[ القضية: في مفهوم الشعر وقصيدة النثر الحداثية ]
1/ رأي الأستاذ عبد الرحمان الغندور.
[ مساهمة في الحوار الهادئ حول الشعر، من خلال العودة إلى التساؤل عنه، وعن تعريفه وخصائصه ومميزاته
أصرح منذ البداية، أني لست دارساً متخصصاً للشعر، ولا ناقداً ومحللا له، ولا حتى مدعياً بأني منتج أو مبدع له. وأحصر مساهمتي واهتمامي به، كمتذوق عاشق له، منفعل به، ومتفاعل مع ما يتركه في وجداني وعقلي من آثار.
كل تعريف وتوصيف للشعر واشتراطاته وطبيعته وأشكاله ولغته، هو منتوج الشروط التاريخية ( الزمنية والمكانية والثقافية ) التي أنتجته، وبالتالي فهو خاضع لكل المتغيرات التي تفرضها مختلف التحولات التي يعرفها الإنسان عبر التاريخ. وبالتالي لا يمكن للمتلقي أو الدارس والباحث، أو الشاعر نفسه، أن يعتمد على تعريف واحد يعتبره الجامع المانع للشعر، وما عداه مطروح خارج دائرته، مما يحنط الشعر نفسه ويفرض "قدسية وهمية" على تعريف هو في أصله معطى تاريخي خاضع للتحولات الزمانية والمكانية والثقافية.
وإذا اختلف الباحثون والدارسون والمتذوقون والشعراء أنفسهم، في الاتفاق على تعريف واحد للشعر، وهو أمر مشروع، فليس هناك اختلاف بينهم في أصله ومنبعه والرحم الذي يخصب فيه.
يتفق الجميع بدون استثناء، على أن الشعر هو "فن" من فنون القول، وقد يكون سيدها عند البعض، مما ينقل السؤال المرجعي من سؤال ما الشعر؟ إلى سؤال ما الفن ؟
لن نختلف إذا أقررنا أن الفن واحد في جوهره، ومتعدد في أشكاله وصفاته وأدوات إنتاجه... فهو في المسرح، والأدب عموماً، شعراً ورواية وقصة وأقصوصة، وهو في النحت، والرسم والتشكيل، والموسيقى، والرقص، أو السينما، والخياطة، بل وفي الطبخ والحلاقة وكل مجالات الهندسة والمعمار والتزويق والتنميق... إلخ.
ولن نختلف حين نقر أن مصدر كل الفنون هو ما تلتقطه الحواس وتستشعره النفوس وتعيه العقول... وكل هذه الالتقاطات في مجموعها من مكونات الطبيعة والإنسان، ويمكن اختزالها حسياً في الألوان والأصوات والحركات، وما تثيره فينا هذه المرئيات والمسموعات من أحاسيس ومشاعر، وما تولده في عقولنا من تساؤلات ورغبات معرفية.
الشعر بهذا المعني هو واحد من هذه الفنون، وهذا هو أصله المرجعي.
فما هو الفن الذي لا يمكن أن يكون الشعر بدونه؟
والفن عندي وعند الكثيرين، إبداع للجمال، والجمال هو ما يثير فينا الشعور بالإعجاب، والإعجاب هو ما يمنحنا عند التلقي حالة من الرضى والارتياح، دون أن يمنحنا أبداً حالة الإرتواء والإشباع.
وعلى هذا الأساس، فالشعر، باعتباره أحد فنون القول، هو إبداع للكلام الجميل الذي يحقق الإعجاب بما يمنحه من مشاعر الرضى والارتياح.
والشعر باعتباره إبداعاً لغوياً للجمال، لا يمكن أن يكون استنساخاً لهذا الجمال... إنه الخلق المبتكر للكلام الجميل، كما هو الأمر في كل الفنون الأخرى، في جميع أجناس الأدب، أو في ألوان اللوحات وشطحاتها، وتجليات المنحوتات أو حركات الرقص أو سينوغرافيا المسرح أو سيناريوهات السينما، أو أصوات الغناء، ومقامات الموسيقى وإيقاعاتها...
العبرة عندي، في المنتوج الشعري، هو ما تحققه الكلمة من مشاعر الرضى والارتياح عبر صياغتها ولغتها وبلاغتها وبديعها ومجازها واستعاراتها، وقدرتها على أن تستوطن المشاعر وتحرك المخيال وتجعلني أشارك الشاعر إحساساته وتصوراته، أو تفرض علي إحساسات وتصورات جديدة بفضل ما تثيره لدي من إعجاب.
انطلاقاً من هذا التحديد، يبدو لي أن التمييز في أشكال الشعر بين قديمه وحديثه، موزوناً أو منثوراً، مقيداَ أو متحرراً، هو تمييز ليس حول أحقية شكل ما باحتكار دائرة الشعر، بل هو تمييز تاريخي لتطور الشكل الشعري في بناء القصيدة، وليس تجاوزاً لجوهرها القائم على إبداع الكلام الجميل الذي يحقق الإعجاب ومشاعر الرضى والارتياح، بغض النظر عن التزامه ببحور االخليل واحترام الروي والإيقاع، كما حققه الشنفرى، وتأبط شراً، وطرفة بن العبد، وعنترة، وزهير، والنابغة، وامرؤ القيس، وعمرو بن كلثوم، وكعب بن زهير، والحطيئة، وحسان بن ثابت، وجميل بن معمر، وقيس بن الملوح، والبحتري، وأبو تمام، وأبو فراس، وابن خفاجة، وابن زيدون، وابن هانئ، والمتنبي، وأبو العلاء، وابن عربي، والحلاج، وجلال الدين الرومي، والخيام، والبارودي، وشوقي، وعمر أبو ريشة، وإيليا أبو ماضي، وجبران خليل جبران، ونازك الملائكة، وفدوى طوقان، والسياب، وصلاح عبد الصبور، والبياتي، ونزار، ومحمود درويش، وأدونيس، وأمل دنقل، وأحمد دحبور، وأحمد مطر، ومظفر النواب، وأحمد المجاطي، وعبد الله راجع، وعبد الكريم الطبال... إلخ، واللائحة غير قابلة للحصر، وتمتد لتشمل الكثيرين والكثيرات من الشعراء والشاعرات.
ليس من دواعي الشعر، باعتباره إبداعاً، أن ينتج الشاعر ما يرضي الناس، وإلا سيتحول المنتوج إلى بضاعة سوقية يحكمها قانون الحاجة والعرض والطلب والإشباع الآني.
الشعر ليس قيمة استهلاكية تكبر قيمتها أو تتضاءل، أو تنتهي صلاحيتها والحاجة إليها بعد تلبيتها فتفقد قيمتها.
الشعر بما هو إبداع، إنتاج يرضي عقل المبدع ووجدانه، وكلاهما مشبع بحب الطبيعة والإنسان والحياة... آنذاك يكتسب قيمته وخلوده... لأن الحب مثل المعرفة لا شواطئ لهما ولا حدود تفصل بين مكوناتهما.
لا إبداع بدون عقل عارف يهيم بحثاً في مسارات المعرفة...
لا إبداع بدون وجدان صادق يحب بدون حدود...
ليس مبدعاً من لا يحس بالرضى والارتياح لإبداعاته قبل أن يرضى ويرتاح لها الآخرون، دون انتظار تلبية الحاجات البعيدة عن العقل والوجدان...
ليس مبدعاً حقاً من لا يجعل فنه جملة اسمية مبتدؤها وخبرها هو العشق العارف والمعرفة العاشقة للطبيعة والإنسان والحياة.
هو ذا الشعر في تقديري... وهو ما يستحق قيمة الخلود وما أكده تاريخ الفنون... وما عداه ليس أكثر من منتوج يحتاج لاسم آخر غير اسم الشعر.
عبد الرحمان الغندور.
المغرب.
Abderrahmane Rhandour