رسالة مفتوحة إلى محمود درويش في أبده....

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رسالة مفتوحة إلى محمود درويش في أبده....

    رسالة مفتوحة إلى محمود درويش في أبده....

    صلاح بوسريف

    العزيز محمود. ها أنت ترى ما بلغناه من سَخَف، ومن ضَيْق وحرج، بل حَنَق، بفكر انْتِكاسيّ، يتقهقر، يُجْهِز على كل ما عمِلَت الحداثة على فتحه من كُوى في السُّور العريق الذي كان وما يزال يُطْبِق على فكرنا وخيالنا، يُصادر الحق في الرأي، وفي الإضافة والاختلاق. هل كان ممكناً أن تتصوَّر أن أعمى يقود مبصرين، يسيرون خلفه، كما لو أنَّه من يرى الشمس، وهو آتٍ من مغارة، ما زالت ظلمتها في عينيه، لم يفتحهما بما يكفي لأنه لو بلغ الشِّعْر حقّاً، أو المعرفة به، لكان مثل غيره، له وجود في هذا الوجود، لا في الشِّعر فقط !؟

    الأعمى محمود، ليس من فقد البصر، تعرف هذا، بل من فقد البصيرة، حتَّى والشمس تشرق عليه، فهو لا يراها، لأنَّ كثافة الظلمة في ذهنه، هي ما منع، وإلى الأبد، أن يرى ويسمع، ما جعله آفَةً على نفسه، قبل أن يكون حَجَراً أو هاوية في طريق غيره.

    أعرف العزيز محمود، أنَّك سبقتني إلى نقد تجربتك، حين كانت، في سياقها النضالي الذي كان هو الوضع العام في العالم العربي، إبان فترات المُقاومة والنضال ضد الاحتلال، والأنظمة والديكتاتوريات الفاسدة، وهو ما عبَّرْتَ عنه في حوار لك لم يقرأه الكثيرون، كان صدر في مجلة «الشعراء» التي كانت تصدر عن بيت الشعر بفلسطين، في عدديها الرابع والخامس من سنة 1999: «آن لشعرنا أن يشتبك مع سؤال الوجود والمأزق الإنساني، مع سؤال الدائم الإنساني الذي ليست له علاقة مباشرة بالاحتلال ولا بالتحرر ولا بالوطن ولا بالمنفى ولا بالدولة ولا بالحكم الذاتي». لكن مشكلتنا، وأنت، مثل غيرك من الشعراء والمفكرين والفنانين، من كنتم تعرفون خطر الكلمة في اللسان، أو على الورق، وكنتم تتكلمون وتكتبون، دون أن يستميلكم التَّطاوُل والغطرسة والادِّعاء والتَّهافُت والتجريح، وإشهار الحروب القذرة على من اختلفوا عنكم، وليس معكم فقط، لأنكم كنتم تنظرون إلى المستقبل، لا إلى الماضي، وحتَّى الماضي، قدَّرتموه بنفس العمق الذي به رأيتم المستقبل، لكنه الماضي الذي لا يمضي، ما تبقَّى منه، وسيبقى، مثلما في شعرك، وفي شعر غيرك ممن ذكرتُهم في الحوار، وأضيف، بدر شاكر السياب، والبياتي، وأدونيس، وصلاح عبد الصبور، وسليم بركات، وحتَّى من ما زالوا يكتبون اليوم، بحثاً عن هذا المُتَبَقِّي، الذي هو في جوابك «سؤال الوجود والمأزق الإنساني» أو «الدائم الإنساني» الذي ليس لحظة، أو هبَّة ريح، لا تفتأ تتبخَّر بأول جُرْعَة تخرج من رمادها.

    مشكلتنا، صديقي، أن السلفية شرعت تغزونا من داخلنا، ممن اختلط عليهم أمر الدين والشِّعْر، واختلط عليهم النقد والحقد، جاؤوا من التقليد مُدَّعِين الحداثة، تلتبس في عقولهم الشمس، رأوْها طيف مجرة سقطت في الماء، بل فيما سكنوا فيه من بِرَكٍ آسنة سوداء. وكنتَ، في نفس الحوار قلتَ، وأنت بصدد الحديث عن صدمة «سرير الغريبة»، للذوق العام، «بما أنَّ النظرة التقليدية تتوقَّع مني أن أكون ناطقاً باسمها، فأتحدَّث عن همومنا السياسية بعد أوسلو، لم تجد توقعها، فقد تُصاب بالصدمة، هذا هو الجانب السلبي للذائقة القديمة، بل إنها ليست ذائقة، هي الفهم القديم للشِّعْر، وهو أن على الشاعر أن يرد على الأحداث، وأن يقدم مرافعة شعرية مع أو ضد ما يجري».

    كنت، في هذا المعنى، وفي غيره مما لا يعرفه، ولم يقرأه من يدافعون عنك بجهلهم بك، وبشعرك ورأيك، وجهل طبيعة الرؤية والفكر، في تكوينك، وفي رهافة اللغة، كما كنت تتحسَّسُها، وتشتبك معها، لتقول غير ما رغب فيه من سعوا إلى حشرك في زاوية العابر الميَّت الفاني، أكثر حداثة من الحديثين، بل بعض الحداثيين أو المحدثِين. أدركتَ هذا قبلهم، قُلْتَه، قبل أن تنزل إلى مائك، لتنام في شفافته، وأنت تضحك، بل تسخر ممن ظفروا بك، توهُّما، وظنُّوا أنهم يحيونك، وهم يمعنون في قتلنا، نحن من آمنا بالأبدي، من الشعراء، ومن غير الشُّعراء، ونحن، على أيٍّ، قِلَّة، وسنبقى، ما دامت البِرْكَة تغرق في سَبَخِها الذي طفا في الهواء، كما تطفوا الجثت المُتحلِّلَة، التي فقدت الحركة، في سطح الماء، تلهو الريح بها، وثمَّة من يظنها تمشي وتتكلَّم، يتبعها، لا يلوي منها على شيء، سوى على ما بقي منها من رماد.
يعمل...
X