علي أديب
/محرر سياسي
الخميس 6 يوليو 2017 م
في مقهى "كريستال بالاس" في طهران في منتصف الخمسينات، كان موعد الفنان الكوميدي ولاعب الأكروبات الإيراني صابر أتاشين ليقدم فقرته الليلية للجمهور. أحس الفنان بحرقة في القلب استدعت نقله إلى المستشفى فوراً، وبقيت فقرته المقررة للجمهور خالية. تذكر صاحب المقهى ابنة الفنان، فائقة الطفلة ذات الخمس سنوات، وكيف كانت ترافق أباها مقلدةً بعض الأغاني والحركات التي يقوم بها. انطلق إلى غرفتها وأوقظها من النوم لتنقذ الموقف. أخذها معه إلى المسرح لتقدم ما كانت تفعله كهواية في السابق، إذ تؤدي فقرة من البرنامج الترفيهي للجمهور، وهي واقفة على كرسي كي يراها الناس. كانت تلك الليلة هي الانطلاقة الفنية لكوكوش التي لم تغادر المسرح ولا الشهرة حتى الآن.
ولدت كوكوش في طهران عام 1950 من أبوين آذريين، وفي سن مبكرة انفصل والداها. فقدت كوكوش أمها وبقيت تعيش مع والدها الذي اكتشف موهبتها منذ الصغر، فاعتنى بتدريبها وتعليمها الغناء والرقص.
كوكوش مع والدها
بعد أن قدمت عرضها الأول في الليلة التي مرض فيها والدها، زادت شهرة الطفلة الموهوبة يوماً بعد آخر، وبدأ الناس بتوافدون لمشاهدتها تغني على المسرح، مما رفع أجرها إلى مستوى أعلى من أجر أبيها. في سن الثامنة، ظهرت كوكوش في أول فيلم لها بعنوان "أمل وخوف"، ثم تتالت أفلامها لتصل إلى 25 فيلماً، آخرها عام 1978.
هذه البداية المبكرة لنشاطها الفني من سن الطفولة حرمت كوكوش من إكمال تعليمها المدرسي، ولكن التعليم الذي تلقته من أساتذة آخرين عوضها عن الدراسة التقليدية. فقد التف الملحنون الإيرانيون حول هذه الموهبة الصاعدة التي لفتت الأنظار إليها بصوتها العذب وأدائها المتميز، والروح الجديدة التي بثتها في الحياة الفنية، وفي موسيقى البوب في إيران.
أصبحت المطربة الشابة الجميلة محط أنظار الشباب والشابات على حد سواء. كان جمالها وحضورها المسرحي الطاغي يشدان المعجبين، وكانت ملابسها العصرية وتسريحات شعرها التي تلائم الموضة آنذاك في الستينيات والسبعينيات نموذجاً للمرأة الأنيقة الجميلة التي تودّ كل الشابات أن يقلدنها.
من تركيا إلى أمريكا وليس في بلده... يصدح المطرب الإيراني مهدي يرّاحي بالأذان
عن السنين التائهة من حياة گوگوش في طهران بعد الثورة الإسلامية
هايده.. تلك المطربة الإيرانية التي لا يزال شباب الأندرغراوند الطهراني يردد معها أغاني الاستسلام للسُكر والحب
تجاوزت شهرة كوكوش إيرانَ إلى بلدان عربية مثل العراق، حيث كانت أغانيها في السبعينيات تذاع في التلفزيون وتباع في أشرطة الكاسيت في الأسواق، رغم عائق اللغة، وهو ما يؤكد عمق الموهبة التي لا تعترف بحواجز اللغة. كما انتشرت أغانيها في بلاد مجاورة عديدة مثل أفغانستان وباكستان وبين كثير من مواطني الخليج العربي المنحدرين من أصول إيرانية.
لا يبدو على ملكة البوب الإيرانية كوكوش، وهي في الـ67، أنها فقدت شيئا من حلاوة صوتها وجاذبيتها وحضورها
كيف يمكن لحكومة أن تسجن صوتاً كصوت كوكوش مدة عقدين، وتحرم العالم من أحد أجمل رموز إيران في العصر الحديث
غنت كوكوش بلغات عديدة إضافة للفارسية، كالعربية والإنكليزية والفرنسية والأرمنية وغيرها. تنوعت الألوان الغنائية التي أدتها، من الأغاني ذات الإيقاع السريع الراقص، إلى أغانٍ ذات روح شرقية، وأيضاً أغانٍ رومانسية حالمة قريبة من مدرسة المغنية الفرنسية إديث بياف.
ونظراً لما أدخلته من تحديث على التذوق الموسيقي في إيران حين مزجت أنغام البوب الغربية بالكلمات وروح الأداء الشرقية، أصبحت كوكوش رمزاً للحداثة والتوجه العصري الذي كان يسعى نظام الشاه محمد رضا بهلوي إلى نشره. وأصبحت مطربة العائلة المالكة والبلاط الإمبراطوري المفضلة وغنت في عدة مناسبات أمام الشاه وعائلته.
حين اندلعت الثورة ضد الشاه وتهاوى نظام حكمه كانت كوكوش في لوس أنجلوس، ولكنها قررت العودة بسبب الحنين إلى الوطن. سجنت بعد عودتها لفترة قصيرة وتم إطلاق سراحها لاحقاً. وبعد إعلان الجمهورية الإسلامية منعت من الغناء واضطرت إلى ملازمة منزلها منذ عام 1979 حتى عام 2000، حين سمحت لها الحكومة الإيرانية بمغادرة البلاد. في يوليو 2000 بدأت أولى حفلاتها بعد غياب لأكثر من عقدين في كندا، حيث حياها الجمهور الذي بلغ 15 ألفاً بتصفيق عاطفي حار وقوفاً لمدة 10 دقائق، وأنهت رحلتها الفنية آنذاك بحفلتين في دبي.
شهدت حفلاتها إقبالاً منقطع النظير، وكأن السنوات العشرين لم تؤثر في شعبيتها، بل على العكس زادتها تألقاً. ويبدو أن طعم النجاح الساحق الذي حققته كوكوش شجعها على البقاء خارج إيران وأعاد الحياة للنجمة التي كبّلت الحكومة صوتها لعقدين. أعلنت كوكوش وقتها أنها ستتبرع بجزء من إيراد حفلاتها للأطفال الفقراء في إيران.
في عام 2009 وبعد ما سمي بالثورة الخضراء في إيران، شاركت كوكوش في وقفة احتجاجية أمام مقر الأمم المتحدة للتعبير عن تضامنها مع أمهات من قتلوا برصاص قوات الأمن الإيرانية آنذاك، والمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين في التظاهرات التي أعقبت خسارة المرشح الإصلاحي مير حسين موسوي في انتخابات الرئاسة. في الأعوام التالية، طافت كوكوش دولاً عديدة مستقطبة جمهوراً واسعاً، إذ أقامت حفلات في كردستان العراق، ومسرح ألبرت هول الشهير في لندن، ومسرح نوكيا في لوس أنجلوس.
ومنذ عودتها إلى الغناء، أصدرت كوكوش سبعة ألبومات غنائية تنوعت ألوانها بين الأغاني الشرقية الطابع والغربية الإيقاع. في ألبومها السادس "إعجاز E’jaz"، لحنت كوكوش قصيدة لجلال الدين الرومي اسمها "أنا وأنت Bi manoto" وحرصت فيها على إعطاء كلمات الحب الشاعرية لحناً مغرقاً في روحانيته وشرقيته.
لا يبدو أن ملكة البوب الإيرانية، وهي في السابعة والستين من العمر، قد فقدت شيئاً من حلاوة صوتها وجاذبيتها وحضورها الطاغي على المسرح، فهي في هذا العمر لا تزال تتدفق حيوية وطاقة، كما أنها تستنطق حناجر الجمهور بآهات الإعجاب بأدائها الغنائي الراقص المبهج.
والأهم من هذا أن حضور كوكوش يعيد إلى الحياة أمام الناس صورة إيران الحديثة الحضارية التي يتباهى بها أبناؤها باعتبارهم ورثة فارس العريقة في الأدب والفنون. فكوكوش هي المرأة الإيرانية الجميلة، المتحررة، ذات الموهبة اللامعة في مقابل المرأة المتسترة بالشادور والحجاب التي فرضتها الحكومة الإسلامية بعد الثورة. كوكوش هي الانطلاق في مواجهة القيود، هي الألوان الزاهية في مقابل الرداء الأسود، هي الصوت الصادح في مقابل الصوت العورة. كوكوش التي لا تزال تتنقل كالفراشة على مسارح العالم وبين عواصمه هي خير نموذج للفنان حين يتحول إلى رمز يعبر عما هو أكبر وأعمق من مجرد تسلية أو صوت جميل.