..بين الدراما والتاريخ..

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ..بين الدراما والتاريخ..

    ميريت_الثقافية
    سمير درويش
    بين الدراما والتاريخ..
    "الاختيار 3" شريط دعائي موجه لمشاهد سلبي!!
    سمير درويش
    -----------
    منذ بداية شهر رمضان، ومع بدء إذاعة حلقات مسلسل "الاختيار 3"، تأليف هاني سرحان، إخراج بيتر ميمي وبطولة كريم عبد العزيز وأحمد السقا وياسر جلال وأحمد عز، إنتاج وتوزيع سينرجي للإنتاج الفني التي بدأت عام 2003 كشركة إعلانات، ثم شرعت في إنتاج مسلسلات على استحياء بداية من 2007، إلى أن أصبحت محتكرة لسوق الدراما المصرية تقريبًا (مسلسل واحد عام 2007 مقابل 25 مسلسلًا عام 2020 و19 في 2021)، صاحبها تامر مرسي، رئيس مجلس إدارة والعضو المنتدب لشركة إعلام المصريين للتدريب والاستشارات الإعلامية، إحدى شركات الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية.
    من بداية عرض المسلسل يخرج علينا ساسة ورجال دين وفنانون وناشطون، ليمدحوا العمل كونه يُظهر "بطولات" مجهولة لقيادات حالية، أنقذت مصر مما كان ينتظرها لو استمرت جماعة الإخوان المسلمين في السلطة، بل إن معظمهم قال إن هذه الحلقات كتابة للتاريخ، خصوصًا لأنها اشتملت على تسجيلات حية وحقيقية للأبطال الواقعيين: الرئيس عبد الفتاح السيسي، والرئيس السابق محمد مرسي، والمشير محمد حسين طنطاوي، وخيرت الشاطر.. وغيرهم.
    ولأن مسألة كتابة التاريخ هذه اعتمادًا على مسلسل تليفزيوني شطحة وقفزة في فراع، رأيت أن أتوقف قليلًا لأناقش في هذا المقال العلاقة بين التاريخ والدراما: الآن وسابقًا، في مصر وفي غيرها.
    =
    = مناهج كتابة التاريخ =
    كتابة التاريخ علم صعب ودقيق ومُختَلَفٌ حوله، لعدة أسباب: منها أن تقييم أي حادثة تاريخية يختلف بحسب موقع من ينظر إليها، وانتماءاته الدينية والعرقية، ومصالحه، وأن "معرفة" الحقيقة والاطلاع على الوثائق لا يتوفر بالتساوي أمام كل الباحثين، ناهيك عن تقييم هذه الوثائق وترتيبها ووضعها في سياقها، فوثيقة واحدة، صامتة مجردة، يمكن أن تكون دليلَ براءةٍ ودليلَ إدانةٍ في الوقت نفسه بحسب المنهج المتبع.. وأن من يكتب التاريخ هو المنتصر دائمًا، وبالتالي لا تكون هناك فرصة للمهزوم ليقدم رؤية بديلة، وأن ينير جوانب مظلمة في الرواية الرسمية.
    كما أن الذي يكتب يمكن أن يضع حادثة ما في البؤرة ويسلط الضوء عليها باعتبارها مركزًا، ويهمل حوادث مماثلة باعتبار أنها أقل أهمية، فيما يرى آخرون وضعًا مغايرًا لأهمية الأحداث. وأخيرًا أن المنتصر الذي يكتب التاريخ تكون عينه –غالبًا- على المستقبل أكثر مما هي على الماضي الذي يكتبه، فرسم صورته أمام طلاب المدارس والجامعات من دارسي التاريخ أهم من التاريخ نفسه –من وجهة نظره طبعًا-، لأنها حاسمة في تمكينه واستمراره في موقعه.
    هذه النقاط الذي ذكرتها تصب في اتجاه استحالة كتابة تاريخ حقيقي متجرد عن أي فترة زمنية؛ خلال ذات الفترة وتحت شروطها وبأيدي المتحكمين فيها، بل يلزم أن تتغير الظروف بحيث يستطيع الباحث أن يقيس الأحداث بحياد، من خلال الشهادات المتباينة بشكل متساوٍ، ليتمكن من الحكم بشكل صحيح دون خوف من أي نتائج تؤثر على حياته ومستقبله، ودون تعسف أو إهمال لأي معلومة أو شهادة أو وثيقة، وفي وقت تكون جهات ودول كثيرة أفرجت عن وثائقها ووفرتها للنسخ ولاطلاع الباحثين، وتوفر المعلومات من عدة مصادر مشاركة في صناعة الحدث يساهم بلا شك في إجلاء ما كان غامضًا، ومعروف أن هذه الوثائق لا يُفرج عنها إلا بعد مرور 50 عامًا على الأقل في بعض الدول الكبرى، لكن دولًا أخرى –منها مصر- لا تفرج عنها أبدًا، وإن أفرجت فبانتقاء شديد يخدم وجهة نظر دون غيرها.
    =
    = حرية صُنَّاع الدراما! =
    فإذا كان هذا هو التاريخ، فما هي الدراما؟
    أي عمل درامي هو عمل "فني" بالأساس، مهما التزم بـ"المعلومات" التي توفرت لديه، وأنا هنا أتحدث عن المعلومات التاريخية لأنها موضوعنا.. وكونه فنيًّا يعني أن له شروطًا كثيرة أضعفها المعلومات، مثل الحبكة ورسم الشخصيات، وتطورها الذي يجب أن يكون مقنعًا، وعلاقة الحوار بالصورة، ومدة العرض، والإمكانيات الفنية المتوفرة لصناع الدراما، والتي تختلف من بلد لآخر، وجهة الإنتاج نفسها وعلاقتها بصانع القرار، والمبالغ المتوفرة للإنتاج، والتي تقرر أسماء المشاركين وأجورهم، واستدعاء مساعدين ومراجعين للتاريخ كمادة علمية، لكن العامل الحاسم في صناعة الدراما هو مقدار الحرية المتاحة أمام صناع العمل، وما إذا كانوا يستطيعون قول ما يريدون حتى لو كان ضد توجه المتحكمين في القرار والمستفيدين منه.
    إذا وضعنا كل تلك الأمور بجوار بعضها بعضًا سنخلص إلى نتيجة قاطعة، وهي أن الدراما لا تكتب -ولا تساهم في كتابة- التاريخ، بل على العكس، يمكن أن نقول –باطمئنان- إنه يتم استخدام الدراما في تصدير أفكار بعينها عن التاريخ، خاصة إذا كان آنيًّا وكانت وقائعة لا تزال حية وجارية. في الحالات تلك يحصل كاتب السيناريو على (مادة) تاريخية دون غيرها، بعلم من يريد توصيل المعلومات وتغليفها بغلاف درامي ناعم، لأنها لا تكون متاحة للجميع ولا تكون متاحة كلها كما قدمت. الكتابة الصادقة هنا، التي تعبر عن (المادة) المتوفرة بأمانة، لا تعني أنها حقيقية أو متجردة، فكاتب السيناريو يتصرف في حدود ما يملك من معلومات، التي قد لا تشكل نسبة كبيرة مما حدث بالفعل، وقد لا تكون هي المؤثرة في الحدث أصلًا!
    =
    = الدعاية الأحادية والمشاهد السلبي =
    ولو تصورنا أن (دولة) ما هي التي تنتج المادة الدرامية التاريخية، فالأقرب أنها تريد تصدير وجهة نظرها، وترسيخها، حتى لو كان على حساب الحقيقة، أو –بافتراض حسن النية- هي ترى أن هذه هي الحقيقة بالفعل، لكن رأيها لا ينفي وجود وجهات نظر أخرى من حقها أن تعبر عن وجودها، وأن تقدم (درامتها) الموازية، ليكون للمشاهد حق الاختيار، أو ليستطيع تكوين وجهة نظر ثالثة لا هي هذه ولا تلك.
    سلاح الدعاية الأحادية تلك ليس جديدًا، استخدمته بلدان كثيرة في مراحل متعددة من تطور الإنسانية، كل حسب موقفه وموقعه من التاريخ، وحسب ما يريد توصيله لمواطنيه (لأن هذا النوع آني وموجه لدائرة محلية بالأساس)، فكثير من الأفلام والمسلسلات أُنتجت حول العالم لهذا الغرض، وفي معظم الحالات تأتي بالنتيجة المرجوة بالفعل، اعتمادًا على أن (المشاهد السلبي) لا يطرح أسئلته على المادة الفنية المقدمة، ولا ينشغل بالناقص أو المسكوت عنه، بل (يتلقى) الرسالة بعبلها دون تمحيص أو تفكير، خاصة أن هذا النوع من الدراما يكون مسبوقًا بدعايات إعلامية كبيرة، ومصاحبًا بها، وهو ما لا يعطي فرصة للتفكير، خاصة إن كنا نتحدث عن قطاعات لا يعدُّ التفكير شاغلًا أساسيًّا -أو هامشيًّا- بالنسبة لها، وعلى فكرة: هذه القطاعات هي المستهدفة بالفعل لأنها التي ستصوت في الانتخابات، والصوت الانتخابي بصوت واحد مهما كان مستوى تعليم أو إدراك وثقافة المُصوِّت!
    =
    = الناصر صلاح الدين =
    لكن.. لكي تكتمل صورة علاقة الدراما بالتاريخ يجب أن أشير إلى طريقتين في صنع الدراما التاريخية، يمكن أن يتخلَّصا –جزئيًّا- من العيوب التي ذكرتها، ولا يكونا أداة في يد أحد، على اعتبار أن الفن الجيد هو الفن الحر أساسًا، والفن الحر لا يكون أداة لأحد أبدًا.
    الطريقة الأولى: هي صناعة دراما تاريخية قديمة، مرت سنوات طويلة أو قرون على أحداثها الفعلية، وبالتالي توفرت أمام كاتب السيناريو كل وجهات النظر المتعارضة، واستطاع بالاطلاع عليها أن يكوِّن وجهة نظر يراها الأصح، مع التركيز على أنها تظل وجهة نظر أيضًا، مثال ذلك فيلم الناصر صلاح الدين (تقييمه 7.7 على موقع imdb، ويحتل المرتبة الحادية عشرة في قائمة أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية)، إخراج يوسف شاهين، إنتاج شركة الفيلم العربي (آسيا داغر) عام 1963، عن قصة ليوسف السباعي ومعالجة لعز الدين ذو الفقار، محمد عبد الجواد، نجيب محفوظ، عبد الرحمن الشرقاوي، وتدور أحداثه –كما هو معروف- في فترة الحروب الصليبية والصراع على مدينة القدس بين الجيشين الصليبي والمسلم.
    لا شك أن (نسبة) الحياد في هذا الفيلم كبيرة إذا قورنت بالدراما التي تتناول أحداثًا آنية كما أشرت، لكنه مع ذلك لم يخل من (التحريف) لأسباب فنية تخص الحبكة ورسم الشخصيات وتطورها بغية التأثير على المشاهد، من ذلك –حسب ما ذكرت بعض التقارير الصحفية-: أن عيسى العوام لم يكن مسيحيًّا، وإنما غواص مسلم حارب مع صلاح الدين وتوفى غرقًا على شواطئ عكا حسب رواية بهاء الدين بن شداد في كتابه "النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية". كما أن إبراز الصليب وقرع الأجراس كما حدثت في الفيلم تخالف الواقع، لأن الوثيقة العمرية نصت على أن "لا يُظهِروا صليبًا ولا شيئًا من كتبهم في شيءٍ من طرق المسلمين.. ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربًا خفيفًا.. ولا يخرجوا شعانين".
    كذلك ما قيل عن أن ريتشارد ملك إنجلترا –قلب الأسد- قتل 70 أسيرًا عربيًّا إثر وشاية بأن صلاح الدين قتل السفراء الصليبيين ورفض الهدنة ليس دقيقًا، وما حدث حسب نفس المصدر أنه استبقى 2700 أسيرًا كرهائن ضد صلاح الدين للوفاء بجميع شروط الاستسلام، ولما خشى أن يعرقله الأسرى عن التحرك بقواته أمر بإعدامهم جميعًا. وأخيرًا فإن صلاح الدين لم يبارز الأمير الصليبي المتغطرس أرناط الفرنسي عندما أُسر، بل قامَ بقطع رأسه بعد انتهاء المعركة. ورغم هذه (الخروجات) الدرامية عن الوقائع التاريخية المسجلة، فإن خطورة الأمر أن كثيرين من غير المتخصصين يأخذون معلوماتهم التاريخية من الفيلم!
    =
    = الأفلام الدينية =
    وما يقال عن الناصر صلاح الدين يقال كذلك عن الأفلام الإسلامية مثل فجر الإسلام والرسالة وظهور الإسلام والشيماء ورابعة العدوية.. وغيرها، فقد أخذت معظم مادتها من كتب تراث مُختلف حولها أساسًا، وهناك دراسات ورسائل علمية إسلامية قديمة وحديثة تضعِّف الكثير من الأحداث التي وردت في هذه الأفلام وفي كتب التراث قبلها، وتعتبرها من قبيل الأساطير، أو أنها –في أفضل الأحوال- اختلطت بالأساطير وتأثرت بها.
    =
    = ناصر 56 والطريق إلى إيلات =
    الطريقة الثانية هي ما فعله الكاتب الكبير الراحل محفوظ عبد الرحمن في فيلم "ناصر 56" الذي أنتجه اتحاد الإذاعة والتليفزيون المصري عام 1996، من إخراج محمد فاضل، وبطولة أحمد زكي وفردوس عبد الحميد، موسيقى ياسر عبد الرحمن.. والفيلم يحكي وقائع مدة زمنية قليلة جدًّا، عدة أسابيع سبقت ورافقت وتلت قرار تأميم شركة قناة السويس البحرية عام 1956، والتداعيات الدولية التي أحدثه وأدت إلى نشوب حرب عام 1956 التي شاركت فيها جيوش بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ضد مصر، وأدت إلى احتلال مدن القناة، قبل أن تتدخل قوى كبرى مثل أمريكا والاتحاد السوفييتي –وقتها- وتجبر الدول المعتدية على الانسحاب.
    حصل محفوظ عبد الرحمن على محاضر الاجتماعات التي عقدها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وتفريغ للمقابلات التي تمت بينه وبين المتصلين بالأمر من خبراء المياه والممرات الملاحية والقانون الدولي، جنبًا إلى جنب خبراء السياسة والدبلوماسية وقادة الجيش، وهو ما حاول عبد الرحمن أن ينقله للشاشة في الوقت القصير المتاح، وهذا بالطبع لا ينفي أن الانتقاء كان حسب ميول السيناريست الكبير، وانتمائه الوطني.
    هناك فيلم آخر مهم جدًّا هو (الطريق إلى إيلات) 1993، الذي كتبه فايز غالي وأخرجته أنعام محمد علي، من إنتاج قطاع الإنتاج باتحاد الإذاعة والتليفزيون المصري، وقام ببطولته عزت العلايلي وصلاح ذو الفقار ونبيل الحلفاوي ومادلين طبر، وموسيقى ياسر عبد الرحمن أيضًا. والفيلم يروي أحداث العملية التي نفذتها مجموعة من الضفادع البشرية التابعة لسلاح البحرية المصري، عام 1969 أثناء حرب الاستنزاف، حين هاجموا ميناء إيلات الحربى وتمكنوا من تدمير سفينتين حربيتين هما بيت شيفع وبات يم والرصيف الحربي، ثم عودتهم سالمين بعد استشهاد أحد الجنود.
    الفيلم يروي حدثًا تم أصلًا في عدة ساعات، لذلك ففرصة الصدق ستكون أعلى بالتأكيد، ثم لأنه يروي قصة عملية عسكرية ضد عدو ظاهر كان يحتل جزءًا من الأرض المصرية، فلن يكون ثمة مجال لتباين وجهات النظر، بل إن هذا النوع من الدراما مطلوب جدًّا، لأنه يملأ المشاهد الوطني بالفخر، إلى جانب رواية أحداث قد لا تكون معروفة على نطاق واسع قام بها جنود وأبطال حقيقيون يجدر بالتاريخ أن يخلدهم.
    -------------
    * رابط التصفح:
    https://online.flipbuilder.com/xfhou/buiq/
يعمل...
X