الشاعر إبراهيم المصري
" الشعر موجود في حياتي كالماء"
حاوره الشاعر السوري محمد صالح
مقدمة :
نعم ، هذا هو الشاعر وهذا هو الشعر .
إبراهيم المصري يعيش بالشعر والشعر بالنسبة له دم وماء وعلامة كما لو أنه يولد من ماء الشعر في كل لحظة أو كما لون أن الشعر ماء يتدفق منه كما لو كان نبعا .
الشعر هو طريقته في العيش والتفكير والرؤية وربما في السمع والشم واللمس .
يعيش به ويكتبه كل يوم وهو طازج في ما يكتب ويقول ، جديد وطازج دائما .
يكتب الشعر برئة كاملة وقلب ذكي وبداهة ورشاقة أصيلتين ، يكتبه بدم اللحظة ويلقي به إلى الحياة فيمتزج بها ويزيد من نسبة الأكسجين بها .
شاعر قادم من الحياة دائما ومما يلمس وهو منشبك بها على نحو مدهش يعطيها قلبه كاملا وتعطيه يدها كاملة وخضراء .
هكذا يبدو لي إبراهيم المصري في شخصه وفي شعره وفي حياته وهكذا وجدته في هذا الحوار الذي دار بيننا هنا على مدار أيام كثيرة وأيام
و قد اخترت أن أبدأ الحوار بإحدى قصائده:-
لم يكن الهواءُ اكتشافاً
في حياةِ الإنسان
إلَّا بعدَ اختراعِه لقصَباتِ العزفِ المثقوبة
وللأوتارِ بدفعِها لذبذباتٍ من العدم
إلى النوتةِ الموسيقية
حينها فقط
أصبحُ الهواءُ معدناً ثميناً ونادراً
تُبنى له دورُ الأوبرا الضخمة
ويتأنقُ من أجلِ حضورِ حفلاتِه الرجالُ والنساء
ويُرفَعُ به الموسيقونَ عالياً
مؤلفينَ وعازفين وصانعي آلاتٍ موسيقية
من الوترياتِ بنزفهِا الهارموني
إلى آلاتِ النفخِ النحاسيَّةِ بامتحانِها للجياد
أن تركضَ في البرق
إلى الطبولِ التي تعملُ في ضبطِ إيقاعِ القَدَر
وكأنَّ الحياةَ مشيئةً جارفةً والموتَ كذلك
وسوف نحبُّ الموسيقى
كما لو كانت الرَّحمَ الأرحمَ لأرواحِنا
مأخوذينَ بالهواءِ بالطبع
وقد أصبحَ سُلَّماً موسيقياً
نصعدُ به إلى ابتكارِ العاطفة
وكنتُ أودُّ أن أقدمَ هنا تحيةً خاصةً لبيتهوفن
أو لموتسارت أو لخاتشودريان
أو لعازفِ الناي في قريةٍ تبكي ليلاً
قبل نومِها على أن أنفاسَه
تخرجُ من هذا الثقبِ وتدخلُ في ثقبٍ آخر
بتوالي أصابَعه المتمرسةِ في جلبِ الألم
ومن الكياسةِ أيضاً
أن نقدمَ التحيَّةَ لأصحاب موسيقى الجاز
والغجرَ الذين ينامونَ دائماً على جيتاراتهم
وإلى عازفِ أكورديون
يعرفُ أكثرَ من غيره
كيف يكونُ الهواءُ افقياً
ويصعدُ رأسيَّاً في النشوةِ بمرونةِ الذراعين
إنَّه يحضنُ الهواءَ أكثرَ من غيرِه وقد أوليتَه أنا
محبةً خاصة
كما أُولي محبةً خاصةً للهواء
حين يتحوَّلُ إلى موسيقى.
الحوار:-
سأفترض الآن أنك تقف مع الشعر في مكان ما وأنني ألتقيكما معا دون موعد وأن الشعر سيعرفني عليك، ماذا تتوقع أن يقول الشعر في تعريفه وتقديمه لإبراهيم المصري؟
سيقول ما قلته أنا:
ـ "لم أسبقْ يدي ولم تسبقني حين مَدَّ الشِّعرُ يدَه انكفأتُ بوجهي في يدِه." لأنه وإن التقيت أنا والشعر في مكان ما، فإن الأمر هو كذلك بالنسبة لي "انكفاء في يد الشعر" قراءةً وكتابة.
أسألك عن الكلمات الأولى، عن الطفولة، الزمان الأول، المكان الأول، البيت، ما هو التأثير الذي لا يُنسى الذي تلقاه الشاعر من هناك وكيف كان؟
ـ لم يحدث أن كنت مشغولاً بالأثر والمعاني إن جاز التعبير، وعلى سبيل المثال، لا أنظر للطفولة على أنها "فردوس شخصي مفقود" وعلى ما كان فيها كذلك من فقر، لم يحدث أن نظرت إلى ذلك كنُدبة في النفس والحياة، وبما أنني في طفولتي وصباي وشبابي تنقلت بين أكثر من مكان في مصر، من محافظة المنوفية حيث وُلدت إلى مديرية التحرير.. أحد مشاريع جمال عبد الناصر لتعمير الصحراء وزراعتها في الستينيات من القرن الماضي.. إلى قرية محلة مرحوم القريبة من مدينة طنطا ثم إلى مدينة الإسكندرية، ثم إلى الاغتراب عن مصر، فإن المكان عابر في ذاكرتي وإن كنت أحتفظ للإسكندرية بالذات بحنين شديد، كما أن الزمان لم يكن حاملَ أحداثٍ على ما مررت في الحياة من أحداث، وإنما كان حامل حياة، هي في نظري عبور إنسانٍ ما على هذه الأرض، ولذلك قد تجد أن الإنسان بما هو متحرك في الحياة هو في الغالب مناط ما أكتب من شعر، أو بعبارة أخرى أنا معنى بالإنسان، الذي هو أنا وغيري بالطبع، حتى أنني حينما أزور بلداً فإن ما يعنيني هو الإنسان أكثر من الأماكن في هذا البلد أو ذاك. وإجمالاً فإن التأثير الذي لا زلت أعيش به حتى اليوم هو "الكّد" وقد يكون هذا غريباً بالنظر إلى المفاهيم الكبرى التي يتحدث عنها الشعراء في الغالب، إنما الكد أو الكدح إن شئت هو ما حملته معي من الأمكنة الأولى والأزمنة الأولي ولا أزال حتى اللحظة إنساناً كادحاً.
لماذا الحنين إلى الإسكندرية ، لماذا خصصتها وحدها، ماذا تعني لك؟
ـ الإسكندرية رأيتها لأول مرة في حياتي صيف عام 1973، كان عمري حينها 16 عاماً وحينما رأيت البحر لأول مرة، كان ثمة ما استحوذ كُليَّاً على نفسي، حتى أنني إلى هذه اللحظة لا أعرف كيف يمكنني العيش في مدينة غير ساحلية، حتى ولو لم أكن أسكن على البحر مباشرة، فإن الشعور برئة هائلة هو ما يمسني أكثر من أي شيء آخر، وبيتي الآن في مصر في الإسكندرية قريباً من البحر، بحيث يمكنني الذهاب إليه مشياً على قدمي، وبالرغم من أنني قبل رؤيتي للإسكندرية وانتقالي مع الأسرة إليها عام 1974 كنت على صلة بالقراءة إلَّا أن الإسكندرية وفرت شيئاً مختلفاً في المكتبات وخاصة مكتبة الهيئة المصرية العامة للكتاب، وطوال خمس سنوات وحتى سفري من مصر مغترباً قدمت لي الإسكندرية فرص قراءة ثمينة قياساً بذلك الزمن ويكفي هنا أن أقول إن أول كتب لشعراء ألمسها بيدي وأقتنيها كانت في الإسكندرية لأمل دنقل وبدر شاكر السياب ومحمد الجيار ونزار قباني وغيرهم.. لأقل باختصار الإسكندرية بالنسبة لي هي "رحابة البحر ورحابة المعرفة"
"الكد" و"الكدح" هذا هو أسلوبك في الحياة وهذه علامتك، سأنقل سؤال التأثير إلى الضفة الثانية: كيف يكشف الشاعر عن تأثيره في الحياة في شعره وفي شخصه خصوصا وانك تجمع بين الشعر والصحافة؟
ـ هذا السؤال في رأيي له قسمان، القسم الأول يتصل بالكد أو الكدح، وهو بالفعل أسلوبي في الحياة، أو ما أعطته لي الحياة، فأنا أعمل منذ طفولتي ولا زلت أعمل بالرغم من وصولي إلى سن 63، وهذا بديهي في حياة إنسان لم يكن ثمة ما يعتمد عليه في حياته سوى عمله وكدحه فيها، القسم الثاني من السؤال في علاقة الشعر بالصحافة، أو بالإعلام التلفزيوني تحديداً أجبت عليه قبل سنوات قائلاً إن عملي التلفزيوني في انعكاسه على شعري، أتاح لي أولاً رؤية مآسي البشر بشكل مباشر في الحروب والنزاعات، أي جعلني على تماس مباشر بالألم الإنساني في أقسى تجلياته، كما انعكس العمل التلفزيوني على فهمي للصورة الشعرية التي هي مونتاج أو تركيب من الاختزال إلى الإطار العام للمشهد أو للقصيدة.
نعم، تجربتك في الحياة تخصك كثيراً وهكذا هي تجربتك في الكتابة، لا أراك تشبه أحداً، هكذا أنت مع الحياة والشعر واحداً وحيداً وبدون أسلاف، من أين يأتي كل هذا التفرد، هذا الإختلاف؟
ـ إن كان ثمة تفرد أو اختلاف، فهو زاوية النظر التي أقف فيها تجاه نفسي والبشر والحياة والشعر والمعرفة، وشخصياً لا أرفض الأسلاف، ولكن لهم زمنهم ولي زمني، والكتابة في رأيي هي "استئناف" ليس بمعنى التكرار أو التقليد وإنما بمعنى الإضافة ومواجهة الماضي في الوقت ذاته، كما أنني لا أنظر إلى نفسي بتخاذل أمام السابقين، هم شعراء وأنا شاعر، هم قالوا وأنا أقول، هم أضافوا وأنا أضيف، إنها الأمانة في أن تكون قادراً على مساحتك الخاصة من الجمال أو الشعر، ولا يمكنني أن أقول إلى مدى نجحت أو فشلت، لكنني لا أريد أن أشبه إلَّا نفسي، وحتى داخل الإطار الكتابي لي، أكتب بأكثر من أسلوب وبوسع قارئ أن يرى ذلك واضحاً في الفرق بين كتاب "الزَّهرودِّيَّة" وبين كتاب "الديوان العراقي" وبين كتاب "الوعي الوجود" أو كتاب "الشعرُ كائنٌ بلا عمل" وإن كان ثمة اختلاف كذلك فإنه راجع إلى سبب آخر هو "وعي القراءة" إن جاز التعبير، فأنا مثلاً لا أستسلم للكتب التي أقرؤها إبداعية كانت أو فكرية أو فلسفية، وإنما أقيم حواراً معها، وربما لهذا تجد سياقاً نقدياً في ما أكتبه بعيداً عن الشعر، في الفيسبوك مثلاً عن قضايا مختلفة، وأمرٌ آخر يخص القراءة، وهو أنني لا أحصر قراءتي في الكتب الإبداعية، وإنما كنت ولا أزال أقرأ في إطار معرفي أوسع من الشعر إلى الاقتصاد إلى الفيزياء النظرية.
قبل أن نبتعد، أود أن أسمعك وأنت تتحدث عن اللغة، علاقتك بها، قربك منها، كيف تحب أن تتحدث عن اللغة في الحياة وفي الشعر، مَن منكما يتحدث من خلال الآخر، أنت أم اللغة، أما أنكما تتحدثان معاً؟
ـ لنقل أولاً إنَّ اللغة هي الإنسان أو العكس الإنسان هو اللغة، واللغة بالنسبة لي ليست فقط وسيلة تواصل أو ميداناً إبداعياً ومعرفياً، إنها ضوء أراه دائماً بعيداً وأسعى إليه، وأود دائماً أن أكون مرئياً باللغة في لطف إبداعها وجمالها، وللغة العربية مكانة خاصة في نفسي، ليس لأنني أكتب بها أو لأنها لغتي بوصفي مصرياً عربياً، وإنما لتجلياتها الإبداعية قديماً وحديثاً، وفي الشعر أفضل دائماً ما أسميه بصرامة التعامل مع اللغة، أي لا أنساق لها وإنما أنفذ من خلالها إلى النص، وبوسعي أن أقول إننا نتحدث معاً وعبارتك هنا دقيقة جداً، فاللغة كذلك حوار باطني لا ينقطع، إننا مثلاً نتحدث مع أنفسنا في أحلام اليقظة، بل ونوزع أدواراً في هذه الأحلام عبر اللغة، وأحب اللغة واضحة في الحياة معبرة ومُقتصِدة، وإن كنت أرى أنه لا مسافة بين لغة الحياة ولغة الشعر، وإنما يتحدد سياق كل منهما بالذات الإنسانية أو فلنقل بذات الشاعر أو الكاتب هنا.
سأقف في المسافة التي تقرِّب لغة الحياة من لغة الشعر وأسألك عن الشعرية كيف تتحقق، ما هي علاماتها في الكون الشعري عند إبراهيم المصري؟
ـ في العادة لا أميل الأوصاف الممتدة الأبعاد، كالكون الشعري مثلاً، وإنما ببساطة هي البداهة في كل شيء، إنني أكتب الشعر، والأسئلة حوله أو حول علاقة الشعراء به، لطالما كنت مربكة والإجابات عليها ربما لا يكون لها علاقة بالشعر ذاته، ويمكنني القول، إنَّ الشعر جاذبية لا تُرى، وإن شاهدناها في قصيدة، فهذا يعني انقضاء رحلة، وربما يكون الشعر في الرحلة ذاتها أو كما أقول في كتابي "الشعر كائنٌ بلا عمل": "الشعر ليس هديةً نقدمها إلى مَن نحب إنَّه الرحلة إلى جلبِ الهدية."، على أنه ثمة علاقة أخرى تربطني بالشعر، إنها المحبة للشعر قراءةً وكتابة، وفي العادة وقلت هذا سابقاً، أنا لا أعاني في كتابة نصوصي، وأكتب في الغالب بيسر تام، وأرى أن الأفكار في حد ذاتها قد تكون محفزات شعرية لكتابة مختلفة عنها، وفي الغالب كذلك فإن كتبي عبارة عن كتاب شعري يدور حول فكرة، كما في "الوعي والوجود" أو في "المسودة الأولى للعاطفة" أو في "مقتطفات البيرة" وغيرها من كتب كتبتها حول فكرة مركزية أتقصاها شعرياً إن جاز التعبير.
ـلننتقل إلى القراءة، وأنا أعرف أنك قارئ بقدر ما أنت شاعر وبنفس الشغف، أحب أن أصغي إليك وأنت تتحدث عن تجربتك في القراءة؟
ـ إجمالاً، القراءة هي سلوك يومي بالنسبة لي، وأحب القراءة لذاتها بغض النظر عن المعرفة، وعلاقتي بالقراءة بدأت في مرحلة الدراسة الابتدائية بالإضافة إلى حفظي لأجزاء من القرآن الكريم في كُتَّاب قرية انتقلت إليها من مسقط رأسي، ومع انتقالي إلى مديرية التحرير اكتشفت السينما في نادي اجتماعي كان يعرض سينما صيفية فقط، بفلمين عربي وأجنبي، وأتذكر أن أول فيلم شاهدته في حياتي كان فيلم "بئر الحرمان" للراحلة سعاد حسني، ومع انتقالي إلى المرحلة الثانوية كان اهتمامي قد امتد إلى المجلات الثقافية المصرية والعربية التي كانت تصدر في سبعينيات القرن العشرين، ثم بدأ بالتعرف على الكتب الذي كان شغفي بها وحتى اللحظة كبيراً، ويمكنني القول أنني قرأت الكثير جداً سواء على مستوى اتجاهات فكرية وفلسفية أو على مستوى الأعمال الكاملة لكتاب عرب أو أجانب، وعلى إطلاع جيد جداً بالتراث العربي وبإنتاج العقل العربي المعاصر، وأركز بشكل خاص كذلك على كتب الاقتصاد والتاريخ والفلسفة والفكر، وأشير هنا إلى أن القراءة تتحول عندي من مجرد اهتمام وشغف إلى "عمل" إذا ما اقتضت ظروف حياتي العملية والمهنية ذلك، وعلى سبيل المثال، كنت أعد في رمضان من العام الماضي، برنامجاً تلفزيونياً بعنوان "استئناف الحضارة" يعرض آثار ومدونات الحضارة العربية الإسلامية، ولنحو عام وأنا أكتب وأبحث لهذا البرنامج بشكل موسع حتى في مصورات مخطوطات عربية قديمة، وفي سياق حياتي أهديت عدداً كبيراً جداً من الكتب لأصدقاء في مصر، وأنا أعتبر الكتاب قيمة متحركة أي لا يجب أن يُحفظ ويجمَّد في مكتبة شخصية، ومع كل الكتب التي خرجت من مكتبتي أو من حوزتي، لا يزال عندي كتب تشكل مكتبة منزلية كبيرة، وإن كانت معبأة في كراتين حالياً بعد شحنها من أبوظبي إلى بيتي في الإسكندرية.
لك آراء جميلة في قصيدة النثر إن كان على مستوى التنظير لها أو على مستوى كتابتها، هل من الضروري العودة دائماً إلى التنظير الغربي لها والنظر إلى المؤسسين لها كما لو كانوا قادمين من المستقبل ما العمل مع كل هذا الضجيج الذي تثيره هنا وهناك؟
ـ لا يثيرني كثيراً التنظير أو الجدل حول قصيدة النثر، بالرغم من أنني أساهم أحياناً في هذا التنظير والجدل، وأنا على اطلاعٍ كافٍ أو جيد بالمرجعية الفرنسية والغربية لقصيدة النثر، أو "قصيدة بالنثر" كما يذهب إلى ذلك ترجمةً للأصل الفرنسي الشاعر والباحث الدكتور شربل داغر وهو مرجع في هذه القضية، وبالنسبة لي فإن "قصيدة النثر" هي مصطلح لا يؤدي على الإطلاق إلى الخلط في ذهني بين النثر والشعر، ولا أرى كذلك أن "الموسيقى أو الإيقاع أو العروض" شرط شارط للشعر، لأن الأخير عملٌ في المخيلة عبر اللغة، بخصائصه بالطبع المتصلة بالمجاز والاستعارة والصورة، وحتى الإيقاع الداخلي كما يقولون في قصيدة النثر لا أراه سبباً وجيهاً في إعطاء قصيدة النثر مشروعية في إطار الشعر، فالإيقاع الداخلي في قصيدة النثر أمرٌ متصلٌ باللغة ذاتها في منطوقها، وبالتالي فإن التركيز على الإيقاع كما يفعل النقاد هو هروب للأمام من الاعتراف بأن قصيدة النثر شعر بغض النظر عن أية أسباب إيقاعية من داخلها أو من خارجها، والأزمة في تعريف قصيدة النثر أوجدها المنظرون حولها أنفسهم وشعراؤها، حين دافعوا عنها بحكاية الإيقاع هذه في مواجهة العروض الخليلي، وحين اختلقوا مصطلحات لتبرئتها من النثر مثل أن يقول أحد النقاد "التشكيلات الداخلية" أي إسقاط الشكلاني في قصيدة النثر، على الجوهري فيها، أي الشعر، وبوسعي المُحاججة هنا أن تطور اللغة من المشافهة إلى الكتابة، كان لا مناص سيصل بنا إلى قصيدة النثر، سواء أجاءت من الغرب أو من الشرق أو نشأت في سياق الإبداع الشعري العربي، وعلى جانب السخرية لطالما سخرت قائلاً إن شاي الوزة مثلاً هو مجرد شاي ولا إوز في داخله، وهكذا قصيدة النثر هي مجرد شعر ولا نثر فيها، وأقبل المصطلح بدون هذا التشويش الممتد حولها كشعر أو لا شعر، وأكتب منطلقاً من مجاز اللغة في جُملها أو صورها أو من المجاز الكلي للنص، حين أنهيه مثلاً بصورة تضيئه من نهايته إلى أوله أو من أسفله إلى أعلاه، وبوسعي الادعاء أن قصيدة النثر تتيح احتمالات لا نهائية لكتابة القصيدة أو لكتابة الشعر، وأنها انتصار حاسم للشعر في جوهره على الأشكال الخارجية الصارمة للتنميط الشعري كالقصيدة العمودية مثلاً، لكن ينبغي التشديد على أنني أحترم التراث الشعري العربي العمودي القديم منه والمعاصر وكذلك شعر التفعيلة، وإن كنت لا أرى جدوى كبيرة في العودة إلى الشكلين العمودي أو التفعيلي في كتابة القصيدة، لأسباب كثيرة منها كما أشرت "جوهر الشعر ذاته في علاقته بمجاز اللغة" ومنها التطور، إلى ماذا؟ هذا احتمالٌ في المستقبل.
لا بد لي أن أقف لأنصت إليك وأنت تتحدث عن الشعر العربي منذ الينابيع حتى الآن لأنني أعرف أنك ستنصفه، فماذا تقول؟
ـ بدايةً أنا أحترم وأحب الشعر العربي قديمه وحديثه، وأرى فيه دائماً قيماً جماليةً رفيعة، وبغض النظر عن "الينابيع" فإنَّ ما وصل إلينا من امرئ القيس وحتى اليوم، لا يمكن الاستخفاف به بوصفه مثلاً "تراثاً بالياً" وأعتقد أن أي شاعرٍ لغته هي العربية، لا مناص من أن يكون على اطلاعٍ كافٍ بالشعر العربي، وليس الشعر فقط، بل المدونات الإبداعية في التراث العربي كالمقامات ومدونات المتصوفة، لما في تلك المدونات من تجليات جمالية تضيف إلى رؤية الشاعر للغة العربية وإحساسه بها، وأعتقد كذلك أن ضعف الكتابة الشعرية العربية الراهنة يعود إلى عدم الانخراط في الجذور العميقة لإبداع اللغة العربية من الجزيرة العربية إلى الأندلس، وحتى بغض النظر عن تواري القاموس القديم للكتابة الشعرية العربية، فإن الأهمية تظل قائمة في قراءة الشعراء العرب الذين أسهموا مساهمات حاسمة في الرؤي الجمالية والفلسفية والمجازية للغة العربية، وبشكل شخصي تحتل المعلقات مكانة خاصة في نفسي، والموشحات الأندليسة، وشعراء كمالك بن الريب، أو بشر بن عَوانة العبدي في قصديته:
أَفَاطِمُ لَوْ شَهِدْتِ بِبَطْنِ خَبْتٍ
وَقَدْ لاَقى الهِزَبْرُ أَخَاكِ بِشْرَا
إِذاً لَرَأَيْتِ لَيْثاً زَارَ لَيْثاً
هِزَبْرَاً أَغْلَباُ لاقى هِزَبْرَا
تَبَهْنَسَ إِذْ تَقاعَسَ عَنْهُ مُهْرِي
مُحَاذَرَةً، فَقُلْتُ: عُقِرْتَ مُهْرَا
أَنِلْ قَدَمَيَّ ظَهْرَ الأَرْضِ؛ إِنِّي
رَأَيْتُ الأَرْضَ أَثْبَتَ مِنْكَ ظَهْرَا .
وهذه القصيدة، عدا أنها تصويرٌ حيٌّ إن جاز التعبير، فإنها تنطوي على قيمة كبيرة في فهم الشاعر العربي لكُلِّيةِ الوجودِ بكائناتِه واحترام هذه الكائنات حتى في لحظة الانتصار عليها. ولا أريد أن أبدو كمَن يُلقي درساً، لكن السياق الإبداعي لأي شاعر معاصر يقتضي الاطلاع على تراث الشعر العربي القديم، ومنجز الشعر العربي الحديث، وكلاهما التراث والمنجز لا يقلان أهمية عن المدونات الكُبرى في الإبداع العالمي.
هل أستطيع أن أذهب معك الآن إلى الشعر العالمي ومدونات الإبداع الكبرى كيف قرأها وحاورها الشاعر إبراهيم المصري؟
ـ لم يحدث أن قرأت شاعراً عربياً أو غربياً بإحساس العجز عن كتابة ما كتبه، وإنما بإحساس المتفاعل مع رؤية شعرية وجمالية تخص هذا أو ذاك، وأحتقر كثيراً هؤلاء الذين يقولون، هل بوسعك أن تكتب مثل فلان أو علان، وإجابتي: ليس بوسعي بالطبع أن أكتب ما كتبوه، وما أهمية ذلك؟، وإنما بوسعي أن أكتب ما أراه أنا، وحتى في التفاعل مع الإبداع العالمي، فإنني لا أقيم مقارنات بقدر ما أحاول أن أرى كل نص في سياقه وزمنه، وعلى سبيل المثال "الأرض الخراب أو اليباب لإليوت، ومعلقة لبيد بن ربيعة عفت الديار محلها فمُقامها" كلاهما رؤية، وعلى سبيل المثال كذلك "الكوميديا الإلهية لدانتي ورسالة الغفران للمعري" كلاهما رؤية، وبالطبع يتأثر الإنسان بما يقرأ خاصةً إذا كان كاتباً، وهنا يمكنني القول إن الشاعر الفرنسي إيف بونفوا بترجمة أدونيس كان ذا تأثير في رؤيتي للشعر، وكذلك اللبنانية الراحلة ناديا تويني، وما أبحث عنه في مدونات الإبداع العالمي والعربي كذلك ليس "العبقرية" وإنما وجهة النظر الجمالية والإبداعية في الوجود والحياة، وقد يكون غريباً أنني ليست مفتوناً للغاية بالشاعر الفرنسي آرثور رامبو في شعره، وإنما مفتون للغاية برسائله إلى والدته التي ترجمها شربل داغر تحت عنوان "العابر الهائل بنعال من ريح" ولا أزال حتى اليوم أعيد قراءة هذه الرسائل، وثمة شاعر آخر من تشيلي.. ليس بابلو نيرودا.. كان ذا تأثير خاص كذلك في رؤيتي للشعر في علاقته بالقمع والاستبداد، وهذا الشاعر هو أرييل دورفمان في كتابه "الفالس الأخير في سنتياجو" ترجمة كامل يوسف حسين. ويمكنني أن أتحدث عن عشرات الكتب التي قرأتها من الشعر العالمي أو الإبداع العالمي أو الفكر العالمي وتحاورت معها من منطلق ما ذكرت عن الرؤية الجمالية أو الفكرية أو الإبداعية، وأحتفظ بتقدير خاص لكتب بعينها من هذه الكتب ومحبةٍ كذلك، وعلى سبيل المثال "رواية بيدرو بارامو للمكسيكي خوان رولفو بترجمة صالح علماني" و"مجنون إلسا للفرنسي لويس أراجون بترجمة سامي الجندي" وكتاب "مسخ الكائنات لأوفيد بترجمة ثروت عكاشة"
أفهمك جيداً، وأعرف أنك إنسان حر جداً وقريب جداً من الحياة كما هي، ومن الناس كما يعيشون، وإن شعرك ينسج حكاية الناس والحياة وينتصر للحياة وللناس، كما لم أجد هذا عند أحد من قبل، وهنا أسألك ماذا يخسر الشاعر الذي يتعالى ويبتعد وينأى وماذا يربح الشاعر الذي يقترب وينشبك؟
ـ قبل أي شيء آخر، ثمة وهمٌ كبير أن الشعراء لديهم ما يخسرونه أو يكسبونه بالبعد أو بالقرب من الناس، وقد يكون هذا غريباً كذلك، أنني وبالرغم من قرب نصوصي من الحياة والناس، إلَّا أنني تقريباً أعيش عزلةً تامة، لكنني متابع جيد جداً بالإضافة بالطبع إلى عملي كصحفي، الأمر الذي أتاح لي نافذة واسعة جداً لرؤية الحياة والناس في شرط الوجود المؤلم إن جاز التعبير. ولا أهتم كثيراً بهؤلاء الشعراء أو الكتاب الذين يظنون أنهم "مرتبة أعلى" على البشر، وفي الشأن العام أؤيد ما قاله الكاتب الألماني جونتر غراس، أنه يتصرف "كمواطن" وهكذا أتصرف أنا في الحياة وبين الناس كمواطن، وفي الشعر كشاعر لا يلزمه أن يكون متعالياً على الحياة والناس أو متصاغراً أمامهما وإنما يمشي معهما، وهكذا فأنا أمشي مع الحياة والناس بنصوصي، بغض النظر عمَّا إذا كان ما أكتبه يجد تفاعلاً كافياً لدى قارئ لا أراه ولا يراني، ومع ذلك وعلى مدى سنوات تلقيت رسائل من قراء يقولون إنهم تأثروا بهذا الكتاب أو ذاك، أو هذا النص أو ذاك، وهذه الرسائل هي ما أعتز به في عملي كشاعر وفي حياتي كإنسان. وعلى أية حال، وبغض النظر مرة ثانية عن القرب أو البعد عن الحياة والناس، فإنني أرى أن مادة الشعر الحقيقية هي "الحياة والناس" أو كما قلت في كتابي "الشعر كائن بلا عمل" الصادر عام 2009 عن دار بدايات في سوريا:
"الخيال.. ليس منزلَ الشعر كما يظنُّ المتقاعدون عن رؤيةِ الواقع هذا الذي يجري الشعرُ في شرايينه مثل دمٍ يجري في شرايين حوتٍ أزرق".
سؤالي الآن عن العمل الصحفي والعمل الشعري، كيف تؤاخي بينهما؟
ـ بعيداً عن "التهويل والتضخيم اللفظي والدلالي" التي يلجأ إليه الشعراء في إجاباتهم على أسئلة تتعلق بالشعر وعلاقته بالحياة والمهنة والعمل، فإنني ببساطة شديدة لا أجد ولا أقيم تعارضاً في الأساس بين عملي كصحفي وما أكتبه كشاعر، وإجمالاً، أكتب النصوص في البيت، وحينما أكون في العمل وإن طرأت على رأسي قصيدة، أدون أولها على هاتفي المحمول حتى أعود إلى البيت، وأكتب بدون طقوس وإن كان بتركيز شديد على النص، وفي العادة لا تستغرق كتابة نص معي أكثر من عشر إلى خمس عشرة دقيقة، ولا أساطير لدي حول طقوس الكتابة أو الإلهام أو الوحي أو الولادة إلى آخر كل هذه الإحالات الرثَّة كما أرى عن كتابة الشعر. وفي عملي الصحفي سواء أكان في موقع العمل أو من المنزل كما يحدث حالياً بسبب أزمة كورونا أركز تماماً في عملي، ولا أتصرف كشاعر في العمل أو في الحياة عموماً، أنا أحب الشعر وأكتبه ومهنتي التي أجلب منها رزقي ورزق أولادي هي الإعلام التلفزيوني، وأجد نفسي محظوظاً أن لدي مهنة تعينني على العيش والحياة، وهذا أيضاً ساعدني كثيراً في فسحة الحرية التي أراها في ما أكتب، بعيداً عن ضغوط لقمة العيش. باختصار: أنا إنسان يكتب الشعر ويعمل رئيساً لتحرير الأخبار في الإعلام التلفزيوني وهذا كل شيء.
كيف يقيِّم الشاعر إبراهيم المصري الشعر العربي اليوم، ما هي مشكلاته وما هي علاماته؟
ـ يبدو بشكل عام أن العقل العربي المعاصر، لا يمكنه الحياة بدون أزمة، بل بدون أزمات، وكأن ثمة لحظة في الحياة على المستوى الشخصي أو المستوى العام صافية من الأزمات والمشكلات كبيرةً كانت أو صغيرة، وبالتالي يسعى هذا العقل إلى بلوغ هذه اللحظة الصافية، ويسحب علاقته بالحياة ككل على كل شيء بما في ذلك الشعر، فنقرأ مثلاً عن "أزمة الشعر ومشكلاته" وكأننا عاجزون عن التعامل مع الشعر بما هو عليه في الواقع والإبداع بالفعل، ومن هنا يمكنني أن أقول إن تقييمي لواقع الشعر العربي اليوم، أنه بخير تماماً، مع ما يصاحبه من قضايا هي ذاتها قضايا أشكال أخرى من الإبداع، أي النشر والتلقي والنقد، أي المناخ الثقافي العام وأولويات الإنسان العربي في حياته ومعاشه، والتي قد لا يكون من بينها الشعر أو الفن التشكيلي أو المسرح أو السينما، والشعر كما قلت مراراً وتكراراً هو فن ذاتي للغاية، حتى لو تطرق إلى قضايا عامة أو وجودية، ولا أرى ثمة مشكلة طالما أن لدينا شعراء يكتبون ويبدعون، وإذ بوسعنا أن نتحدث عن النشر في العالم العربي بوصفه صناعة وتجارة وإعلاناً فإن وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت وفرا مساحات ومساحات لنشر النصوص الشعرية، وطالما يبحث الشعراء عن قارئ لنصوصهم، أو يأملون في ذلك، وكان هذا القارئ أو المتلقي موجوداً أونلاين، فإن قضية النشر تصبح أقل ضغطاً عليهم، وما يبقى لدينا من قضايا هو قضية النقد، وهي قضية ملتبسة للغاية، وبوسعي أن أقول إن النقد في العالم العربي متخلف عن الإبداع، وإنه مشين أيضاً في صور كثيرة تغلب فيها المصلحة والعلاقات الشخصية على التبصِّر الحقيقي للنصوص أو الكتب المنقودة، كما أن النقد العربي بشكل عام فيما يتصل بالشعر، لم يطور نظرية نقدية أبعد من الإسقاط الغربي أو نظريات الشعر العربية القديمة عند الجرجاني وغيره، وتلك مسألة تتجاوز النقد السائد بوصفه قراءات كتب شعرية، وأسوأ ما في النقد العربي الراهن في علاقته بالشعر هو ما يمكن أن نسميه "ميتافيزيقا النقد" أي الافتراض المسبق في ذهن الناقد مثلاً عن "المدينة في شعر الشاعر الفلاني، أو التفكيكية أو البنيوية" وتصل المصيبة في النقد إلى أن هذه الميتافيزيقات تصبح رسائل ماجستير ودكتوراه يحمل أصحابها ألقاباً علمية وجامعية لا جدارة لها ولا للرسائل ولا حتى لأصحابها. وإجمالاً الشعر العربي الراهن بخير، ليس بالتصور المثالي عن "الشعر" أو بما ندعيه عن مشكلات أو أزمات، وإنما بالأسماء التي تكتب الشعر من المحيط إلى الخليج، وهي أسماء وافرة العدد والإبداع والرؤي الشعرية.
أغتنم العودة إلى الحوار مجدداً فأسألك عن عامر الطيب، الشاعر العراقي: كيف ينظر إبراهيم المصري إلى تجربته الشعرية؟ وكيف يمكن لشاعر أن يتحدث عن شاعر تربطه به صداقة الحياة وصداقة الشعر؟
ـ لعلَّك تندهش إذا قلتُ لك، إنني وعامر الطيب لم نلتقِ في الواقع على الإطلاق، رغم سنوات صداقتِنا الممتدة عبر الفيسبوك، وشخصياً أتمنى أن ألتقيه، ليس هو فقط، وإنما أن ألتقي شعراء وشاعرات شباب بامتداد العالم العربي، أقرأُ لهم وأعتبرهم صورةَ الحاضر والمستقبل في الشعر، ورأيي الشخصي، أن عامر الطيب شاعر موهوب للغاية، ولا أريد أن أستخدم تلك الألفاظ التي أنفر منها في الحقيقة مثل "متفرد" وإنما يمكنني القول بثقة كبيرة، أن عامر إلى جانب آخرين كأيوب سعد ورشا الحمزة من العراق أيضاً، أو كإيناس صلاح الدين وعلاء الدين مصطفى وأسماء حسين من مصر، أو كأنيس سيلفر وسونيا فرجاني وسماح اليوسفي من تونس، أو كآخرين من المغرب والجزائر وليبيا والسودان واليمن ودول الخليج العربي وسوريا ولبنان وفلسطين، يُشكِّلون ما أسميه "صورة الشعرية العربية الراهنة" بتجاوزها بالفعل لما كتبه جيل الروَّاد وما بعدهم من أجيال، وأود أن أتمكن قريباً من الكتابة عن هذه الصورة بأسمائها على امتداد العالم العربي، وإن كان لي ملاحظة فهي أن النقد في وادٍ وصورة الشعرية العربية الراهنة في وادٍ آخر، وعلى حد معرفتي، لا يوجد ناقد عربي أخذ الشعر العربي الآن في تجليه في أصوات شابات وشباب على محمل الجد، وإن كان ثمة نقاد يكتبون عن كتاب هذا الشاعر أو ذاك، مُستخدمين عُدَّةً مقيتة وبالية في التعامل مع هذه الكتب، وحينما أقول عُدَّةً مقيتة وبالية، فإنني أقصد النمط الافتراضي المُسبق في ذهن الناقد عمَّا يريد أن يقوله الشاعر، أو تأويل الناقد بما في ذهنه في الغالب لا بما في النص، لهذه القصيدة أو تلك، وهو نمط مكرر منذ سنواتٍ طويلة في النقد العربي المعاصر، وأدَّى من بين ما أدَّى إلى جرائم تضخيمية لأسماء "كبار" لم يكونوا في أحسن أحوالهم سوى فاشلين في رؤية ما تحدثوا عنه طويلاً، أو تحدث به النقاد عنهم طويلاً أي "الحداثة" تلك التي أصبحت فرية كريهة يمكن تحميلها على ظهر أي شاعر وعلى ظهر أي كتاب شعري.
و لان الشعر موجود في حياة الشاعر إبراهيم المصري كالماء فمن المحبب أن نختم الحوار بقصيدته الرائعة عن النيل :
النيل
أعرفُ عن النيل
تلك الدفقةَ الشفافةَ على طميٍّ ناعم
وثمارَ توتٍ وجمَّيزٍ سابغةَ الحلاوة
وبطيخاً وشمَّاماً في الصيفِ وقطناً على مدِّ البصر
وبرتقالاً وقصباً وأسماكاً وجفافَ تِرعٍ في الشتاء
وأعرفُ النيلَ بحراً
في الوصيِّةِ الأولى لأوِّلِ فلاحٍ مصري
زرعَ قمحاً وشعيراً وبِرسيماً على ضفتيه
وأعرفُ النيلَ شادوفاً وهاويساً وماكينةَ رِيٍّ
وفأساً ومحراثاً ونورجاً وبهائمَ تجلبُ البركة
ووقوداً وحطباً وجِرارَ ماءٍ عذبةٍ
وأعرفُ النيلَ أعراساً بعد مواسم القطن
وغرقى في مائِه ومراكبَ وقلوعاً وعبَّاراتٍ وجسراً عالياً
لتوقِّي الفيضان
وأعرفُ النيلَ أمَّاً وأباً وجَدةً وجَداً
وعمَّاتٍ وخالاتٍ وسُقيا من الله
وأعرفُ النيلَ قرىً ومدناً ومساجدَ وأبراجَ حمامٍ وكنائس
وجسوراً وقناطرَ وسدَّاً عالياً
وذاكرةً خِصبَةً
في المرامي البعيدةِ لأعمارنا
وأعرفُ النيلَ نخلاً وكافوراً وسنطاً شائكاً
وحشائشَ نافعةً وأخرى ضارَّة
وأعرفُ النيلَ عمالاً وفلاحينَ وحكواتية
وسماءً وأرضاً وأغاني ومناديلَ أُويَة
ومسقطَ رأسٍ وحنيناً وأشقاءً وشقيقات
وأعرفُ النيلَ أخضرَ ومُلوَّناً في الربيع
وغيطاناً وأجراناً ومِذراةً وحصاداً
وآتياً وذاهباً وصيَّادينَ وفقراء
وعَيشاً ومِلحاً وعائلةً وعُشَّاقاً ونُدامَى
ومسلاتٍ وأهراماً ومعابد
وإيزيس وأوزوريس ونفرتيتي وأحمُس
وأعرفُ النيلَ بحراً في بحرٍ
آنَ مرجِ البحرين يلتقيان
وأعرفُ النيلَ وقتاً وزمناً ودهراً وأزلاً وأبداً
ومصاطبَ سَمرٍ ونومٍ وأفراناً وكوانينَ ومناقل
وأعرفُ النيلَ مزارعَ ومصانعَ ودكاكينَ وشوارعَ واسعةً وحواري
وطريقاً زراعيَّاً وع الزراعية يارب أقابل حبيبي
وأعرفُ النيلَ اسماً ورسماً وضفافاً وخرائط
ونبعاً ومَصبَّاً وشوقاً
وعبَّادَ شمسٍ وشمساً وقمراً ونجوماً ونوراً وظلاماً
وأعرفُ النيلَ حلماً
وقياماً مع الفجرِ وإنساناً وربَّاً
وأعرفُ النيلَ حُبَّاً وحَبَّاً وسكناً ومقابر
وأعرفُ النيلَ قلباً
حينَ يُنادَى على القلبِ باسمكِ يا مصر
وأعرفُ النيلَ مصرَ حياةً وصلاةً
ودعاءً وعَرقاً ولقاءً وفراقاً ومناجاةً ومواجع
وبلهارسيا وأنيميا ورغداً وثراءً وغرباناً وحدائدَ وهَداهد
ونساءً ورجالاً وشيوخاً وأطفالاً وشباباً وجنوداً وجيشاً وحدوداً
وأعرفُ النيلَ محروساً وحارساً وخالداً بأمرٍ من الله
باسمِكِ يا مصر.
عن صفحة وكالة نخيل عراقي
" الشعر موجود في حياتي كالماء"
حاوره الشاعر السوري محمد صالح
مقدمة :
نعم ، هذا هو الشاعر وهذا هو الشعر .
إبراهيم المصري يعيش بالشعر والشعر بالنسبة له دم وماء وعلامة كما لو أنه يولد من ماء الشعر في كل لحظة أو كما لون أن الشعر ماء يتدفق منه كما لو كان نبعا .
الشعر هو طريقته في العيش والتفكير والرؤية وربما في السمع والشم واللمس .
يعيش به ويكتبه كل يوم وهو طازج في ما يكتب ويقول ، جديد وطازج دائما .
يكتب الشعر برئة كاملة وقلب ذكي وبداهة ورشاقة أصيلتين ، يكتبه بدم اللحظة ويلقي به إلى الحياة فيمتزج بها ويزيد من نسبة الأكسجين بها .
شاعر قادم من الحياة دائما ومما يلمس وهو منشبك بها على نحو مدهش يعطيها قلبه كاملا وتعطيه يدها كاملة وخضراء .
هكذا يبدو لي إبراهيم المصري في شخصه وفي شعره وفي حياته وهكذا وجدته في هذا الحوار الذي دار بيننا هنا على مدار أيام كثيرة وأيام
و قد اخترت أن أبدأ الحوار بإحدى قصائده:-
لم يكن الهواءُ اكتشافاً
في حياةِ الإنسان
إلَّا بعدَ اختراعِه لقصَباتِ العزفِ المثقوبة
وللأوتارِ بدفعِها لذبذباتٍ من العدم
إلى النوتةِ الموسيقية
حينها فقط
أصبحُ الهواءُ معدناً ثميناً ونادراً
تُبنى له دورُ الأوبرا الضخمة
ويتأنقُ من أجلِ حضورِ حفلاتِه الرجالُ والنساء
ويُرفَعُ به الموسيقونَ عالياً
مؤلفينَ وعازفين وصانعي آلاتٍ موسيقية
من الوترياتِ بنزفهِا الهارموني
إلى آلاتِ النفخِ النحاسيَّةِ بامتحانِها للجياد
أن تركضَ في البرق
إلى الطبولِ التي تعملُ في ضبطِ إيقاعِ القَدَر
وكأنَّ الحياةَ مشيئةً جارفةً والموتَ كذلك
وسوف نحبُّ الموسيقى
كما لو كانت الرَّحمَ الأرحمَ لأرواحِنا
مأخوذينَ بالهواءِ بالطبع
وقد أصبحَ سُلَّماً موسيقياً
نصعدُ به إلى ابتكارِ العاطفة
وكنتُ أودُّ أن أقدمَ هنا تحيةً خاصةً لبيتهوفن
أو لموتسارت أو لخاتشودريان
أو لعازفِ الناي في قريةٍ تبكي ليلاً
قبل نومِها على أن أنفاسَه
تخرجُ من هذا الثقبِ وتدخلُ في ثقبٍ آخر
بتوالي أصابَعه المتمرسةِ في جلبِ الألم
ومن الكياسةِ أيضاً
أن نقدمَ التحيَّةَ لأصحاب موسيقى الجاز
والغجرَ الذين ينامونَ دائماً على جيتاراتهم
وإلى عازفِ أكورديون
يعرفُ أكثرَ من غيره
كيف يكونُ الهواءُ افقياً
ويصعدُ رأسيَّاً في النشوةِ بمرونةِ الذراعين
إنَّه يحضنُ الهواءَ أكثرَ من غيرِه وقد أوليتَه أنا
محبةً خاصة
كما أُولي محبةً خاصةً للهواء
حين يتحوَّلُ إلى موسيقى.
الحوار:-
سأفترض الآن أنك تقف مع الشعر في مكان ما وأنني ألتقيكما معا دون موعد وأن الشعر سيعرفني عليك، ماذا تتوقع أن يقول الشعر في تعريفه وتقديمه لإبراهيم المصري؟
سيقول ما قلته أنا:
ـ "لم أسبقْ يدي ولم تسبقني حين مَدَّ الشِّعرُ يدَه انكفأتُ بوجهي في يدِه." لأنه وإن التقيت أنا والشعر في مكان ما، فإن الأمر هو كذلك بالنسبة لي "انكفاء في يد الشعر" قراءةً وكتابة.
أسألك عن الكلمات الأولى، عن الطفولة، الزمان الأول، المكان الأول، البيت، ما هو التأثير الذي لا يُنسى الذي تلقاه الشاعر من هناك وكيف كان؟
ـ لم يحدث أن كنت مشغولاً بالأثر والمعاني إن جاز التعبير، وعلى سبيل المثال، لا أنظر للطفولة على أنها "فردوس شخصي مفقود" وعلى ما كان فيها كذلك من فقر، لم يحدث أن نظرت إلى ذلك كنُدبة في النفس والحياة، وبما أنني في طفولتي وصباي وشبابي تنقلت بين أكثر من مكان في مصر، من محافظة المنوفية حيث وُلدت إلى مديرية التحرير.. أحد مشاريع جمال عبد الناصر لتعمير الصحراء وزراعتها في الستينيات من القرن الماضي.. إلى قرية محلة مرحوم القريبة من مدينة طنطا ثم إلى مدينة الإسكندرية، ثم إلى الاغتراب عن مصر، فإن المكان عابر في ذاكرتي وإن كنت أحتفظ للإسكندرية بالذات بحنين شديد، كما أن الزمان لم يكن حاملَ أحداثٍ على ما مررت في الحياة من أحداث، وإنما كان حامل حياة، هي في نظري عبور إنسانٍ ما على هذه الأرض، ولذلك قد تجد أن الإنسان بما هو متحرك في الحياة هو في الغالب مناط ما أكتب من شعر، أو بعبارة أخرى أنا معنى بالإنسان، الذي هو أنا وغيري بالطبع، حتى أنني حينما أزور بلداً فإن ما يعنيني هو الإنسان أكثر من الأماكن في هذا البلد أو ذاك. وإجمالاً فإن التأثير الذي لا زلت أعيش به حتى اليوم هو "الكّد" وقد يكون هذا غريباً بالنظر إلى المفاهيم الكبرى التي يتحدث عنها الشعراء في الغالب، إنما الكد أو الكدح إن شئت هو ما حملته معي من الأمكنة الأولى والأزمنة الأولي ولا أزال حتى اللحظة إنساناً كادحاً.
لماذا الحنين إلى الإسكندرية ، لماذا خصصتها وحدها، ماذا تعني لك؟
ـ الإسكندرية رأيتها لأول مرة في حياتي صيف عام 1973، كان عمري حينها 16 عاماً وحينما رأيت البحر لأول مرة، كان ثمة ما استحوذ كُليَّاً على نفسي، حتى أنني إلى هذه اللحظة لا أعرف كيف يمكنني العيش في مدينة غير ساحلية، حتى ولو لم أكن أسكن على البحر مباشرة، فإن الشعور برئة هائلة هو ما يمسني أكثر من أي شيء آخر، وبيتي الآن في مصر في الإسكندرية قريباً من البحر، بحيث يمكنني الذهاب إليه مشياً على قدمي، وبالرغم من أنني قبل رؤيتي للإسكندرية وانتقالي مع الأسرة إليها عام 1974 كنت على صلة بالقراءة إلَّا أن الإسكندرية وفرت شيئاً مختلفاً في المكتبات وخاصة مكتبة الهيئة المصرية العامة للكتاب، وطوال خمس سنوات وحتى سفري من مصر مغترباً قدمت لي الإسكندرية فرص قراءة ثمينة قياساً بذلك الزمن ويكفي هنا أن أقول إن أول كتب لشعراء ألمسها بيدي وأقتنيها كانت في الإسكندرية لأمل دنقل وبدر شاكر السياب ومحمد الجيار ونزار قباني وغيرهم.. لأقل باختصار الإسكندرية بالنسبة لي هي "رحابة البحر ورحابة المعرفة"
"الكد" و"الكدح" هذا هو أسلوبك في الحياة وهذه علامتك، سأنقل سؤال التأثير إلى الضفة الثانية: كيف يكشف الشاعر عن تأثيره في الحياة في شعره وفي شخصه خصوصا وانك تجمع بين الشعر والصحافة؟
ـ هذا السؤال في رأيي له قسمان، القسم الأول يتصل بالكد أو الكدح، وهو بالفعل أسلوبي في الحياة، أو ما أعطته لي الحياة، فأنا أعمل منذ طفولتي ولا زلت أعمل بالرغم من وصولي إلى سن 63، وهذا بديهي في حياة إنسان لم يكن ثمة ما يعتمد عليه في حياته سوى عمله وكدحه فيها، القسم الثاني من السؤال في علاقة الشعر بالصحافة، أو بالإعلام التلفزيوني تحديداً أجبت عليه قبل سنوات قائلاً إن عملي التلفزيوني في انعكاسه على شعري، أتاح لي أولاً رؤية مآسي البشر بشكل مباشر في الحروب والنزاعات، أي جعلني على تماس مباشر بالألم الإنساني في أقسى تجلياته، كما انعكس العمل التلفزيوني على فهمي للصورة الشعرية التي هي مونتاج أو تركيب من الاختزال إلى الإطار العام للمشهد أو للقصيدة.
نعم، تجربتك في الحياة تخصك كثيراً وهكذا هي تجربتك في الكتابة، لا أراك تشبه أحداً، هكذا أنت مع الحياة والشعر واحداً وحيداً وبدون أسلاف، من أين يأتي كل هذا التفرد، هذا الإختلاف؟
ـ إن كان ثمة تفرد أو اختلاف، فهو زاوية النظر التي أقف فيها تجاه نفسي والبشر والحياة والشعر والمعرفة، وشخصياً لا أرفض الأسلاف، ولكن لهم زمنهم ولي زمني، والكتابة في رأيي هي "استئناف" ليس بمعنى التكرار أو التقليد وإنما بمعنى الإضافة ومواجهة الماضي في الوقت ذاته، كما أنني لا أنظر إلى نفسي بتخاذل أمام السابقين، هم شعراء وأنا شاعر، هم قالوا وأنا أقول، هم أضافوا وأنا أضيف، إنها الأمانة في أن تكون قادراً على مساحتك الخاصة من الجمال أو الشعر، ولا يمكنني أن أقول إلى مدى نجحت أو فشلت، لكنني لا أريد أن أشبه إلَّا نفسي، وحتى داخل الإطار الكتابي لي، أكتب بأكثر من أسلوب وبوسع قارئ أن يرى ذلك واضحاً في الفرق بين كتاب "الزَّهرودِّيَّة" وبين كتاب "الديوان العراقي" وبين كتاب "الوعي الوجود" أو كتاب "الشعرُ كائنٌ بلا عمل" وإن كان ثمة اختلاف كذلك فإنه راجع إلى سبب آخر هو "وعي القراءة" إن جاز التعبير، فأنا مثلاً لا أستسلم للكتب التي أقرؤها إبداعية كانت أو فكرية أو فلسفية، وإنما أقيم حواراً معها، وربما لهذا تجد سياقاً نقدياً في ما أكتبه بعيداً عن الشعر، في الفيسبوك مثلاً عن قضايا مختلفة، وأمرٌ آخر يخص القراءة، وهو أنني لا أحصر قراءتي في الكتب الإبداعية، وإنما كنت ولا أزال أقرأ في إطار معرفي أوسع من الشعر إلى الاقتصاد إلى الفيزياء النظرية.
قبل أن نبتعد، أود أن أسمعك وأنت تتحدث عن اللغة، علاقتك بها، قربك منها، كيف تحب أن تتحدث عن اللغة في الحياة وفي الشعر، مَن منكما يتحدث من خلال الآخر، أنت أم اللغة، أما أنكما تتحدثان معاً؟
ـ لنقل أولاً إنَّ اللغة هي الإنسان أو العكس الإنسان هو اللغة، واللغة بالنسبة لي ليست فقط وسيلة تواصل أو ميداناً إبداعياً ومعرفياً، إنها ضوء أراه دائماً بعيداً وأسعى إليه، وأود دائماً أن أكون مرئياً باللغة في لطف إبداعها وجمالها، وللغة العربية مكانة خاصة في نفسي، ليس لأنني أكتب بها أو لأنها لغتي بوصفي مصرياً عربياً، وإنما لتجلياتها الإبداعية قديماً وحديثاً، وفي الشعر أفضل دائماً ما أسميه بصرامة التعامل مع اللغة، أي لا أنساق لها وإنما أنفذ من خلالها إلى النص، وبوسعي أن أقول إننا نتحدث معاً وعبارتك هنا دقيقة جداً، فاللغة كذلك حوار باطني لا ينقطع، إننا مثلاً نتحدث مع أنفسنا في أحلام اليقظة، بل ونوزع أدواراً في هذه الأحلام عبر اللغة، وأحب اللغة واضحة في الحياة معبرة ومُقتصِدة، وإن كنت أرى أنه لا مسافة بين لغة الحياة ولغة الشعر، وإنما يتحدد سياق كل منهما بالذات الإنسانية أو فلنقل بذات الشاعر أو الكاتب هنا.
سأقف في المسافة التي تقرِّب لغة الحياة من لغة الشعر وأسألك عن الشعرية كيف تتحقق، ما هي علاماتها في الكون الشعري عند إبراهيم المصري؟
ـ في العادة لا أميل الأوصاف الممتدة الأبعاد، كالكون الشعري مثلاً، وإنما ببساطة هي البداهة في كل شيء، إنني أكتب الشعر، والأسئلة حوله أو حول علاقة الشعراء به، لطالما كنت مربكة والإجابات عليها ربما لا يكون لها علاقة بالشعر ذاته، ويمكنني القول، إنَّ الشعر جاذبية لا تُرى، وإن شاهدناها في قصيدة، فهذا يعني انقضاء رحلة، وربما يكون الشعر في الرحلة ذاتها أو كما أقول في كتابي "الشعر كائنٌ بلا عمل": "الشعر ليس هديةً نقدمها إلى مَن نحب إنَّه الرحلة إلى جلبِ الهدية."، على أنه ثمة علاقة أخرى تربطني بالشعر، إنها المحبة للشعر قراءةً وكتابة، وفي العادة وقلت هذا سابقاً، أنا لا أعاني في كتابة نصوصي، وأكتب في الغالب بيسر تام، وأرى أن الأفكار في حد ذاتها قد تكون محفزات شعرية لكتابة مختلفة عنها، وفي الغالب كذلك فإن كتبي عبارة عن كتاب شعري يدور حول فكرة، كما في "الوعي والوجود" أو في "المسودة الأولى للعاطفة" أو في "مقتطفات البيرة" وغيرها من كتب كتبتها حول فكرة مركزية أتقصاها شعرياً إن جاز التعبير.
ـلننتقل إلى القراءة، وأنا أعرف أنك قارئ بقدر ما أنت شاعر وبنفس الشغف، أحب أن أصغي إليك وأنت تتحدث عن تجربتك في القراءة؟
ـ إجمالاً، القراءة هي سلوك يومي بالنسبة لي، وأحب القراءة لذاتها بغض النظر عن المعرفة، وعلاقتي بالقراءة بدأت في مرحلة الدراسة الابتدائية بالإضافة إلى حفظي لأجزاء من القرآن الكريم في كُتَّاب قرية انتقلت إليها من مسقط رأسي، ومع انتقالي إلى مديرية التحرير اكتشفت السينما في نادي اجتماعي كان يعرض سينما صيفية فقط، بفلمين عربي وأجنبي، وأتذكر أن أول فيلم شاهدته في حياتي كان فيلم "بئر الحرمان" للراحلة سعاد حسني، ومع انتقالي إلى المرحلة الثانوية كان اهتمامي قد امتد إلى المجلات الثقافية المصرية والعربية التي كانت تصدر في سبعينيات القرن العشرين، ثم بدأ بالتعرف على الكتب الذي كان شغفي بها وحتى اللحظة كبيراً، ويمكنني القول أنني قرأت الكثير جداً سواء على مستوى اتجاهات فكرية وفلسفية أو على مستوى الأعمال الكاملة لكتاب عرب أو أجانب، وعلى إطلاع جيد جداً بالتراث العربي وبإنتاج العقل العربي المعاصر، وأركز بشكل خاص كذلك على كتب الاقتصاد والتاريخ والفلسفة والفكر، وأشير هنا إلى أن القراءة تتحول عندي من مجرد اهتمام وشغف إلى "عمل" إذا ما اقتضت ظروف حياتي العملية والمهنية ذلك، وعلى سبيل المثال، كنت أعد في رمضان من العام الماضي، برنامجاً تلفزيونياً بعنوان "استئناف الحضارة" يعرض آثار ومدونات الحضارة العربية الإسلامية، ولنحو عام وأنا أكتب وأبحث لهذا البرنامج بشكل موسع حتى في مصورات مخطوطات عربية قديمة، وفي سياق حياتي أهديت عدداً كبيراً جداً من الكتب لأصدقاء في مصر، وأنا أعتبر الكتاب قيمة متحركة أي لا يجب أن يُحفظ ويجمَّد في مكتبة شخصية، ومع كل الكتب التي خرجت من مكتبتي أو من حوزتي، لا يزال عندي كتب تشكل مكتبة منزلية كبيرة، وإن كانت معبأة في كراتين حالياً بعد شحنها من أبوظبي إلى بيتي في الإسكندرية.
لك آراء جميلة في قصيدة النثر إن كان على مستوى التنظير لها أو على مستوى كتابتها، هل من الضروري العودة دائماً إلى التنظير الغربي لها والنظر إلى المؤسسين لها كما لو كانوا قادمين من المستقبل ما العمل مع كل هذا الضجيج الذي تثيره هنا وهناك؟
ـ لا يثيرني كثيراً التنظير أو الجدل حول قصيدة النثر، بالرغم من أنني أساهم أحياناً في هذا التنظير والجدل، وأنا على اطلاعٍ كافٍ أو جيد بالمرجعية الفرنسية والغربية لقصيدة النثر، أو "قصيدة بالنثر" كما يذهب إلى ذلك ترجمةً للأصل الفرنسي الشاعر والباحث الدكتور شربل داغر وهو مرجع في هذه القضية، وبالنسبة لي فإن "قصيدة النثر" هي مصطلح لا يؤدي على الإطلاق إلى الخلط في ذهني بين النثر والشعر، ولا أرى كذلك أن "الموسيقى أو الإيقاع أو العروض" شرط شارط للشعر، لأن الأخير عملٌ في المخيلة عبر اللغة، بخصائصه بالطبع المتصلة بالمجاز والاستعارة والصورة، وحتى الإيقاع الداخلي كما يقولون في قصيدة النثر لا أراه سبباً وجيهاً في إعطاء قصيدة النثر مشروعية في إطار الشعر، فالإيقاع الداخلي في قصيدة النثر أمرٌ متصلٌ باللغة ذاتها في منطوقها، وبالتالي فإن التركيز على الإيقاع كما يفعل النقاد هو هروب للأمام من الاعتراف بأن قصيدة النثر شعر بغض النظر عن أية أسباب إيقاعية من داخلها أو من خارجها، والأزمة في تعريف قصيدة النثر أوجدها المنظرون حولها أنفسهم وشعراؤها، حين دافعوا عنها بحكاية الإيقاع هذه في مواجهة العروض الخليلي، وحين اختلقوا مصطلحات لتبرئتها من النثر مثل أن يقول أحد النقاد "التشكيلات الداخلية" أي إسقاط الشكلاني في قصيدة النثر، على الجوهري فيها، أي الشعر، وبوسعي المُحاججة هنا أن تطور اللغة من المشافهة إلى الكتابة، كان لا مناص سيصل بنا إلى قصيدة النثر، سواء أجاءت من الغرب أو من الشرق أو نشأت في سياق الإبداع الشعري العربي، وعلى جانب السخرية لطالما سخرت قائلاً إن شاي الوزة مثلاً هو مجرد شاي ولا إوز في داخله، وهكذا قصيدة النثر هي مجرد شعر ولا نثر فيها، وأقبل المصطلح بدون هذا التشويش الممتد حولها كشعر أو لا شعر، وأكتب منطلقاً من مجاز اللغة في جُملها أو صورها أو من المجاز الكلي للنص، حين أنهيه مثلاً بصورة تضيئه من نهايته إلى أوله أو من أسفله إلى أعلاه، وبوسعي الادعاء أن قصيدة النثر تتيح احتمالات لا نهائية لكتابة القصيدة أو لكتابة الشعر، وأنها انتصار حاسم للشعر في جوهره على الأشكال الخارجية الصارمة للتنميط الشعري كالقصيدة العمودية مثلاً، لكن ينبغي التشديد على أنني أحترم التراث الشعري العربي العمودي القديم منه والمعاصر وكذلك شعر التفعيلة، وإن كنت لا أرى جدوى كبيرة في العودة إلى الشكلين العمودي أو التفعيلي في كتابة القصيدة، لأسباب كثيرة منها كما أشرت "جوهر الشعر ذاته في علاقته بمجاز اللغة" ومنها التطور، إلى ماذا؟ هذا احتمالٌ في المستقبل.
لا بد لي أن أقف لأنصت إليك وأنت تتحدث عن الشعر العربي منذ الينابيع حتى الآن لأنني أعرف أنك ستنصفه، فماذا تقول؟
ـ بدايةً أنا أحترم وأحب الشعر العربي قديمه وحديثه، وأرى فيه دائماً قيماً جماليةً رفيعة، وبغض النظر عن "الينابيع" فإنَّ ما وصل إلينا من امرئ القيس وحتى اليوم، لا يمكن الاستخفاف به بوصفه مثلاً "تراثاً بالياً" وأعتقد أن أي شاعرٍ لغته هي العربية، لا مناص من أن يكون على اطلاعٍ كافٍ بالشعر العربي، وليس الشعر فقط، بل المدونات الإبداعية في التراث العربي كالمقامات ومدونات المتصوفة، لما في تلك المدونات من تجليات جمالية تضيف إلى رؤية الشاعر للغة العربية وإحساسه بها، وأعتقد كذلك أن ضعف الكتابة الشعرية العربية الراهنة يعود إلى عدم الانخراط في الجذور العميقة لإبداع اللغة العربية من الجزيرة العربية إلى الأندلس، وحتى بغض النظر عن تواري القاموس القديم للكتابة الشعرية العربية، فإن الأهمية تظل قائمة في قراءة الشعراء العرب الذين أسهموا مساهمات حاسمة في الرؤي الجمالية والفلسفية والمجازية للغة العربية، وبشكل شخصي تحتل المعلقات مكانة خاصة في نفسي، والموشحات الأندليسة، وشعراء كمالك بن الريب، أو بشر بن عَوانة العبدي في قصديته:
أَفَاطِمُ لَوْ شَهِدْتِ بِبَطْنِ خَبْتٍ
وَقَدْ لاَقى الهِزَبْرُ أَخَاكِ بِشْرَا
إِذاً لَرَأَيْتِ لَيْثاً زَارَ لَيْثاً
هِزَبْرَاً أَغْلَباُ لاقى هِزَبْرَا
تَبَهْنَسَ إِذْ تَقاعَسَ عَنْهُ مُهْرِي
مُحَاذَرَةً، فَقُلْتُ: عُقِرْتَ مُهْرَا
أَنِلْ قَدَمَيَّ ظَهْرَ الأَرْضِ؛ إِنِّي
رَأَيْتُ الأَرْضَ أَثْبَتَ مِنْكَ ظَهْرَا .
وهذه القصيدة، عدا أنها تصويرٌ حيٌّ إن جاز التعبير، فإنها تنطوي على قيمة كبيرة في فهم الشاعر العربي لكُلِّيةِ الوجودِ بكائناتِه واحترام هذه الكائنات حتى في لحظة الانتصار عليها. ولا أريد أن أبدو كمَن يُلقي درساً، لكن السياق الإبداعي لأي شاعر معاصر يقتضي الاطلاع على تراث الشعر العربي القديم، ومنجز الشعر العربي الحديث، وكلاهما التراث والمنجز لا يقلان أهمية عن المدونات الكُبرى في الإبداع العالمي.
هل أستطيع أن أذهب معك الآن إلى الشعر العالمي ومدونات الإبداع الكبرى كيف قرأها وحاورها الشاعر إبراهيم المصري؟
ـ لم يحدث أن قرأت شاعراً عربياً أو غربياً بإحساس العجز عن كتابة ما كتبه، وإنما بإحساس المتفاعل مع رؤية شعرية وجمالية تخص هذا أو ذاك، وأحتقر كثيراً هؤلاء الذين يقولون، هل بوسعك أن تكتب مثل فلان أو علان، وإجابتي: ليس بوسعي بالطبع أن أكتب ما كتبوه، وما أهمية ذلك؟، وإنما بوسعي أن أكتب ما أراه أنا، وحتى في التفاعل مع الإبداع العالمي، فإنني لا أقيم مقارنات بقدر ما أحاول أن أرى كل نص في سياقه وزمنه، وعلى سبيل المثال "الأرض الخراب أو اليباب لإليوت، ومعلقة لبيد بن ربيعة عفت الديار محلها فمُقامها" كلاهما رؤية، وعلى سبيل المثال كذلك "الكوميديا الإلهية لدانتي ورسالة الغفران للمعري" كلاهما رؤية، وبالطبع يتأثر الإنسان بما يقرأ خاصةً إذا كان كاتباً، وهنا يمكنني القول إن الشاعر الفرنسي إيف بونفوا بترجمة أدونيس كان ذا تأثير في رؤيتي للشعر، وكذلك اللبنانية الراحلة ناديا تويني، وما أبحث عنه في مدونات الإبداع العالمي والعربي كذلك ليس "العبقرية" وإنما وجهة النظر الجمالية والإبداعية في الوجود والحياة، وقد يكون غريباً أنني ليست مفتوناً للغاية بالشاعر الفرنسي آرثور رامبو في شعره، وإنما مفتون للغاية برسائله إلى والدته التي ترجمها شربل داغر تحت عنوان "العابر الهائل بنعال من ريح" ولا أزال حتى اليوم أعيد قراءة هذه الرسائل، وثمة شاعر آخر من تشيلي.. ليس بابلو نيرودا.. كان ذا تأثير خاص كذلك في رؤيتي للشعر في علاقته بالقمع والاستبداد، وهذا الشاعر هو أرييل دورفمان في كتابه "الفالس الأخير في سنتياجو" ترجمة كامل يوسف حسين. ويمكنني أن أتحدث عن عشرات الكتب التي قرأتها من الشعر العالمي أو الإبداع العالمي أو الفكر العالمي وتحاورت معها من منطلق ما ذكرت عن الرؤية الجمالية أو الفكرية أو الإبداعية، وأحتفظ بتقدير خاص لكتب بعينها من هذه الكتب ومحبةٍ كذلك، وعلى سبيل المثال "رواية بيدرو بارامو للمكسيكي خوان رولفو بترجمة صالح علماني" و"مجنون إلسا للفرنسي لويس أراجون بترجمة سامي الجندي" وكتاب "مسخ الكائنات لأوفيد بترجمة ثروت عكاشة"
أفهمك جيداً، وأعرف أنك إنسان حر جداً وقريب جداً من الحياة كما هي، ومن الناس كما يعيشون، وإن شعرك ينسج حكاية الناس والحياة وينتصر للحياة وللناس، كما لم أجد هذا عند أحد من قبل، وهنا أسألك ماذا يخسر الشاعر الذي يتعالى ويبتعد وينأى وماذا يربح الشاعر الذي يقترب وينشبك؟
ـ قبل أي شيء آخر، ثمة وهمٌ كبير أن الشعراء لديهم ما يخسرونه أو يكسبونه بالبعد أو بالقرب من الناس، وقد يكون هذا غريباً كذلك، أنني وبالرغم من قرب نصوصي من الحياة والناس، إلَّا أنني تقريباً أعيش عزلةً تامة، لكنني متابع جيد جداً بالإضافة بالطبع إلى عملي كصحفي، الأمر الذي أتاح لي نافذة واسعة جداً لرؤية الحياة والناس في شرط الوجود المؤلم إن جاز التعبير. ولا أهتم كثيراً بهؤلاء الشعراء أو الكتاب الذين يظنون أنهم "مرتبة أعلى" على البشر، وفي الشأن العام أؤيد ما قاله الكاتب الألماني جونتر غراس، أنه يتصرف "كمواطن" وهكذا أتصرف أنا في الحياة وبين الناس كمواطن، وفي الشعر كشاعر لا يلزمه أن يكون متعالياً على الحياة والناس أو متصاغراً أمامهما وإنما يمشي معهما، وهكذا فأنا أمشي مع الحياة والناس بنصوصي، بغض النظر عمَّا إذا كان ما أكتبه يجد تفاعلاً كافياً لدى قارئ لا أراه ولا يراني، ومع ذلك وعلى مدى سنوات تلقيت رسائل من قراء يقولون إنهم تأثروا بهذا الكتاب أو ذاك، أو هذا النص أو ذاك، وهذه الرسائل هي ما أعتز به في عملي كشاعر وفي حياتي كإنسان. وعلى أية حال، وبغض النظر مرة ثانية عن القرب أو البعد عن الحياة والناس، فإنني أرى أن مادة الشعر الحقيقية هي "الحياة والناس" أو كما قلت في كتابي "الشعر كائن بلا عمل" الصادر عام 2009 عن دار بدايات في سوريا:
"الخيال.. ليس منزلَ الشعر كما يظنُّ المتقاعدون عن رؤيةِ الواقع هذا الذي يجري الشعرُ في شرايينه مثل دمٍ يجري في شرايين حوتٍ أزرق".
سؤالي الآن عن العمل الصحفي والعمل الشعري، كيف تؤاخي بينهما؟
ـ بعيداً عن "التهويل والتضخيم اللفظي والدلالي" التي يلجأ إليه الشعراء في إجاباتهم على أسئلة تتعلق بالشعر وعلاقته بالحياة والمهنة والعمل، فإنني ببساطة شديدة لا أجد ولا أقيم تعارضاً في الأساس بين عملي كصحفي وما أكتبه كشاعر، وإجمالاً، أكتب النصوص في البيت، وحينما أكون في العمل وإن طرأت على رأسي قصيدة، أدون أولها على هاتفي المحمول حتى أعود إلى البيت، وأكتب بدون طقوس وإن كان بتركيز شديد على النص، وفي العادة لا تستغرق كتابة نص معي أكثر من عشر إلى خمس عشرة دقيقة، ولا أساطير لدي حول طقوس الكتابة أو الإلهام أو الوحي أو الولادة إلى آخر كل هذه الإحالات الرثَّة كما أرى عن كتابة الشعر. وفي عملي الصحفي سواء أكان في موقع العمل أو من المنزل كما يحدث حالياً بسبب أزمة كورونا أركز تماماً في عملي، ولا أتصرف كشاعر في العمل أو في الحياة عموماً، أنا أحب الشعر وأكتبه ومهنتي التي أجلب منها رزقي ورزق أولادي هي الإعلام التلفزيوني، وأجد نفسي محظوظاً أن لدي مهنة تعينني على العيش والحياة، وهذا أيضاً ساعدني كثيراً في فسحة الحرية التي أراها في ما أكتب، بعيداً عن ضغوط لقمة العيش. باختصار: أنا إنسان يكتب الشعر ويعمل رئيساً لتحرير الأخبار في الإعلام التلفزيوني وهذا كل شيء.
كيف يقيِّم الشاعر إبراهيم المصري الشعر العربي اليوم، ما هي مشكلاته وما هي علاماته؟
ـ يبدو بشكل عام أن العقل العربي المعاصر، لا يمكنه الحياة بدون أزمة، بل بدون أزمات، وكأن ثمة لحظة في الحياة على المستوى الشخصي أو المستوى العام صافية من الأزمات والمشكلات كبيرةً كانت أو صغيرة، وبالتالي يسعى هذا العقل إلى بلوغ هذه اللحظة الصافية، ويسحب علاقته بالحياة ككل على كل شيء بما في ذلك الشعر، فنقرأ مثلاً عن "أزمة الشعر ومشكلاته" وكأننا عاجزون عن التعامل مع الشعر بما هو عليه في الواقع والإبداع بالفعل، ومن هنا يمكنني أن أقول إن تقييمي لواقع الشعر العربي اليوم، أنه بخير تماماً، مع ما يصاحبه من قضايا هي ذاتها قضايا أشكال أخرى من الإبداع، أي النشر والتلقي والنقد، أي المناخ الثقافي العام وأولويات الإنسان العربي في حياته ومعاشه، والتي قد لا يكون من بينها الشعر أو الفن التشكيلي أو المسرح أو السينما، والشعر كما قلت مراراً وتكراراً هو فن ذاتي للغاية، حتى لو تطرق إلى قضايا عامة أو وجودية، ولا أرى ثمة مشكلة طالما أن لدينا شعراء يكتبون ويبدعون، وإذ بوسعنا أن نتحدث عن النشر في العالم العربي بوصفه صناعة وتجارة وإعلاناً فإن وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت وفرا مساحات ومساحات لنشر النصوص الشعرية، وطالما يبحث الشعراء عن قارئ لنصوصهم، أو يأملون في ذلك، وكان هذا القارئ أو المتلقي موجوداً أونلاين، فإن قضية النشر تصبح أقل ضغطاً عليهم، وما يبقى لدينا من قضايا هو قضية النقد، وهي قضية ملتبسة للغاية، وبوسعي أن أقول إن النقد في العالم العربي متخلف عن الإبداع، وإنه مشين أيضاً في صور كثيرة تغلب فيها المصلحة والعلاقات الشخصية على التبصِّر الحقيقي للنصوص أو الكتب المنقودة، كما أن النقد العربي بشكل عام فيما يتصل بالشعر، لم يطور نظرية نقدية أبعد من الإسقاط الغربي أو نظريات الشعر العربية القديمة عند الجرجاني وغيره، وتلك مسألة تتجاوز النقد السائد بوصفه قراءات كتب شعرية، وأسوأ ما في النقد العربي الراهن في علاقته بالشعر هو ما يمكن أن نسميه "ميتافيزيقا النقد" أي الافتراض المسبق في ذهن الناقد مثلاً عن "المدينة في شعر الشاعر الفلاني، أو التفكيكية أو البنيوية" وتصل المصيبة في النقد إلى أن هذه الميتافيزيقات تصبح رسائل ماجستير ودكتوراه يحمل أصحابها ألقاباً علمية وجامعية لا جدارة لها ولا للرسائل ولا حتى لأصحابها. وإجمالاً الشعر العربي الراهن بخير، ليس بالتصور المثالي عن "الشعر" أو بما ندعيه عن مشكلات أو أزمات، وإنما بالأسماء التي تكتب الشعر من المحيط إلى الخليج، وهي أسماء وافرة العدد والإبداع والرؤي الشعرية.
أغتنم العودة إلى الحوار مجدداً فأسألك عن عامر الطيب، الشاعر العراقي: كيف ينظر إبراهيم المصري إلى تجربته الشعرية؟ وكيف يمكن لشاعر أن يتحدث عن شاعر تربطه به صداقة الحياة وصداقة الشعر؟
ـ لعلَّك تندهش إذا قلتُ لك، إنني وعامر الطيب لم نلتقِ في الواقع على الإطلاق، رغم سنوات صداقتِنا الممتدة عبر الفيسبوك، وشخصياً أتمنى أن ألتقيه، ليس هو فقط، وإنما أن ألتقي شعراء وشاعرات شباب بامتداد العالم العربي، أقرأُ لهم وأعتبرهم صورةَ الحاضر والمستقبل في الشعر، ورأيي الشخصي، أن عامر الطيب شاعر موهوب للغاية، ولا أريد أن أستخدم تلك الألفاظ التي أنفر منها في الحقيقة مثل "متفرد" وإنما يمكنني القول بثقة كبيرة، أن عامر إلى جانب آخرين كأيوب سعد ورشا الحمزة من العراق أيضاً، أو كإيناس صلاح الدين وعلاء الدين مصطفى وأسماء حسين من مصر، أو كأنيس سيلفر وسونيا فرجاني وسماح اليوسفي من تونس، أو كآخرين من المغرب والجزائر وليبيا والسودان واليمن ودول الخليج العربي وسوريا ولبنان وفلسطين، يُشكِّلون ما أسميه "صورة الشعرية العربية الراهنة" بتجاوزها بالفعل لما كتبه جيل الروَّاد وما بعدهم من أجيال، وأود أن أتمكن قريباً من الكتابة عن هذه الصورة بأسمائها على امتداد العالم العربي، وإن كان لي ملاحظة فهي أن النقد في وادٍ وصورة الشعرية العربية الراهنة في وادٍ آخر، وعلى حد معرفتي، لا يوجد ناقد عربي أخذ الشعر العربي الآن في تجليه في أصوات شابات وشباب على محمل الجد، وإن كان ثمة نقاد يكتبون عن كتاب هذا الشاعر أو ذاك، مُستخدمين عُدَّةً مقيتة وبالية في التعامل مع هذه الكتب، وحينما أقول عُدَّةً مقيتة وبالية، فإنني أقصد النمط الافتراضي المُسبق في ذهن الناقد عمَّا يريد أن يقوله الشاعر، أو تأويل الناقد بما في ذهنه في الغالب لا بما في النص، لهذه القصيدة أو تلك، وهو نمط مكرر منذ سنواتٍ طويلة في النقد العربي المعاصر، وأدَّى من بين ما أدَّى إلى جرائم تضخيمية لأسماء "كبار" لم يكونوا في أحسن أحوالهم سوى فاشلين في رؤية ما تحدثوا عنه طويلاً، أو تحدث به النقاد عنهم طويلاً أي "الحداثة" تلك التي أصبحت فرية كريهة يمكن تحميلها على ظهر أي شاعر وعلى ظهر أي كتاب شعري.
و لان الشعر موجود في حياة الشاعر إبراهيم المصري كالماء فمن المحبب أن نختم الحوار بقصيدته الرائعة عن النيل :
النيل
أعرفُ عن النيل
تلك الدفقةَ الشفافةَ على طميٍّ ناعم
وثمارَ توتٍ وجمَّيزٍ سابغةَ الحلاوة
وبطيخاً وشمَّاماً في الصيفِ وقطناً على مدِّ البصر
وبرتقالاً وقصباً وأسماكاً وجفافَ تِرعٍ في الشتاء
وأعرفُ النيلَ بحراً
في الوصيِّةِ الأولى لأوِّلِ فلاحٍ مصري
زرعَ قمحاً وشعيراً وبِرسيماً على ضفتيه
وأعرفُ النيلَ شادوفاً وهاويساً وماكينةَ رِيٍّ
وفأساً ومحراثاً ونورجاً وبهائمَ تجلبُ البركة
ووقوداً وحطباً وجِرارَ ماءٍ عذبةٍ
وأعرفُ النيلَ أعراساً بعد مواسم القطن
وغرقى في مائِه ومراكبَ وقلوعاً وعبَّاراتٍ وجسراً عالياً
لتوقِّي الفيضان
وأعرفُ النيلَ أمَّاً وأباً وجَدةً وجَداً
وعمَّاتٍ وخالاتٍ وسُقيا من الله
وأعرفُ النيلَ قرىً ومدناً ومساجدَ وأبراجَ حمامٍ وكنائس
وجسوراً وقناطرَ وسدَّاً عالياً
وذاكرةً خِصبَةً
في المرامي البعيدةِ لأعمارنا
وأعرفُ النيلَ نخلاً وكافوراً وسنطاً شائكاً
وحشائشَ نافعةً وأخرى ضارَّة
وأعرفُ النيلَ عمالاً وفلاحينَ وحكواتية
وسماءً وأرضاً وأغاني ومناديلَ أُويَة
ومسقطَ رأسٍ وحنيناً وأشقاءً وشقيقات
وأعرفُ النيلَ أخضرَ ومُلوَّناً في الربيع
وغيطاناً وأجراناً ومِذراةً وحصاداً
وآتياً وذاهباً وصيَّادينَ وفقراء
وعَيشاً ومِلحاً وعائلةً وعُشَّاقاً ونُدامَى
ومسلاتٍ وأهراماً ومعابد
وإيزيس وأوزوريس ونفرتيتي وأحمُس
وأعرفُ النيلَ بحراً في بحرٍ
آنَ مرجِ البحرين يلتقيان
وأعرفُ النيلَ وقتاً وزمناً ودهراً وأزلاً وأبداً
ومصاطبَ سَمرٍ ونومٍ وأفراناً وكوانينَ ومناقل
وأعرفُ النيلَ مزارعَ ومصانعَ ودكاكينَ وشوارعَ واسعةً وحواري
وطريقاً زراعيَّاً وع الزراعية يارب أقابل حبيبي
وأعرفُ النيلَ اسماً ورسماً وضفافاً وخرائط
ونبعاً ومَصبَّاً وشوقاً
وعبَّادَ شمسٍ وشمساً وقمراً ونجوماً ونوراً وظلاماً
وأعرفُ النيلَ حلماً
وقياماً مع الفجرِ وإنساناً وربَّاً
وأعرفُ النيلَ حُبَّاً وحَبَّاً وسكناً ومقابر
وأعرفُ النيلَ قلباً
حينَ يُنادَى على القلبِ باسمكِ يا مصر
وأعرفُ النيلَ مصرَ حياةً وصلاةً
ودعاءً وعَرقاً ولقاءً وفراقاً ومناجاةً ومواجع
وبلهارسيا وأنيميا ورغداً وثراءً وغرباناً وحدائدَ وهَداهد
ونساءً ورجالاً وشيوخاً وأطفالاً وشباباً وجنوداً وجيشاً وحدوداً
وأعرفُ النيلَ محروساً وحارساً وخالداً بأمرٍ من الله
باسمِكِ يا مصر.
عن صفحة وكالة نخيل عراقي