينة" ولعل العنوان يذكرنا بقصيدة احمد عبد المعطى حجازى: أنا والمدينة، حين يقول: هذا أنا /وهذه مدينتي /عند انتصاف الليل/ رحابة الميدان / والجدران تل/ تبين ثم تختفي وراء تلّ/وريقة في الريح دارت / ثم حطت / ثم ضاعت في الدروب .زمكانية العنوان تحيلنا للمدينة حيث كانت مسرحا تدور فيه معظم الأحداث، اللهم إلا قصة واحدة، المدينة بقانونها الصارم وعلاقاتها الاجتماعية المرتبكة والملتبسة حيث يتقزم الفرد داخل تلك الآلة الجهنمية . مدينة هى فى الغالب بلا قلب ومازلت اقتبس من حجازى. أما انتصاف الليل فيوحى بلحظة التغير والتبدل، لعلنا نذكر حكاية سندريلا لشارل بيرو أو الأخوان جريم حيث كانت دقات انتصاف الليل هو موعد عودة سندريلا وإلا غادرها السحر. لكن فيه أيضا نوع من القدرية، عبر عنها بامتياز جوته فى فاوست، حيث استدعى الشيطان مفستوفيليس ليبرم معه عقداً يقضي بأن يقوم بخدمته طوال حياته ليستولي على روحه بعد مماته، لكن الاستيلاء على روح فاوست مشروط ببلوغه قمة السعادة. مع انتصاف ليل المدينة هل سيهرب الأبطال من اللعنة ام يتحررون منها؟ العتبة الثانية هى الإهداء " إلى روح الأسلاف فى الجنوب الى جرانيت الناس الأشداء حيث باحت المعابد القديمة ببعض أسرارها" حيث تحفل المجموعة بالعمال والحرفيين وصغار الموظفين.كذلك يختار الكاتب تناصا لبورخيس من ديوان "نمور الحلم" : وردةٌ لا تفنى خلفَ شعرِي ،وردةٌ كاملةٌ شذِيّةٌ، وردةٌ بحديقةٍ سوداءَ من عُمقِ ليلتي."نلاحظ أن هناك إذن ثالوث سيتحرك فيه الأبطال :المدينة واللحظة الفارقة ودائما الكلمة حيث كان البطل فى الكثير من قصص المجموعة شاعرا او كاتبا يبحث دائما عن تلك الوردة عزيزة المنال.وعندما نقرأ المجموعة نجد ان النصوص تتحرك فى عدة دوائر يلفت نظرنا منها:موت الأب:علاقة الفرد بالأب كما نعرف هي علاقة مزدوجة ومعقدة، فمن ناحية يصبح قتل الأب هي محاولة للتخلص منه، و احتلال مكانه باعتباره منافساً له، و الاستحواذ الكلّي على الأم، ومن ناحية أخرى يمثل الحنين و الحب تجاه الأب المغدور، هكذا يعيش الفرد في حالة صراع دائم ( على مستوى الأنا العليا)، وفي حالة تقمص للشخصية الأبوية، يحبه، و يتمنى إبعاده. و عندما يُدرك الفرد، في سنّ معين أن عملية إقصاء الأب، باعتباره منافساً و ندّاً، يعاقب عليها بالاخصاء أو بفقدان الذكورة، ( الدّورالسلطوي للأب في المجتمع البطريركي)، يتخلى عن هذه الرغبة، على الأقل في عقله الواعي، لكنها تبقى في لا وعيه، مصدراً للإحساس بالذنب،.أما غياب الأب أو موته بيولوجيا فيمثل نوعا من الفقد يبدو فى عين الطفل فقدانا غير مبرر لكائن كلى القدرة وعامود خيمة عالمه، وهى صورة لاتنى تظهر بشكل ما فى الأدب، ألم تكن صورة الأب القوي هي المحور المركزي في رواية "أولاد حارتنا"، حيث الأب جبلاوي هو الممثل الكنائي لله تعالى. بصفة عامة هناك نوع من الاهتمام بصورة الأب حاضرا أو غائبا فى روايات نجيب محفوظ، حيث نجد الأب إما ميتا كما فى بداية ونهاية، و السراب، أو عاجزا عن أداء واجباته ومسئولياته تجاه ابنه ، كما فى القاهرة الجديدة، وفى الحاتين يلعب ذلك دورا هاما فى مصير الأبطال. ومع سمير الفيل نجد إلحاحا على موت الأب نذكر على سبيل المثال لا الحصر قصة "الساتر" وقصة "الله يرحمه" أو غائبا فى " بقعة للضوء".والأمر جدير باهتمامنا لسببين، أولهما أن سمير الفيل يكتب عن مجتمع يسوده النظام الأبوي – كان ممثلا فى أقصى صوره فى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى- ولذا يصبح لغياب الاب تأثيرا بالغا وتداعيات كثيرة، والسبب الثاني أن تكرار هذه الظاهرة بصور مختلفة يوحي بأن المؤلف يُعنَى بشكل خاص بهذا الموضوع . المسألة تتعدى إذن مجرد الالحاح على قسوة الظروف الاقتصادية للأبطال حين ينشئون أيتاما .والبطل الطفل ،ليس كما فى الحواديت، يخرج لمواجهة العالم تاركا دفء الأسرة ويخرج فتهب لنجدته الجنيات ويفوز بقلب ابنة السلطان. إنه يخرج ليواجه مجتمعا شرسا ماديا، دون أى سند مادى أو معنوى، مما يعجل بشعوره بالمسئولية ويعجل أيضا بعذاباته وسرعة وداعه لطفولته .فى قصة "الساتر" الذى أقيم أمام البيت أثناء الحرب تتكرر المفردة اربع عشرة مرة. إن الجد يرفض بعد استشهاد الأب هدم الساتر حيث أن الحرب لم تنته مع العدو، وحين يسمع عن مزيد من القتل " ضرب طائرات اسرائيل لبيروت ومصرع عشرات الأطفال والنساء" يحكى لحفيده حكاية الأسد والبقرات الثلاث مصمما أن " الساتر لازم يفضل الحرب ماانتهتش". وبوفاة الجد يتم هدم الساتر، فيقول الحفيد" غلبنى البكاء وقدمى تطأ بقايا من الساتر" حسب مقولة الكاتب كتبت معظم نصوص المجموعة فى نهاية السبعينات والكاتب كما هو واضح ضد فكرة التصالح مع العدو فالسلطة أو الدولة تريد هدم الساتر وكأنه معادل موضوعى للكفاح والجهاد. فى حين أن الجد وهو هنا شخصية يتم استدعاؤها وتحميلها بعد غياب الأب بميراث حكمة الأجداد واستشراف المستقبل الذى يدق ناقوس الخطر، فيقف دون هدم الساتر والركون للاستسلام بل تنتهى حياته لحظة هدمه.البطل المثقف والبطل الفاعل:يقابلنا فى المجموعة نوعان من الأبطال :تتحقق المتعة والصدق عادة مع البطل العادى، أما البطل المثقف المأزوم المشغول بمطاردة القصة والقصيدة والمعارض السياسى فهو تكرار لوجه واحد ويكاد الأبطال يتشابهون، بل تتشابه القصص نفسها وتكاد تكون اعادة انتاج لنص آخر كما فى قصص "متتاليات حزينة"،"اللحظة المناسبة" ، "بيت جدتى". لكن أجمل الشخوص هو ذلك البطل الصغير الذى يجيد الفيل رسمه - ربما لواقع انسانى مشابه لسمير الفيل الطفل- الذى فقد والده مبكرا وذاق اليتم والعمل فى ظروف غير انسانية . كما أن الكاتب يزج ببطله الصغير أحيانا فى قصة حب بريئة ساذجة - سيطور هذ البطل فى مجموعات أخرى ويجعله فريسة قصة حب يائسة مع فتاة تكبره، فلا تملك فى كل الأحوال سوى التعاطف معه.فى قصة "الله يرحمه" يفقد الطفل الذى مات أبوه تعاطف الجيران تدريجيا، حتى نصل إلى "الله يرحمه ماعرفش يربي" . إنه يترك اللعب ويصبح مضطرا للعمل، يدوخ فى المشاوير دون تعلم صنعة، ويتخلى عن لعب الكرة، وأخيرا يطرد من عمله لمجرد أنه ضحك فى حضرة الأسطى . ولأن كل رأسمالية هى بلا قلب فقد أجاد الكتب رسم ذلك، متحيزا بوضوح للفقراء والمستضعفين. انطلاقا من موقفه السياسى كيسارى كما تشى بذلك الكثير من النصوص. كذلك هناك نوع من الخبث الفنى الذ يجعل الكاتب يفتح أحيانا مجالا للتأويل ويمثل المسكوت عنه لحظتها مساحة لمخيلة القارىء فى تعميق صورة الشخصية . هل تلك الأم التى ترجو بدلال الأسطى الفناجيلى أن يعلم ابنها الصنعة وهى (تحبك الملاءة حول وسطها ) تفعل ذلك رغبة منها فى الاحتشام؟ الصورة ثنائية الدلالة ..عن نفسى أشك فى ذلك، ولكن حبك الملاءة من شأنه أن يبرز تفاصيل الجسد. أم شابة لولد وحيد هل هذا مجرد دلال ورشوة أنثوية أم باب موارب؟ لعلها رغبة لحظية فى الاحساس بسلطة او الرضوخ لمطالب ذلك الجسد. النص لايقطع بهذا أو ذاك لكنه يفتح مساحة للتفكير لأول مرة فى تلك الأم وفى أزمتها هى الأخرى.فى قصص الرمز أو الفكرة لانجد نفس توهج سمير الفيل، لقد كانت الخبرة الحياتية والإنسانية حين يتحدث عما خبره بحق من فقد الأب والعمل فى سن مبكر والاغتراب والحرب تجعل قصص النوع الأول أفضل من وجهة نظرنا المتواضعة .إلا أننا احقاقا للحق نجد الشاعرية وارتفاع مستوى الأداء اللغوى مبررا حين تكون أنا النص هى أنا شاعر أو كاتب فتصبح تلك الفصاحة مبررة فنيا. أما حين يعير شخوصه العادية نفس رؤاه للعالم تبدو نوعا من الفشل غير المبرر فنيا.- لغة الحوار :رغم ان السرد جاء سلسا ويكاد يقترب من السرد الشفاهى حيث هناك ميل واضح للجملة الاسمية وبداية الجملة بالفاعل وليس بالفعل واستخدام ثيمة التكرار ومحاولة تفصيح كلمات عامية نجد ان معظم الحوارات جاءت بلغة فصيحة، ولم يستعمل الكاتب وهو شاعر عامية تلك اللغة التى كان من شأنها أن تثرى النص وتفتح أبوابا -سواء بالأغنيات بالأمثال أو العديد- لتلك المنطقة ذات الامكانات سحرية وإذا كانت الأحلام هى الباب الملكى للاشعور بكل كنوزه وأسراره كما يقول فرويد فقد توقفت عند هذه الملاحظة. خاصة ان هناك بعض المناطق فى النص كانت تغرى بذلك: مشلا مشهد البومة فى قصة "حكاية من الزمن الردىء" يقول على لسان البطلة" نعقت بومة... تشاءمت أمى وصممت أن أخلع ملابسى الداخلية فى التو، وأعيد ارتداءها مقلوبة، ثم أتت بالأحذية والصنادل والشباشب فقلبتها وراحت شفتاها تتمتمان اللهم اجعله خيرا".لكن جملا مثل :"تأخرت قسرا؟ أو هل تظنين زوجك مأفونا؟ أجاء يطلب نارا أم ترى جاء يشعل البيت نارا؟ قد يجدها البعض نتوءا فى النص، علما أن الفصحى نفسها تملك مستويات فى الاداء اللغوى ولديها طاقات تعبيرية متفاوتة المستويات. واعتقد أن القصص التى لجأ فيها للحوار العامى جاءت من وجهة نظرى أكثر توفيقا وأكثر ثراء دلاليا، وأكثر تعبيرا عن نفسية وواقع الأبطال مثلا حديث الطفل بلغة طفولية تتناسب مع برائته" ادينى صاغ .طيب بلاش..كفاية جنيه".4-التفاصيل:تلك التفاصيل التى تسهم فى تعميق أزمة الشخوص التى تعطى مصداقية على زمكانية الحكى، التفاصيل التى تشىء بنفوس وثقافة والظروف المعيشية لا للبطل فقط ولكن لعصر السادات بكامله. التفاصيل التى يسخرها ويشحذ دلالتها لتصرخ بسخرية عميقة للكاتب وبحس نقدى يقف ضد السائد والمألوف. تفاصيل قادرة على رسم المفارقات الصارخة، وأحيانا هى تفاصيل تدخل فى ما يجوز تسميته بمتعة الحكى لدى الكاتب الذى يستعذبها القارئ والتى تمارس عليه نوعا من الرقى والتعازيم او التعاويذ الى يجعله يسلم نفسه للكاتب. لنتأمل بعضا من تفاصيله فى قصة " الصفعة" يقول" عاد مجهدا يحمل قرطاس البرتقال أبو صرة وحزمة الفجل، فتحت تفيدة الباب، وحملت عنه أكياسه ، لمحت بغتة حزنه الأسيان، عللت الأمر بالإجهاد وحين حدقت فى يده اليمنى، رأت آثار الطباشير فعرفت أنه خارج لتوه من المدرسة، وذهبت بلفافة السمك المشوى، ووضعته فى الصاج وسخنت الماء فى الكنكة، وعصرت ليمونة كاملة على الماء، وأذابت الملح ثم قلبت الشبار ليتملح، وغرفت الأرز فى القارب الميلامين الأصفر، وعلى السفرة فردت جريدة الأمس..."كما أن هناك شغف بالتفاصيل التى تؤرخ لتلك الفترة – زمن الانفتاح: بورسعيد فى بداية عهدها كسوق حرة، مثلا استخدام كلمة بنطلون كاوبوى وليس جينز، الساعة الرقمية كنوع من الوجاهة، الآلات الحاسبة، والحقيبة السامسونايت، وأقلام الباركر. 5-لغة السرد:يتبنى سمير الفيل منطقا سرديا يكاد يكون روائيا فى عنايته بالتفاصيل واختيار أكثر من لحظة فارقة فى حياة شخصية أو عدة شخصيات وكأننا احيانا فى أجواء الف ليلة، بل يلجا لعناوين فرعية شبيهة: مثلا "حكاية النادل التى انتهت عندما حطمت الكوب" أو "حكاية الصديق فى الليلة التالية ليسرى عنه" لتسهم فى تشظى الحكى، وتفتيت اللحظة، بل إن لغته فى بنيتها تشبه لغة حكايات شهر زاد .مثلا فى حكاية النادل يقول " لكنه أطاعنى وحكى لى حكايته، فرأيت ان حاله من حالى، وأن بنى آدم إن لم تعظه الحكايات كان كالحجر الصوان الذى لاحس فيه ولا روح ، أو كالهواء الذى يتحرك ويحرك الأشياء، لكنك لاتستطيع أن تقبض عليه."وفى حكاية الصديق البستانى " اللهم اجعل كلامى خفيفا وحروفى من مسك وعنبر. الدنيا لايدوم صفاؤها، والأيام فى حركتها كالساقية القلابة، وأنا الوحيد فى هذا العالم الذى لاتفرحنى ضحكة فتاة ولايطربنى اطراء سيدة. جدى المسن ربانى على حكمة... خائب من كانت صناعته الحريم ومهموم من اهتم بالنساء"وإذا كانت شهر زاد هى افضل حكاءة فى التاريخ لأن سيف مسرور كان مسلطا على رقبتها، ولم تكن تملك رفاهية الخطأ أو تسلل الضجر إلى شهريار، يستطيع الفيل أن يكتب بنفس الخشية، ويستطيع دائما الهروب فى اللحظة المناسبة وإثارة شهية القارىء لمزيد من الحكى والتفاصيل دون أن يفلت منه القارىء. كانت بنية الجملة احيانا وكان تقسيم النص الى عناوين فرعية لخلق مشاهد قصصية أو ميتا قصة حيث تسلمنا الحكاية للأخرى احدى تقنياته، وأحيانا اللجوء لتلك التفاصيل التى تشبه نثارا سحريا يلقيه فوق رؤوسنا فيخدر مشاعرنا.كانت الشاعرية أيضا ملمحا فى سرد الكاتب وليس هذا بغريب على شاعر متحقق، لكن بكل أسف نظرا لقلة خبرة الكاتب – وقت انتاج النصوص- رغم موهبته كحكاء فى السرد الدرامى اعتمد السرد على شعرية لا شاعرية الأداء اللغوى فجاء عبئا على النص. مثلا عندما يتحدث عن امرأة رحل عنها زوجها للعمل فى الخليج يقول " تخمش الليل بأظافرها.. الظلمة تمددت وراحت تنهش انتظارها" وهكذا تقوده اللغة ولايقودها . 6-الاغتراب:هناك اغتراب للذات عن الموضوع فى معظم النصوص ، وتتأزم علاقتها بالعالم، فلا يفهمها اقرب الأقربين وتعيش فى جزيرة معزولة رغم كونها لم تغادر المكان ومازالت تحيط بها نفس شبكة العلاقات القديمة، العاشقون الذين تخلت عنهم الحبيبة، أو العكس، لكن الكاتب يجعل الاغتراب بعد ذلك حقيقيا مئة بالمئة حيث غالبا ماتسافر الشخصيات تحت وطأة الفقر والفشل ماديا وعاطفيا للخليج، وكانت هذه من علامات فترة السبعينات تحديدا ولكن المشكلة أن الاغتراب لم يكن بمنطق الامام على بن أبى طالبغَرَّبْ عَنِ الأَوْطَانِ فِيْ طَلَبِ العُلَا وسافِرْ ففي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِـدِ تَفَرُّيجُ هَـمٍّ، واكتِسَـابُ مَعِيْشَـــــــةٍ وَعِلْمٌ ، وآدابٌ، وصُحْبَـةُ مَاجِـــدِبل تسبب السفر فى تحول الزوج لماكينة لعد النقود واللهاث وراء السيارة والفيديو فى حين أنه لم يكلف نفسه فى المكالمة عناء السؤال عن ابنه المريض الذى كاد ينسى صورته فى قصة "بقعة للضوء مساحة للظلال" وهاهو العمر يتفلت من بين يديه ويسقط البطل كجثة لحظة الوصول كما فى قصة "جثة".مابين الاستهلال والخاتمة:يبدأ الكاتب دائما قصصه من نقطة عالية وبعدها تأتى الشروح ويأتى الفلاش باك مبررا لتلك اللحظة التى فاجئنا بها سمير الفيل. وإن كنت أعيب على خاتمة قصة "الصفعة" التعجل والمفاجأة واستخدام حيلة البرقية التى يعلن فيها البطل استقالته، فى حين أن القصة لو انتهت برعب المدرس امام قبضة السلطة التى تهدده وتجبره على أن يعتذر لتلميذه الوقح، لتركت مساحة للقارىء وحرية فى التأويل لو انتهت على مشهد البطل وقد خرج يجر ساقين منهكتين دون اسباغ البطولة بشكل مفاجىء على تصرفه، لكنها بطولة باردة، جاءت مبتورة فى برقية، أو فى قصة "متتاليات حزينة" حيث يستمر الكاتب فيما نسميه مجازا مابعد الخاتمة وأرى أن هذا يضعف نصوصه. لقد انتهى النص بوصف الدمار النفسى الذى لحق بالبطل على يد السلطة، فالزوجة كانت موجودة دائما للتخفيف عنه ولمواساته ولكن تستمر السلطة فى التنكيل به ،والنهاية كانت ستكون رأينا المتواضع أجمل بتلك الجملة فى: "كان هذا قبل ان تهجره الزوجة"، فما الداعى إذن لمتتالية سردية أخرى يجنح فيها البطل/الكاتب لغنائية لم تقدم جديدا" ياحزن ارحل...الخ"،لكنه كان موفقا فى نهاية قصة "حكاية من الزمن الردىء" حيث تطل الزوجة الراحلة وهى تسخر من براجماتية الزوج الذى يودعها دامعا وهو يحسب مصاريف جنازتها. كذلك حين يغوص البطل فى وجوه الناس فى "اللحظة المناسبة" ليكتب قصصا حقيقية وهو مشتت بين آلاف من لحظات المعاناة فى حياة المصريين".ومن أعذب وأجمل النهايات هى قصة "الله يرحمه". إن وفاة الأب تجعل الطفل عرضة فى كل موقف، لمن يتهم الأب أو يتباكى عليه، وفى كل الأحوال تؤكد حجم فجيعة الولد وصعوبة مشواره فى الحياة وحده دون أب. فمن" الله يرحمه لو كان عايش ماكانش يبهدله كده" حتى النهاية حين يقول الأسطى السمج قبل أن يقطع عيشه " الله يرحمه ماعلمكش الأدب" جملة رغم مافيها من ادانة للأب إلا إنها تدل بحسم على وجوده القصير فى الحياة وأن القدر لم يمهله لتربية الطفل، وينتهى الأمر بالولد وقد صار هدفا لكل الطعان.وموقف الأم فى خاتمة "بقعة للضوء" التى تصبح بديلا عن الزوج فتصبح أما وأبا وتقول وهى تراهن على المستقبل وعلى الأمل وابنها المريض يشكو الظلام فتنجح بعد محاولات فى اشعال عود ثقاب ذو ضوء شحيح لكنها تؤكد "سيزداد نوره ياولدى." وفى القصة التى حملت اسم المجموعة "انتصاف ليل مدينة"، جاءت النهاية بالرهان على الثورة، وعلى الأطفال الذين حسب نبؤة قديمة لسمير الفيل سيأتون بالأمل، ولقد فعلوا.. سيخرجون فى انتفاضة الحجارة الأولى و الثانية، ثم خرجوا فى كل ميادين مصر وهم فى عمر الزهور للدفاع عن الأقصى، وأخيرا صاروا شباب وشهداء ثورة يناير، وورود ربيعنا العربى. وفى "جثة" نجدها تنتهى بالزوجة المشغولة بتفحص الأشياء ثم تكتشف أن الزوج قد سقط جثة هامدة ولم يمهله القدر الاستمتاع بتلك الأشياء وتركها وحيدة بين ركام من اشياء باردة وبلا حياة.ومع احترامى لروح المقاومة التى تتغلغل المجموعة تمنيت لو انتهت القصة الجميلة "الساتر" بموت الجد ولكن لحظة هد الساتر، حيث تصبح شخصية الجد لحظتها مشحونة بدلالات قوية. ان شخصية مصر وحكمة الأجداد مرهونة بالكفاح وعدم التخلى عن فضيلة الجهاد، لكن الخاتمة بجملة الطفل الذى يتساءل "هل يستطيع أن يبنى ساترا فى المستقبل؟ " جاء منطقها أعلى من منطق الشخصية، ومحاولة لأدلجة نص مؤدلج فعليا، فبدا الكاتب مصطنعا لنهايته. قد يجدها قارئ آخر برهانا وتوكيدا من الكاتب على قدرة الأجيال الجديدة على الثورة، واستكمال النضال، لكن النص الذى جاء بمنطق طفل، خان هذا المنطق واستمسلم لمنطق أنا الكاتب الثورى.التمرد والرفض:"لاتصالح" هو منطق قصة "الصفعة" حيث يرفض الأستاذ حسين الاعتذار لتلميذه أحد ابناء طبقة الأثرياء الجدد أو nouveaux riches وهم أثرياء مابعد الانفتاح الذين لم تكن لهم أصول برجوازية حقيقية تحمل منظومة قيمية ما، أو فى حدها الأدنى تقدر الفن أو الخير او الجمال. ويفضل فى نهاية القصة رغم ظروفه الخانقة تقديم استقالته. كما أن موقف الكاتب من المرأة فى ادانة القمع الذكورى والمجتمع البطريركى الذى يجعل المرأة مجرد لعبة جنسية يتم استغلالها بمنهجية يتضح فى قصة حكاية من الزمن الردىء فالزوج اختارها على سبيل حب الاقتناء على هذا حين تطلب العمل يصفعها قائلا: "انا رجل وانت امرأة" . وهناك حضور قابض للسلطة ممثلة فى الضابط والمخبر ومدير العمل. أما المجند فله حضوره الفعلى فى النص وكذلك حضوره الرمزى أو الأليجورى من خلال طيف محارب أو شهيدن بل ترفرف أرواح الجنود الشهداء على كل نصوص المجموعة بدءا من قصته الأولى "الساتر" الأب " وحتى الخال الشهيد فى آخر قصص المجموعة "بيت جدتى". نعود مرة أخرى لدلالة العنوان : فنقول إن مدينة/وطن سمير الفيل حين ركنت للصمت والخضوع وتجاهل العدوان الذى هدم "تلك البيوت على سكانها"، والمثقفون أو التكنوقراط الذين تغنوا بأغنية " وأنا مالى"، الرجال الذين "خلعوا بدلهم الصوفية الثمينة وارد يوركشير وعلقوها على المشاجب، وارتدوا بيجاماتهم الحريرية، وداعبوا زوجاتهم واستغرقوا فى أحلام لذيذة" فى انتصاف ليل مدينة. مرة أخرى نتذكر منطق أمل دنقل فى "أقوال جديدة عن حرب البسوس" لم يعودوا بفرسان- لا فى الحقيقة ولا فى الغرام - وواتتهم الوقاحة على النظر فى عيون النساء.لكن لم تتحقق لهم اية سعادة لقد تحولوا إلى زجاج مشروخ، داهمتهم الدانات التى كانوا يظنونها بعيدة، وتحولوا إلى ركام. ألا تشبه تلك المدينة فاوست فى تحالفه مع الشيطان؟ ياإلهى الشيطان هل هو أمريكا التى سولت توقيع معاهدة السلام فسرقت روح مصر ولم تمنحها تلك الرفاهية المزعومة أو الاستقرار المنشود؟ كانت اذن السبعينات لحظة فارقة منتصف ليل مثل لحظة فاوست.أخيرا نقول أن تلك المجموعة هى وليمة بحق، لكنها ليست منذورة أبدا لأعشاب البحر، إنها وليمة قصصية تحفل بالشخوص والمواقف الانسانية والتراكيب الانشائية والأبنية القصصية المغايرة والكثير الكثير من التفاصيل الحميمية التى تجعل من النص بامتياز وثيقة تاريخية واجتماعية وسياسية لمصر قبل اغتيال السادات. مصر الانفتاح بكل قسوتها على أبناءها. إنها تقدم لنا المسكوت عنه فى كتب التاريخ. يتوسل الفيل بتفاصيل ذات خصوصية اجتماعية ونفسية وسياسية نستطيع بها أن نفهم لا وقائع تلك الفترة من سبعينيات القرن المنصرم، بل ان نفهم نفسية شعب فى لحظة تاريخية حاول أن يسير به قادته نحو الهاوية، وهنا الفارق الحقيقى بين المؤرخ والفنان.