رحلَ أخيراً الفنّان المُغترب والمّهرّج الحزين بيتر برُوك!
لندن: علي كامل
”أنا بريطاني مائة بالمائة ولكن البلد الوحيد الذي لم تستطع عروضي المسرحية أن تجد لها حيزاً فيه هو بريطانيا“.. قالها بيتر بروك بنوع من الوجع والمرارة!.
”.. آه يا بيتر، إنك لازلت طفلاً“.!
بهذه العبارة المبتسرة خاطب الممثل البريطاني الراحل السير جون جيلجود رفيقه القديم في حقل الإبداع بيتر بروك بعد غياب عن المملكة المتحدة استغرق عقدين ونصف وهو يدير المركز العالمي للبحوث المسرحية في باريس.
قيلت هذه العبارة عام 1994 في حفل الاستقبال الذي كُرّس لقدوم بروك وعرضه الجديد ”الرجل الذي...“ يومها تلقفتها الصحافة البريطانية مطلقة على هذا المغترب والمهرج الحزين لقب ”الطفل العبقري“.
أما تلميذه المخرج تريفور نان الذي كان قد شغل حينها منصب المشرف والمخرج الفني للمسرح الوطني البريطاني يومها فقد اختتم كلمة الافتتاح قائلاً:
”أبانا الروحي!. أما آن الأوان أن تعود إلى وطنك.. عُد.. أرجوك، إننا بأمس الحاجة إليك!..“.
***
كان بروك منذ طفولته في علاقة حُبٍّ مع المسرح:”في طفولتي كان والداي يصطحباني إلى المسرح لمشاهدة العروض المسرحية، وحين بلغت العاشرة من عمري، قدمّتُ لهما (هاملت) في مسرح دمى صغير عملته بنفسي في المنزل وقد صنعت الشخصيات من ورق المقّوى ومواد أخرى كنت أقوم بتحريكها بيد وأقرأ أدوار النص باليد الأخرى“.
جلس بيتر الصغير أمام آلة البيانو في سن الثانية عشرة ليعزف سوناتا فاسيلي موتسارت لمعلمته الجديدة ڤيرا ڤينوغرادوڤا، التي يتذكر نصيحتها حتى الآن وهو بهذه السن:
”حين تَلمسُ أصابعكَ النوتة الموسيقية، إصغي إلى الصوت الذي أَحدَثَتهُ أصابعك، ولا تدع أي توترّات تحدث لك في الكتفين والذراعين والأَصابع. بهذا تكون قد أدّيت مَهَّمتك على أحسن وجه. فقط دعها تتدّفق“.
ولم تكتفِ ڤيرا ڤينوغرادوڤا بذلك إنما أوصته أيضاً بضرورة أداء كل مقطوعة يُتقنها إلى الآخرين: ”السبب الوحيد لتعلّم الموسيقى، هو ليس لأجلك فقط، إنما من أجل أن يُشاطرك بها الآخرين“ ثم يضيف بحماسة يافع:”إن كُلّ ما قمتُ به منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا قد نما من دروس مُعلِّمتي تلك: المُشارَكة، الشدّة، الإصرار على التدّفق، مغادرة التعلّم عَبر التكرار المعتاد أو الفهم على ظهر قلب“.
وُلِدَ بيتر في لندن في 21 مارس 1925 لأبوين يهوديين مهاجرين من لاتفيا. هاجر والده سيمون، المتمرد الشاب الذي كان ينتمي إلى حزب المنشفيك في عام 1907، برفقة زوجته الشابة إيدا إلى باريس ومن ثم بلجيكا، وفرارهما إلى إنجلترا عند وصول الجيش الألماني إلى بلجيكا عام 1914، واستقرارهما في ضاحية Chiswick غرب لندن.
كانت الثقافة الروسية لا تزال حاضرة بقوة وسط أسرته، وكادت أن تلازمه بشكل حميمي طوال حياته، كمفتاح أساسي لفهم رجل منفتح ومغامر بشكل هائل.
في فتوته كان بيتر شغوفاً بالتصوير الفوتوغرافي والسينما، وكان يكره النظام التعليمي البريطاني. حين سئُل مرةً عن سبب عدم تطرّق التأريخ الإنجليزي له كثيراً أجاب:”لقد نشأت في المدارس الإنجليزية العامة، ومنذ البداية لم أكن مؤمناً، حقيقةً، بما كانت تعلّمني إياه تلك المدارس، ولم يعجبني قتالهم من أجل ترسيخ التقاليد التاريخية لإنجلترا“.
كان الفتى يأمل أن يُصبح مُخرجاً سينمائياً، لكن حين بدا له عالم السينما ميداناً يتعذر الوصول إليه، استدار برفق نحو المسرح أثناء دراسته الأدب الروسي في جامعة أكسفورد ليثير الاعجاب منذ البدء حين شرع عام 1946، وهو في سن الحادية والعشرين من العمر، في إخراج أول عمل له وهو مسرحية (خاب مسعى الحب love’s Labour’s Lost) لوليم شكسبير، الكاتب الذي لم يتوقف عن مواصلة بحثه طوال حياته، والذي سيُصبح نقطة ارتكاز لجميع تأملاته وتفكيره حول المسرح.
في الثانية والعشرين من عمره أخرج مسرحية ”روميو وجوليت“ العمل الذي
شهد أول عرض لها في مدينة شكسبير ستراتفورد أبون أفون. وفي سن الثالثة والعشرين تم تعيينه مخرجاً ومدير إنتاج في دار الأوبرا الملكية في Covent Garden، لكن سرعان ما تمَّ إبعاده بعد بضعة أشهر بسبب خرقه لأعراف تلك المؤسسة الكلاسيكية العريقة من خلال عمله المسرحي (سالومي) لريتشارد شتراوس الذي صممَّ السينوغرافيا
شتراوس الذي صممَّ السينوغرافيا السوريالي له سلفادور دالي. يومها أُطلق عليه ”الولد الشقي“ حيث واصل عمله بدون مخاوف أو تردّد سواء في المسرح المؤسسي أو التجاري.
بدأت علاقة بروك بالمسرح تتغير بشكل محسوس منذ منتصف الخمسينات فصاعداً، وقد فتح ذلك المنحى شوطاً طويلاً من الابتكار ما جعل منه أحد الشخصيات الأساسية في التحوّل المسرحي البريطاني في النصف الثاني من القرن العشرين.
جولاته المكوكية خارج المملكة المتحدة بحثاً عن فضاء آخر وملاقاة جمهور آخر، استهلها أولاً إلى نيويورك ليعمل في أوبرا ميتروبوليتان، ومن ثم إلى باريس حيث
أخرج مسرحية ”قطة على صفيح ساخن“ لتينسي وليامز، و ”منظر من الجسر“ لآرثر ميلر، ومسرحية ”شرفة“ للكاتب الفرنسي جان جينيه، التي لم تكن قد قُدّمت بعد على خشبات المسرح الفرنسي!.
أما العلامة المميزة والنقطة المضيئة في تأريخ المسرح البريطاني، فقد تجلّت في عرضه الشكسبيري ”تيتوس أندرونيكوس“ لفرقة شكسبير الملكية، الذي فرض من خلاله رؤية جديدة لشكسبير ووضع الحجر الأول لتلك البساطة الخالصة المصقولة التي ستُصبح جوهر فنه إلى آخر يوم في حياته.
لقد نهل بروك خزينه الخصب من مصادر ثقافية متعددة، لعل أبرزها كتابات روّاد الحداثة المسرحية أمثال فيسفولد مايرهولد، جوردون كريج، وأنطونيو آرتو ومسرحه (مسرح القسوة)، فضلاً عن ابتكارات ”المسرح الحي“ في أمريكا، وأبحاث جيرزي جروتوفسكي ونظريته (نحو مسرح فقير). وقد كانت المحصّلة استراحة نهائية للمسرح الرسمي أو وضع المسمار الأخير في نعشه.
حاز عمله مارا / صاد للكاتب الألماني بيتر فايس على جائزة Tony Award كأفضل عرض وأفضل مخرج في برودواي عام 1964. وقد واصل عروضه
الشكسبيرية تباعاً: (العاصفة) ، (الملك لير)، فضلاً عن (حلم منتصف ليلة صيف) ثم عمله المميز (أنطوني وكليوباترا).
عَبَرَ بيتر بروك القنال الإنكليزي عام 1970 متجّهاً صوب باريس على إثر دعوة شخصية وجهّها له الممثل الفرنسي جان لوي بارو، هناك حيث التقى فكتور جارثيا، جو تشايكين، رائد المسرح المفتوح، وجو فري ريفز، وشكلّوا مختبر بحثهم المسرحي. يومها قرّر بروك البقاء في باريس لأسباب عدّة، أبرزها انبثاق موجات وأصوات جديدة تزامنت مع تفجّر التظاهرات الطلابية هناك، فضلاً عن توفر فرص العمل بحرية افتقدها في بلاده، حيث كانت تسود المسرح البريطاني إدارات بيروقراطية من بقايا لجنة الرقابة ورئيسها سيء الصيت اللورد تشيمبرلين.
أسسَّ بروك بعد عامين من ذلك التأريخ مركزه العالمي للبحوث المسرحية بمنحة مالية قدرها مليون دولار قدمتها مؤسسة گراند فورد، وكان هدف المركز تشكيل فرقة مسرحية أممية تضم ممثلين وراقصين وموسيقيين وأوكروبات وممثلي بانتوميم من أقطار وأجناس مختلفة متعددة الثقافات غرضها تحدّي الكليشات التقليدية في ميدان الدراما والعرض المسرحي، فضلاً عن كشف خُدع المجتمع الصناعي وضَلالاته.
بهذه الفرقة المتعددة الأعراق والثقافات كان بروك يسعى إلى البحث عن لغة مسرحية عالمية تشكل جسراً وحواراً إنسانياً لتلك الشعوب والثقافات.
لقد باشر عمله في استخدام تقنيات غاية في التنوع والابتكار للكشف عن مصادر جديدة للتعبير المسرحي في مجال اللغة والحركة والصوت والمكان، أسهمت جميعاً في العثور على أشكال درامية عَبر الرقص الكاثاكالي والسيرك والأقنعة
والمهارات الأخرى. أمّا العناصر الجوهرية التي اعتمدها في ولادة الحدث المسرحي، فهي الارتجال وعدم الخضوع لعبودية النص المكتوب، وتفجير المخيلّة الجماعية لطاقم العمل المسرحي، والتزاوج والتناغم السري بين مُخيّلة المُؤدّي ومُخيّلة الكاتب.
وعلى عكس السائد، اتجّه بروك نحو القرى البدائية بحثاً عن نوعية عفوية من الجمهور لم تلوُّثه يد الحضارة الغربية بعد، وهذه النزعة يمكن أن تُعزى إلى تأثير ”مسرح القسوة“ لأنتوين آرتو، الذي كان يسعى إلى لغة صافية ومتفرج بدائي.
لقد اخترقت فرقة بيتر بروك تلك بمركبتها العتيقة القرى الأفريقية واستراليا والهند وإيران وصحاري الجزائر، وامتزجوا بشعوب تلك البلدان، شاهدوا طقوسهم وعاداتهم وسمعوا قصصهم وأساطيرهم، ومن ثم دوَّنُوا وارتجلوا ما شاهدوه وسمعوه، أمام ذات الجمهور. عُدّتهم الحقيقية هي المُخيّلة، أما
مسرحهم فقد كان عبارة عن سجَّادة يفترشونها على الأرض في أي مكان يُقيمون فيه ويُباشرون ارتجالاته المدهشة تلك.
هؤلاء الرحَّالة يُذكرّونني بمقطع من قصيدة لأبولينير يقول فيه:”… نحن الطالبين في كُلِّ مكان غِمار الأُفق، لسنا بأعداءٍ لكم، نريد أن نمنحكم كُلَّ الرحاب الغريبة، حيث يزدهرُ السرَّ الخفيّ ويُبيح نفسه لمن أراد اجتنابُه…“.
حين تشتد بفريقه بعض الأزمات كان بروك يشُدُّ من أزرهم بهذه الكلمات: ”… علينا أن نقوم بعمل يشبه وخز الشرايين بالإِبر“.
على الرغم من الخسارات التي تكبدّها الفريق، حيث أصابت حُمّى الملاريا في بعض القرى الأفريقية عدداً من الممثلين مات قسم منهم، كذلك فقدانهم لبعض مركباتهم، فضلاً عن ردود الأفعال غير المتوقعة والمرهقة من جمهور بدائي، إلا أنهم مع ذلك استطاعوا أن ينجزوا عروضاً تجريبية مذهلة، نذكر منها مسرحية ”أورگاست“ عن الكتاب المقدس للديانة الزرادشتية (أفستا)، العرض الذي تم تقديمه في إيران عام 1972 وبتمويل من شاه إيران!. أما النص فقد أعدّه تيد هوكس بلغة مبتكرة.
أما ”مؤتمر الطيور“ فهو العرض المسرحي الآخر، والذي أراد بروك من عنوانه هذا أن يكون رمزاً للشعوب والثقافات جميعاً على اختلافها.
وقد انبثق هذا النص من كتاب شعري للمتصوف فريد الدين العطار قام باعداده جان كلود كاريير، وهو يتحدث عن الاستبداد الذي مارسه السلاطين والأمراء لارضاء نزواتهم، وقد تم عرضه على جمهور بدائي في صحارى وفي أستراليا ونيويورك ومن ثم في مهرجان باريس المسرحي.
بعد عودة الفرقة إلى باريس ونتيجة للإفلاس الذي صاحب تلك الرحلة بادرت وزارة الثقافة الفرنسية برصد ميزانية للفرقة لتقديم عروضها في فرنسا وخارجها، وكانت حصيلة الفرقة مجموعة من العروض المميزة نذكر منها، ”IK“ وهي حكاية رمزية ذات مغزى أخلاقي عن الاضطراب والتشوش الروحي والثقافي المعاصر عَبر موت قبيلة أفريقية كاملة بسبب فقدانها الرغبة في العيش، وقد تم عرضها في باريس ومن بعد في لندن عام 1976.
تابع بروك فيما بعد عروضه المسرحية ضمن نطاق الفرقة بأعماله اللاحقة: ”مأساة كارمن“ ، ”بستان الكرز “ ، ” تيمون الاثيني“ ، ” يوبا“.. Us نحن والولايات المتحدة، عن الحرب في فيتنام، ومن ثم تجربته الفريدة التي قام بها هو وجان كلود كارير عام 1987 وهي إعدادهما للملحمة الدينية الهندية ”مهابهاراتا“ التي استغرق عرضها عشر ساعات في ساحة مقلع الحجارة خارج مدينة أفيغنون الفرنسية. أما آخر عروضه فهي مسرحية بعنوان ”لماذا“ التي تم عرضها في نيويورك على خشبة مركز بولانسكي ـ شكسبير والتي طرح من خلالها السؤال عن المَهَّمة التي أمضاها في استكشافاته المسرحية.
على الرغم من مغادرة بيتر بروك المملكة المتحدة إلى باريس هو وزوجته الممثلة البريطانية من أصل روسي ناتاشا باري التي توفيت عام 2015، فقد بقي مواطناً بريطانياً تتغذى مهنته على نزعة أممية عميقة الجذور دون انحياز ثقافي لأي شيء من شأنه تفادي العدالة السياسية والمطلب الروحي والحيوية الحضارية للعقل. ولم يكن بروك من أولئك المعجبين بالملكية والروح الوطنية
المتشبعة بالنزعة القومية. وقد كان ينأى بنفسه عن تأريخ شكسبير ومؤرخيه و”إنجليزية“ المَشاهد الريفية التي نجدها في شخصية جون فالستاف الفنتازية، النبيل البدين الذي يظهر في ثلاثة أعمال شكسبيرية (هنري الرابع، هنري الخامس، زوجات وندسور المرحات).
لقد دونّ بيتر بروك تجربته الجمالية في المسرح والتي استغرقت أكثر من ستة عقود، في ستة كتب أصبحت إرثاً ومرجعاً لجميع مسرحيّ العالم، وهي: المساحة الفارغة، نقطة التحولّ، الباب المفتوح، ليس هناك أسرار، لنمثل الملك لير، صفة الرحمة، طرف اللسان، وأخيراً، العزف بواسطة الأذن.
على الرغم من شيخوخته ورحيل زوجته، لكنه لم يتقاعد من مهنته بل واصل عمله حتى آخر يوم من حياته. ”إنني أعمل بجد أكثر من أي وقت مضى. أكتب وأُخرج وأُسافر“. يقولها بثقة وتفاؤل.
عن زوجته ناتاشا التي التقي بها وأغرم بها وتزوجها عام 1951 وأنجبت له مخرجين سينمائيين هما إيرينا وسيمون، يتذكر بروك في كتابه Playing by Ear قراءته لرواية تولستوي (الحرب والسلام) وهو في التاسعة من عمره حين أحسَّ بموسيقى اسم بطلة الرواية ”ناتاشا“ قد لامس مشاعره بشكل غامض.”لقد كنت أعلم حينها أنَّ هذا هو المصير الذي رافقني وأُعِدَّ لي منذ ذلك الحين“.
في قطار يوروستار جلستْ إلى جانبه سيدة عجوز وكان عمره آنذاك 94 عاماً ودارت حوار مبتسر بينهما:
”كانت تلك السيدة مفعمة بالحيوية والطاقة جعلتني أشعر بالفتوة حقاً“ يقول بروك ”سألتها عن عمرها، قالت ثمانية وتسعون (ثمانية وتسعون!)“ يضحك بطريقة مكتومة ”لا، لا، أربعة وتسعون ليست شيئاً إذاً!“.
توفيَّ المخرج البريطاني بيتر برُوك في الثاني من شهر يوليو (تموز) الجاري في باريس عن عمر ناهز السبعة والتسعين عاماً.
لقد جعل بروك من المسرح أداة رائعة لاستكشاف الوضع الإنساني بكل أبعاده. وبوفاته تم إغلاق إحدى أهم المغامرات المسرحية في النصف الثاني من القرن العشرين.
***
لندن: علي كامل
”أنا بريطاني مائة بالمائة ولكن البلد الوحيد الذي لم تستطع عروضي المسرحية أن تجد لها حيزاً فيه هو بريطانيا“.. قالها بيتر بروك بنوع من الوجع والمرارة!.
”.. آه يا بيتر، إنك لازلت طفلاً“.!
بهذه العبارة المبتسرة خاطب الممثل البريطاني الراحل السير جون جيلجود رفيقه القديم في حقل الإبداع بيتر بروك بعد غياب عن المملكة المتحدة استغرق عقدين ونصف وهو يدير المركز العالمي للبحوث المسرحية في باريس.
قيلت هذه العبارة عام 1994 في حفل الاستقبال الذي كُرّس لقدوم بروك وعرضه الجديد ”الرجل الذي...“ يومها تلقفتها الصحافة البريطانية مطلقة على هذا المغترب والمهرج الحزين لقب ”الطفل العبقري“.
أما تلميذه المخرج تريفور نان الذي كان قد شغل حينها منصب المشرف والمخرج الفني للمسرح الوطني البريطاني يومها فقد اختتم كلمة الافتتاح قائلاً:
”أبانا الروحي!. أما آن الأوان أن تعود إلى وطنك.. عُد.. أرجوك، إننا بأمس الحاجة إليك!..“.
***
كان بروك منذ طفولته في علاقة حُبٍّ مع المسرح:”في طفولتي كان والداي يصطحباني إلى المسرح لمشاهدة العروض المسرحية، وحين بلغت العاشرة من عمري، قدمّتُ لهما (هاملت) في مسرح دمى صغير عملته بنفسي في المنزل وقد صنعت الشخصيات من ورق المقّوى ومواد أخرى كنت أقوم بتحريكها بيد وأقرأ أدوار النص باليد الأخرى“.
جلس بيتر الصغير أمام آلة البيانو في سن الثانية عشرة ليعزف سوناتا فاسيلي موتسارت لمعلمته الجديدة ڤيرا ڤينوغرادوڤا، التي يتذكر نصيحتها حتى الآن وهو بهذه السن:
”حين تَلمسُ أصابعكَ النوتة الموسيقية، إصغي إلى الصوت الذي أَحدَثَتهُ أصابعك، ولا تدع أي توترّات تحدث لك في الكتفين والذراعين والأَصابع. بهذا تكون قد أدّيت مَهَّمتك على أحسن وجه. فقط دعها تتدّفق“.
ولم تكتفِ ڤيرا ڤينوغرادوڤا بذلك إنما أوصته أيضاً بضرورة أداء كل مقطوعة يُتقنها إلى الآخرين: ”السبب الوحيد لتعلّم الموسيقى، هو ليس لأجلك فقط، إنما من أجل أن يُشاطرك بها الآخرين“ ثم يضيف بحماسة يافع:”إن كُلّ ما قمتُ به منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا قد نما من دروس مُعلِّمتي تلك: المُشارَكة، الشدّة، الإصرار على التدّفق، مغادرة التعلّم عَبر التكرار المعتاد أو الفهم على ظهر قلب“.
وُلِدَ بيتر في لندن في 21 مارس 1925 لأبوين يهوديين مهاجرين من لاتفيا. هاجر والده سيمون، المتمرد الشاب الذي كان ينتمي إلى حزب المنشفيك في عام 1907، برفقة زوجته الشابة إيدا إلى باريس ومن ثم بلجيكا، وفرارهما إلى إنجلترا عند وصول الجيش الألماني إلى بلجيكا عام 1914، واستقرارهما في ضاحية Chiswick غرب لندن.
كانت الثقافة الروسية لا تزال حاضرة بقوة وسط أسرته، وكادت أن تلازمه بشكل حميمي طوال حياته، كمفتاح أساسي لفهم رجل منفتح ومغامر بشكل هائل.
في فتوته كان بيتر شغوفاً بالتصوير الفوتوغرافي والسينما، وكان يكره النظام التعليمي البريطاني. حين سئُل مرةً عن سبب عدم تطرّق التأريخ الإنجليزي له كثيراً أجاب:”لقد نشأت في المدارس الإنجليزية العامة، ومنذ البداية لم أكن مؤمناً، حقيقةً، بما كانت تعلّمني إياه تلك المدارس، ولم يعجبني قتالهم من أجل ترسيخ التقاليد التاريخية لإنجلترا“.
كان الفتى يأمل أن يُصبح مُخرجاً سينمائياً، لكن حين بدا له عالم السينما ميداناً يتعذر الوصول إليه، استدار برفق نحو المسرح أثناء دراسته الأدب الروسي في جامعة أكسفورد ليثير الاعجاب منذ البدء حين شرع عام 1946، وهو في سن الحادية والعشرين من العمر، في إخراج أول عمل له وهو مسرحية (خاب مسعى الحب love’s Labour’s Lost) لوليم شكسبير، الكاتب الذي لم يتوقف عن مواصلة بحثه طوال حياته، والذي سيُصبح نقطة ارتكاز لجميع تأملاته وتفكيره حول المسرح.
في الثانية والعشرين من عمره أخرج مسرحية ”روميو وجوليت“ العمل الذي
شهد أول عرض لها في مدينة شكسبير ستراتفورد أبون أفون. وفي سن الثالثة والعشرين تم تعيينه مخرجاً ومدير إنتاج في دار الأوبرا الملكية في Covent Garden، لكن سرعان ما تمَّ إبعاده بعد بضعة أشهر بسبب خرقه لأعراف تلك المؤسسة الكلاسيكية العريقة من خلال عمله المسرحي (سالومي) لريتشارد شتراوس الذي صممَّ السينوغرافيا
شتراوس الذي صممَّ السينوغرافيا السوريالي له سلفادور دالي. يومها أُطلق عليه ”الولد الشقي“ حيث واصل عمله بدون مخاوف أو تردّد سواء في المسرح المؤسسي أو التجاري.
بدأت علاقة بروك بالمسرح تتغير بشكل محسوس منذ منتصف الخمسينات فصاعداً، وقد فتح ذلك المنحى شوطاً طويلاً من الابتكار ما جعل منه أحد الشخصيات الأساسية في التحوّل المسرحي البريطاني في النصف الثاني من القرن العشرين.
جولاته المكوكية خارج المملكة المتحدة بحثاً عن فضاء آخر وملاقاة جمهور آخر، استهلها أولاً إلى نيويورك ليعمل في أوبرا ميتروبوليتان، ومن ثم إلى باريس حيث
أخرج مسرحية ”قطة على صفيح ساخن“ لتينسي وليامز، و ”منظر من الجسر“ لآرثر ميلر، ومسرحية ”شرفة“ للكاتب الفرنسي جان جينيه، التي لم تكن قد قُدّمت بعد على خشبات المسرح الفرنسي!.
أما العلامة المميزة والنقطة المضيئة في تأريخ المسرح البريطاني، فقد تجلّت في عرضه الشكسبيري ”تيتوس أندرونيكوس“ لفرقة شكسبير الملكية، الذي فرض من خلاله رؤية جديدة لشكسبير ووضع الحجر الأول لتلك البساطة الخالصة المصقولة التي ستُصبح جوهر فنه إلى آخر يوم في حياته.
لقد نهل بروك خزينه الخصب من مصادر ثقافية متعددة، لعل أبرزها كتابات روّاد الحداثة المسرحية أمثال فيسفولد مايرهولد، جوردون كريج، وأنطونيو آرتو ومسرحه (مسرح القسوة)، فضلاً عن ابتكارات ”المسرح الحي“ في أمريكا، وأبحاث جيرزي جروتوفسكي ونظريته (نحو مسرح فقير). وقد كانت المحصّلة استراحة نهائية للمسرح الرسمي أو وضع المسمار الأخير في نعشه.
حاز عمله مارا / صاد للكاتب الألماني بيتر فايس على جائزة Tony Award كأفضل عرض وأفضل مخرج في برودواي عام 1964. وقد واصل عروضه
الشكسبيرية تباعاً: (العاصفة) ، (الملك لير)، فضلاً عن (حلم منتصف ليلة صيف) ثم عمله المميز (أنطوني وكليوباترا).
عَبَرَ بيتر بروك القنال الإنكليزي عام 1970 متجّهاً صوب باريس على إثر دعوة شخصية وجهّها له الممثل الفرنسي جان لوي بارو، هناك حيث التقى فكتور جارثيا، جو تشايكين، رائد المسرح المفتوح، وجو فري ريفز، وشكلّوا مختبر بحثهم المسرحي. يومها قرّر بروك البقاء في باريس لأسباب عدّة، أبرزها انبثاق موجات وأصوات جديدة تزامنت مع تفجّر التظاهرات الطلابية هناك، فضلاً عن توفر فرص العمل بحرية افتقدها في بلاده، حيث كانت تسود المسرح البريطاني إدارات بيروقراطية من بقايا لجنة الرقابة ورئيسها سيء الصيت اللورد تشيمبرلين.
أسسَّ بروك بعد عامين من ذلك التأريخ مركزه العالمي للبحوث المسرحية بمنحة مالية قدرها مليون دولار قدمتها مؤسسة گراند فورد، وكان هدف المركز تشكيل فرقة مسرحية أممية تضم ممثلين وراقصين وموسيقيين وأوكروبات وممثلي بانتوميم من أقطار وأجناس مختلفة متعددة الثقافات غرضها تحدّي الكليشات التقليدية في ميدان الدراما والعرض المسرحي، فضلاً عن كشف خُدع المجتمع الصناعي وضَلالاته.
بهذه الفرقة المتعددة الأعراق والثقافات كان بروك يسعى إلى البحث عن لغة مسرحية عالمية تشكل جسراً وحواراً إنسانياً لتلك الشعوب والثقافات.
لقد باشر عمله في استخدام تقنيات غاية في التنوع والابتكار للكشف عن مصادر جديدة للتعبير المسرحي في مجال اللغة والحركة والصوت والمكان، أسهمت جميعاً في العثور على أشكال درامية عَبر الرقص الكاثاكالي والسيرك والأقنعة
والمهارات الأخرى. أمّا العناصر الجوهرية التي اعتمدها في ولادة الحدث المسرحي، فهي الارتجال وعدم الخضوع لعبودية النص المكتوب، وتفجير المخيلّة الجماعية لطاقم العمل المسرحي، والتزاوج والتناغم السري بين مُخيّلة المُؤدّي ومُخيّلة الكاتب.
وعلى عكس السائد، اتجّه بروك نحو القرى البدائية بحثاً عن نوعية عفوية من الجمهور لم تلوُّثه يد الحضارة الغربية بعد، وهذه النزعة يمكن أن تُعزى إلى تأثير ”مسرح القسوة“ لأنتوين آرتو، الذي كان يسعى إلى لغة صافية ومتفرج بدائي.
لقد اخترقت فرقة بيتر بروك تلك بمركبتها العتيقة القرى الأفريقية واستراليا والهند وإيران وصحاري الجزائر، وامتزجوا بشعوب تلك البلدان، شاهدوا طقوسهم وعاداتهم وسمعوا قصصهم وأساطيرهم، ومن ثم دوَّنُوا وارتجلوا ما شاهدوه وسمعوه، أمام ذات الجمهور. عُدّتهم الحقيقية هي المُخيّلة، أما
مسرحهم فقد كان عبارة عن سجَّادة يفترشونها على الأرض في أي مكان يُقيمون فيه ويُباشرون ارتجالاته المدهشة تلك.
هؤلاء الرحَّالة يُذكرّونني بمقطع من قصيدة لأبولينير يقول فيه:”… نحن الطالبين في كُلِّ مكان غِمار الأُفق، لسنا بأعداءٍ لكم، نريد أن نمنحكم كُلَّ الرحاب الغريبة، حيث يزدهرُ السرَّ الخفيّ ويُبيح نفسه لمن أراد اجتنابُه…“.
حين تشتد بفريقه بعض الأزمات كان بروك يشُدُّ من أزرهم بهذه الكلمات: ”… علينا أن نقوم بعمل يشبه وخز الشرايين بالإِبر“.
على الرغم من الخسارات التي تكبدّها الفريق، حيث أصابت حُمّى الملاريا في بعض القرى الأفريقية عدداً من الممثلين مات قسم منهم، كذلك فقدانهم لبعض مركباتهم، فضلاً عن ردود الأفعال غير المتوقعة والمرهقة من جمهور بدائي، إلا أنهم مع ذلك استطاعوا أن ينجزوا عروضاً تجريبية مذهلة، نذكر منها مسرحية ”أورگاست“ عن الكتاب المقدس للديانة الزرادشتية (أفستا)، العرض الذي تم تقديمه في إيران عام 1972 وبتمويل من شاه إيران!. أما النص فقد أعدّه تيد هوكس بلغة مبتكرة.
أما ”مؤتمر الطيور“ فهو العرض المسرحي الآخر، والذي أراد بروك من عنوانه هذا أن يكون رمزاً للشعوب والثقافات جميعاً على اختلافها.
وقد انبثق هذا النص من كتاب شعري للمتصوف فريد الدين العطار قام باعداده جان كلود كاريير، وهو يتحدث عن الاستبداد الذي مارسه السلاطين والأمراء لارضاء نزواتهم، وقد تم عرضه على جمهور بدائي في صحارى وفي أستراليا ونيويورك ومن ثم في مهرجان باريس المسرحي.
بعد عودة الفرقة إلى باريس ونتيجة للإفلاس الذي صاحب تلك الرحلة بادرت وزارة الثقافة الفرنسية برصد ميزانية للفرقة لتقديم عروضها في فرنسا وخارجها، وكانت حصيلة الفرقة مجموعة من العروض المميزة نذكر منها، ”IK“ وهي حكاية رمزية ذات مغزى أخلاقي عن الاضطراب والتشوش الروحي والثقافي المعاصر عَبر موت قبيلة أفريقية كاملة بسبب فقدانها الرغبة في العيش، وقد تم عرضها في باريس ومن بعد في لندن عام 1976.
تابع بروك فيما بعد عروضه المسرحية ضمن نطاق الفرقة بأعماله اللاحقة: ”مأساة كارمن“ ، ”بستان الكرز “ ، ” تيمون الاثيني“ ، ” يوبا“.. Us نحن والولايات المتحدة، عن الحرب في فيتنام، ومن ثم تجربته الفريدة التي قام بها هو وجان كلود كارير عام 1987 وهي إعدادهما للملحمة الدينية الهندية ”مهابهاراتا“ التي استغرق عرضها عشر ساعات في ساحة مقلع الحجارة خارج مدينة أفيغنون الفرنسية. أما آخر عروضه فهي مسرحية بعنوان ”لماذا“ التي تم عرضها في نيويورك على خشبة مركز بولانسكي ـ شكسبير والتي طرح من خلالها السؤال عن المَهَّمة التي أمضاها في استكشافاته المسرحية.
على الرغم من مغادرة بيتر بروك المملكة المتحدة إلى باريس هو وزوجته الممثلة البريطانية من أصل روسي ناتاشا باري التي توفيت عام 2015، فقد بقي مواطناً بريطانياً تتغذى مهنته على نزعة أممية عميقة الجذور دون انحياز ثقافي لأي شيء من شأنه تفادي العدالة السياسية والمطلب الروحي والحيوية الحضارية للعقل. ولم يكن بروك من أولئك المعجبين بالملكية والروح الوطنية
المتشبعة بالنزعة القومية. وقد كان ينأى بنفسه عن تأريخ شكسبير ومؤرخيه و”إنجليزية“ المَشاهد الريفية التي نجدها في شخصية جون فالستاف الفنتازية، النبيل البدين الذي يظهر في ثلاثة أعمال شكسبيرية (هنري الرابع، هنري الخامس، زوجات وندسور المرحات).
لقد دونّ بيتر بروك تجربته الجمالية في المسرح والتي استغرقت أكثر من ستة عقود، في ستة كتب أصبحت إرثاً ومرجعاً لجميع مسرحيّ العالم، وهي: المساحة الفارغة، نقطة التحولّ، الباب المفتوح، ليس هناك أسرار، لنمثل الملك لير، صفة الرحمة، طرف اللسان، وأخيراً، العزف بواسطة الأذن.
على الرغم من شيخوخته ورحيل زوجته، لكنه لم يتقاعد من مهنته بل واصل عمله حتى آخر يوم من حياته. ”إنني أعمل بجد أكثر من أي وقت مضى. أكتب وأُخرج وأُسافر“. يقولها بثقة وتفاؤل.
عن زوجته ناتاشا التي التقي بها وأغرم بها وتزوجها عام 1951 وأنجبت له مخرجين سينمائيين هما إيرينا وسيمون، يتذكر بروك في كتابه Playing by Ear قراءته لرواية تولستوي (الحرب والسلام) وهو في التاسعة من عمره حين أحسَّ بموسيقى اسم بطلة الرواية ”ناتاشا“ قد لامس مشاعره بشكل غامض.”لقد كنت أعلم حينها أنَّ هذا هو المصير الذي رافقني وأُعِدَّ لي منذ ذلك الحين“.
في قطار يوروستار جلستْ إلى جانبه سيدة عجوز وكان عمره آنذاك 94 عاماً ودارت حوار مبتسر بينهما:
”كانت تلك السيدة مفعمة بالحيوية والطاقة جعلتني أشعر بالفتوة حقاً“ يقول بروك ”سألتها عن عمرها، قالت ثمانية وتسعون (ثمانية وتسعون!)“ يضحك بطريقة مكتومة ”لا، لا، أربعة وتسعون ليست شيئاً إذاً!“.
توفيَّ المخرج البريطاني بيتر برُوك في الثاني من شهر يوليو (تموز) الجاري في باريس عن عمر ناهز السبعة والتسعين عاماً.
لقد جعل بروك من المسرح أداة رائعة لاستكشاف الوضع الإنساني بكل أبعاده. وبوفاته تم إغلاق إحدى أهم المغامرات المسرحية في النصف الثاني من القرن العشرين.
***