قراءة نقدية في ديوان الشاعر السوري امين غانم في جريدة الأسبوع الأدبي السورية
رمزية مغرقة بالصوفية.. قراءة في ديوان (بأخضر اقتحامها)
للشاعر السوري أمين ياسين غانم
د. محمد ياسين صبيح*
بين كتبي غير المرتبة أكتشف ديواناً بلونٍ أصفرٍ فاقعٍ، كوضوح الشمس، للشاعر السوري أمين ياسين غانم، حيث يغرينا العنوان (بأخضر اقتحامها) للدخول إلى صفحاته البالغة مائه وثلاث صفحات، من القطع الصغير، الصادر عن دار غانم عام 2003 سوريا- اللاذقية - ويحتوي على تسعة عشر قصيدة متنوعة الطول من الومضة إلى القصيدة الطويلة، وما أن نفتح الديوان حتى يشدنا إلى عمقه المدهش والمغرق في الرمزية والصوفية، وسنحاول في هذه القراءة السريعة الدخول إلى بعض جماليات الديوان وأسراره..
يبتعد الشاعر عن السرد الشعري التقليدي، فهو يعطي للكلمة حمولات رمزية عميقة ، ويغرينا بالدخول إلى جمله القصيرة في غموضها، والمركبة بتضاد محيّر في بعض المقاطع الشعرية، كما يستفزنا للدخول أكثر إلى نصوصه بشكل أعمق، لنكتشف اللذة، كما عبر عنها بارت، وكما العاشق الذي يقضي سنينا في البحث عن الحب، وكما الصوفي يبتعد عن الأضواء ليكتشف اللذة في عمقه وذاته مع عشقه الإلهي، هكذا يفعل شاعرنا، يرمي كلماته غير مرتبة، وغير وحيدة، ثم يتركنا نبحث عن المداخل والمخارج لنستطيع العبور إلى بعض مراميه المضمّرة، هي لغة لا نراها إلا عند قلة قليلة من الشعراء، فمن يتقن إخفاء المعنى ضمن منظومة الكلمات الواضحة غير المترابطة ظاهرياُ قلة، كما في مقدمة قصائده
المشبوه خطفاً
الفياضُ محيا، يشبهُ
أو هو الغيظ
يحرِّر الغَمَر
يبيحُ التناسقَ
"طُف حولنا .شرِّس ماءنا"، (ص 11).
غرائبية تعمق الرمز لدرجة الغموض، فهل المشبه يشبه المحيا الذي يفيض؟ أو من؟ الطبيعة .. أسئلة وتأويلات يدخلنا إليها الشاعر طوعيا ببراعة لفظية..
لن نفسر تأويلاته بمسار تفصيلي معين، فهذا من شأنه إنقاص القيمة الدلالية لكل جملة وحشر معناها في قالب تفسيري ضيق، بل نتركها تتألق في سماء الشعر، ونترك للمعنى أن يكون نفسه أمامنا كشجرة تنمو سنديانة، أو صنوبرة أو زيتونة.. تتمتع القصائد بعمق رمزي جميل يعرق في الصوفية، المتوحدة مع الذات والمكان والزمان..
يغوص الشاعر في قصائده دائما داخل دهاليز المجهول المعتق في أروقة الفجر، على جدران الغاب، حيث يصمم جداره بطريقة فلسفية ممنطقة
قافلة في صياد
في جعبته يغفو الغابُ
هل حطم فجراً؟
نصبَ القلق على البسمة
ظنَّ حروفه بدأت
-لأن صيدي إراقة الكلام
تُلقين عروقاً تقودني إليَّ-، (ص 18).
فالصيد رغبة في الامتلاء، أو في البحث عن الكلمة التي تشفي معناه، يعتمد الشاعر على لغة قد تبدو مغرقة في الغموض والرمز، ولكن ما أن ندخل عتبة السطور حتى تنهال علينا لغتها المخبأة تحت الأحجار العتيقة، التي علينا إزاحتها لنرى بعض ما تحتها من معاني مضمّرة، لنستمتع باكتشافها رويداً رويداً، دون أن يقدمها للقارئ مجاناً، بل يشركه في البحث وفي الاستمتاع في التأويل، وهنا تظهر فرحة القارئ المواظب باكتشاف المعنى أو بعضاً منه..
ثم يقول:
يجتاحك المرئي يماً يخرجك من أنفاقك
((حين يُصاغ يبتلعهُ الوراء))
فراغٌ أو نشوءٌ لا يُروَّض
غيابٌ مهشم
أو صلاةٌ تهزي كأنها صرَّة
((يقفزُ. يتحررُ في تشكيلٍ يرعبه)) (ص 28).
يجنح في عباراته ومعانيه إلى بعض المدلولات الصوفية، فالمرئي هو صورة ذات دلالة مختلفة لما يكمن خلفه، من هنا نرى كيف التأثير بعض الشعراء الذين استفادوا من التقنيات الصوفية مثل أدونيس وانسي الحاج، وان كان أدونيس واضحا جدا في حدوده مع الصوفية.. كما نرى في اجتاح المرئي إلى الوراء، عمق متوحد مع لعبة الوقت، لعبة الماضي والحاضر.. إدهاش اللحظة التي لا تدرك بلحظة، إنما بالوراء وبالمستقبل.. يبدو كهذيان ذاتي متوحد مع انفصال المكان، نعم هو كذلك، لكنه متوحد أيضاً مع انفصال الزمان في لحظة ليتصل في لحظات كوهج يسطو على الكل.. هو ذا الوعي المتوحد مع الغموض عدم المرئي لا يحب أن يرى هكذا خلسة، إنما يجب أن نبحث عن كلماته ومعانيه بين الحروف والأمكنة والأزمنة الهاربة..
تجهد قصيدة بأخضر اقتحامها، والتي أخذ الديوان عنوانه منها، في اللحاق بالمألوف، لكنها تفترق عنه بمفارقة الصدمة، وتجهد للوصول إلى الطبيعي، لكنها بعد لحظات تكتشف وصولها إلى اليباس يقول:
- تُجهدُ بأخضر اقتحامها - أشجاراً
ثم تراها حجارة بافتراق سكونها.
وتبتعد
تمتزجُ بقعاً تُجهد بتحديد خرائطها
وتراها
فقاعاتٍ تُجهد بحمل انطفائها- (ص 33).
عمق فلسفي يغطي مساحات الكلمات والمعاني، حيث يبتعد أحياناً عن الوضوح إلى مغارات الرمزية الشديدة، وأحياناً يحاول أن يفتح نوافذه للوضوح، لكنه سرعان ما يغلقها لنستمتع بالتأمل، كالصوفي الذي يتلذذ بجلد عاطفته المغرقة في الذاتية والتوحد.. فاستخدامه ملفوظاـ مثل ( أشجار، حجارة، سكون، خرائط). محاولة لإعطاء عناصر الطبيعة والأشياء روح متحركة بمعاني إنسانية..
إن العمق الآتي للمعاني، أبعد القصائد قليلاً عن جمالية التصوير والتلقي، وكأنها مخبئة ضمن مجموعة أغلفة، علينا فتحها بتأن لنصل إلى بعض عمقها.. ففي قصيدة ينبوع (ص35) يقول:
ملوثا بالإشارة كما يهم أو ينتشر
مفتوحاً إلى أقصى نشوء
ملوثاً يجرفه، بحكمه
على حافة الثمار..
هنا يجب أن نعزل كل طبقة من الكلمات، لنستخلص مدلولاتها، ثم ننشرها إلى مساحة القصيدة، بحيث نبحث عن العمق الذاتي، العام، فهنا التناقض يكمل بناء المعنى، فلا تلوث بدون وجود نقاء..
لا يتوانى عن الدخول في تفاصيل المرأة أيضاً، ولكن من وجهة نظره الصوفية، دون أن يكشف عن عشقه الصريح، أو عن مفاتن المرأة، فهو يشرحها فلسفياً ويستنطق مدلولات تأثير الأشياء عليها، ومدلولات ردات فعلها ورغباتها، حيث يمتزج الظل بالرغبة وبالرائحة، كما يعطي لمن يكتشف الكون أسرار المرأة وأسرار الوجود والممكن يقول:
على رائحة الأنثى
بألقها أهدرها،
حرَّرَ هيئتها،
استضئُ بأبعادها
تمزجُ الرائحة والأجنحة
تتعرى
استضئُ بذروتها
وعريها يتدفق.
من غمده امتشقُها
لا يُشابهُ إلا اختلافها
أو ما يشتهي كونَها، (ص 43).
يتطلب منا الغوص عميقاً، في رؤى الكون والعلاقة بالمتعة، لنكتشف متعة الاستضاءة بذروتها، عندما يرتشف سعادة بالغة في المعرفة، فالعري ليس شرطاً للسعادة، حيث لا يزال يحاول أن يظهر معانيه على سطح الماء، ولكنه في أغلب الأحيان يظل في الأعماق، ويتوجب علينا أن نبحث عنه عميقاً، هكذا هو الشاعر..
لا نستطيع أن نفصل في القصائد بين الفلسفي والوجودي والعاطفي، فهو يربط هذه بين المصطلحات دفعة واحدة، وكأنه يقول لنا، أن الوجود ليس حباً مجرداً فقط، بل تأمل في وجودنا وأماننا المرتبط بالحب، تأمل في وجعنا المرتبط بالفشل أو المتعة، يدعونا إلى التوحد مع ذواتنا التي لا تنفصل عن عشق امرأة، أو شجرة ضاربة في الحياة، فالمرأة ليست جسد فقط، بل أيقونة وجودية تكمل درب الاجتهاد والرؤية إلى المكان الذي نقف عليه، إنها درب للصبر والفشل ولكل الصعاب، هكذا يعبر بنا إلى ينا بيعه كما في قصيدة (لوَّح الينبوع):
يملؤكِ، يفصلني عن كتماني
يا نبوءة العثور
لأنبعَ من حضوري
تصيدُ رمقاً.
لأرحلَ عن جلدي
تبقى غلالاً تأخذُ العابرين. (ص 101).
نبوءة العثور.. العثور على ماذا؟ سؤال لم يطرحه بل أشار إلى العثور كمصطلح علينا فك شفرته، هل هو العثور على لذتنا الصوفية، بكل أبعادها؟ أم اكتشاف الوجود المسربل بالمرأة ككيان موحد لا ينفصل إلا في الشكل الذي نرتديه كواق من الانفلات الطبيعي؟.. في هذا المعنى يرحل عن جلده لتبقى الظلال، غلال الحرية الشاسعة للمتعة بمعناها الفكري والصوفي..
أخيراً نجد أن الشاعر أمين أخذنا إلى بحر الرمز المغرق بالصوفية، ثم يدعنا نبحث عن المجداف كي نصل إلى عمق المعنى، ويتركنا نجهد أنفسنا طواعية لنشعر معه بمتعة الاكتشاف والجمال، في مغزى وجودنا ومتعتنا الذاتية، المرتبطة بحريتنا للانفلات أفقياً بالمعنى الفلسفي إلى مساحات من المعرفة أرحب وأذكى..
يمتلك الشاعر لغة محكمة البناء، يبتعد كلياً عن المباشرة التي انزلق إليها أغلب الشعراء، والتي قد تذهب القليل من رونق الشعر وبهجته.. أنها صوفية تعيدنا إلى التأمل في أجزائنا المتناسقة والمنسية، وفي علاقتنا بذاتنا وأشياءنا، حتى نصل إلى بعض الوضوح هناك عند خط الأفق..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
د.محمد ياسين صبيح.
رمزية مغرقة بالصوفية.. قراءة في ديوان (بأخضر اقتحامها)
للشاعر السوري أمين ياسين غانم
د. محمد ياسين صبيح*
بين كتبي غير المرتبة أكتشف ديواناً بلونٍ أصفرٍ فاقعٍ، كوضوح الشمس، للشاعر السوري أمين ياسين غانم، حيث يغرينا العنوان (بأخضر اقتحامها) للدخول إلى صفحاته البالغة مائه وثلاث صفحات، من القطع الصغير، الصادر عن دار غانم عام 2003 سوريا- اللاذقية - ويحتوي على تسعة عشر قصيدة متنوعة الطول من الومضة إلى القصيدة الطويلة، وما أن نفتح الديوان حتى يشدنا إلى عمقه المدهش والمغرق في الرمزية والصوفية، وسنحاول في هذه القراءة السريعة الدخول إلى بعض جماليات الديوان وأسراره..
يبتعد الشاعر عن السرد الشعري التقليدي، فهو يعطي للكلمة حمولات رمزية عميقة ، ويغرينا بالدخول إلى جمله القصيرة في غموضها، والمركبة بتضاد محيّر في بعض المقاطع الشعرية، كما يستفزنا للدخول أكثر إلى نصوصه بشكل أعمق، لنكتشف اللذة، كما عبر عنها بارت، وكما العاشق الذي يقضي سنينا في البحث عن الحب، وكما الصوفي يبتعد عن الأضواء ليكتشف اللذة في عمقه وذاته مع عشقه الإلهي، هكذا يفعل شاعرنا، يرمي كلماته غير مرتبة، وغير وحيدة، ثم يتركنا نبحث عن المداخل والمخارج لنستطيع العبور إلى بعض مراميه المضمّرة، هي لغة لا نراها إلا عند قلة قليلة من الشعراء، فمن يتقن إخفاء المعنى ضمن منظومة الكلمات الواضحة غير المترابطة ظاهرياُ قلة، كما في مقدمة قصائده
المشبوه خطفاً
الفياضُ محيا، يشبهُ
أو هو الغيظ
يحرِّر الغَمَر
يبيحُ التناسقَ
"طُف حولنا .شرِّس ماءنا"، (ص 11).
غرائبية تعمق الرمز لدرجة الغموض، فهل المشبه يشبه المحيا الذي يفيض؟ أو من؟ الطبيعة .. أسئلة وتأويلات يدخلنا إليها الشاعر طوعيا ببراعة لفظية..
لن نفسر تأويلاته بمسار تفصيلي معين، فهذا من شأنه إنقاص القيمة الدلالية لكل جملة وحشر معناها في قالب تفسيري ضيق، بل نتركها تتألق في سماء الشعر، ونترك للمعنى أن يكون نفسه أمامنا كشجرة تنمو سنديانة، أو صنوبرة أو زيتونة.. تتمتع القصائد بعمق رمزي جميل يعرق في الصوفية، المتوحدة مع الذات والمكان والزمان..
يغوص الشاعر في قصائده دائما داخل دهاليز المجهول المعتق في أروقة الفجر، على جدران الغاب، حيث يصمم جداره بطريقة فلسفية ممنطقة
قافلة في صياد
في جعبته يغفو الغابُ
هل حطم فجراً؟
نصبَ القلق على البسمة
ظنَّ حروفه بدأت
-لأن صيدي إراقة الكلام
تُلقين عروقاً تقودني إليَّ-، (ص 18).
فالصيد رغبة في الامتلاء، أو في البحث عن الكلمة التي تشفي معناه، يعتمد الشاعر على لغة قد تبدو مغرقة في الغموض والرمز، ولكن ما أن ندخل عتبة السطور حتى تنهال علينا لغتها المخبأة تحت الأحجار العتيقة، التي علينا إزاحتها لنرى بعض ما تحتها من معاني مضمّرة، لنستمتع باكتشافها رويداً رويداً، دون أن يقدمها للقارئ مجاناً، بل يشركه في البحث وفي الاستمتاع في التأويل، وهنا تظهر فرحة القارئ المواظب باكتشاف المعنى أو بعضاً منه..
ثم يقول:
يجتاحك المرئي يماً يخرجك من أنفاقك
((حين يُصاغ يبتلعهُ الوراء))
فراغٌ أو نشوءٌ لا يُروَّض
غيابٌ مهشم
أو صلاةٌ تهزي كأنها صرَّة
((يقفزُ. يتحررُ في تشكيلٍ يرعبه)) (ص 28).
يجنح في عباراته ومعانيه إلى بعض المدلولات الصوفية، فالمرئي هو صورة ذات دلالة مختلفة لما يكمن خلفه، من هنا نرى كيف التأثير بعض الشعراء الذين استفادوا من التقنيات الصوفية مثل أدونيس وانسي الحاج، وان كان أدونيس واضحا جدا في حدوده مع الصوفية.. كما نرى في اجتاح المرئي إلى الوراء، عمق متوحد مع لعبة الوقت، لعبة الماضي والحاضر.. إدهاش اللحظة التي لا تدرك بلحظة، إنما بالوراء وبالمستقبل.. يبدو كهذيان ذاتي متوحد مع انفصال المكان، نعم هو كذلك، لكنه متوحد أيضاً مع انفصال الزمان في لحظة ليتصل في لحظات كوهج يسطو على الكل.. هو ذا الوعي المتوحد مع الغموض عدم المرئي لا يحب أن يرى هكذا خلسة، إنما يجب أن نبحث عن كلماته ومعانيه بين الحروف والأمكنة والأزمنة الهاربة..
تجهد قصيدة بأخضر اقتحامها، والتي أخذ الديوان عنوانه منها، في اللحاق بالمألوف، لكنها تفترق عنه بمفارقة الصدمة، وتجهد للوصول إلى الطبيعي، لكنها بعد لحظات تكتشف وصولها إلى اليباس يقول:
- تُجهدُ بأخضر اقتحامها - أشجاراً
ثم تراها حجارة بافتراق سكونها.
وتبتعد
تمتزجُ بقعاً تُجهد بتحديد خرائطها
وتراها
فقاعاتٍ تُجهد بحمل انطفائها- (ص 33).
عمق فلسفي يغطي مساحات الكلمات والمعاني، حيث يبتعد أحياناً عن الوضوح إلى مغارات الرمزية الشديدة، وأحياناً يحاول أن يفتح نوافذه للوضوح، لكنه سرعان ما يغلقها لنستمتع بالتأمل، كالصوفي الذي يتلذذ بجلد عاطفته المغرقة في الذاتية والتوحد.. فاستخدامه ملفوظاـ مثل ( أشجار، حجارة، سكون، خرائط). محاولة لإعطاء عناصر الطبيعة والأشياء روح متحركة بمعاني إنسانية..
إن العمق الآتي للمعاني، أبعد القصائد قليلاً عن جمالية التصوير والتلقي، وكأنها مخبئة ضمن مجموعة أغلفة، علينا فتحها بتأن لنصل إلى بعض عمقها.. ففي قصيدة ينبوع (ص35) يقول:
ملوثا بالإشارة كما يهم أو ينتشر
مفتوحاً إلى أقصى نشوء
ملوثاً يجرفه، بحكمه
على حافة الثمار..
هنا يجب أن نعزل كل طبقة من الكلمات، لنستخلص مدلولاتها، ثم ننشرها إلى مساحة القصيدة، بحيث نبحث عن العمق الذاتي، العام، فهنا التناقض يكمل بناء المعنى، فلا تلوث بدون وجود نقاء..
لا يتوانى عن الدخول في تفاصيل المرأة أيضاً، ولكن من وجهة نظره الصوفية، دون أن يكشف عن عشقه الصريح، أو عن مفاتن المرأة، فهو يشرحها فلسفياً ويستنطق مدلولات تأثير الأشياء عليها، ومدلولات ردات فعلها ورغباتها، حيث يمتزج الظل بالرغبة وبالرائحة، كما يعطي لمن يكتشف الكون أسرار المرأة وأسرار الوجود والممكن يقول:
على رائحة الأنثى
بألقها أهدرها،
حرَّرَ هيئتها،
استضئُ بأبعادها
تمزجُ الرائحة والأجنحة
تتعرى
استضئُ بذروتها
وعريها يتدفق.
من غمده امتشقُها
لا يُشابهُ إلا اختلافها
أو ما يشتهي كونَها، (ص 43).
يتطلب منا الغوص عميقاً، في رؤى الكون والعلاقة بالمتعة، لنكتشف متعة الاستضاءة بذروتها، عندما يرتشف سعادة بالغة في المعرفة، فالعري ليس شرطاً للسعادة، حيث لا يزال يحاول أن يظهر معانيه على سطح الماء، ولكنه في أغلب الأحيان يظل في الأعماق، ويتوجب علينا أن نبحث عنه عميقاً، هكذا هو الشاعر..
لا نستطيع أن نفصل في القصائد بين الفلسفي والوجودي والعاطفي، فهو يربط هذه بين المصطلحات دفعة واحدة، وكأنه يقول لنا، أن الوجود ليس حباً مجرداً فقط، بل تأمل في وجودنا وأماننا المرتبط بالحب، تأمل في وجعنا المرتبط بالفشل أو المتعة، يدعونا إلى التوحد مع ذواتنا التي لا تنفصل عن عشق امرأة، أو شجرة ضاربة في الحياة، فالمرأة ليست جسد فقط، بل أيقونة وجودية تكمل درب الاجتهاد والرؤية إلى المكان الذي نقف عليه، إنها درب للصبر والفشل ولكل الصعاب، هكذا يعبر بنا إلى ينا بيعه كما في قصيدة (لوَّح الينبوع):
يملؤكِ، يفصلني عن كتماني
يا نبوءة العثور
لأنبعَ من حضوري
تصيدُ رمقاً.
لأرحلَ عن جلدي
تبقى غلالاً تأخذُ العابرين. (ص 101).
نبوءة العثور.. العثور على ماذا؟ سؤال لم يطرحه بل أشار إلى العثور كمصطلح علينا فك شفرته، هل هو العثور على لذتنا الصوفية، بكل أبعادها؟ أم اكتشاف الوجود المسربل بالمرأة ككيان موحد لا ينفصل إلا في الشكل الذي نرتديه كواق من الانفلات الطبيعي؟.. في هذا المعنى يرحل عن جلده لتبقى الظلال، غلال الحرية الشاسعة للمتعة بمعناها الفكري والصوفي..
أخيراً نجد أن الشاعر أمين أخذنا إلى بحر الرمز المغرق بالصوفية، ثم يدعنا نبحث عن المجداف كي نصل إلى عمق المعنى، ويتركنا نجهد أنفسنا طواعية لنشعر معه بمتعة الاكتشاف والجمال، في مغزى وجودنا ومتعتنا الذاتية، المرتبطة بحريتنا للانفلات أفقياً بالمعنى الفلسفي إلى مساحات من المعرفة أرحب وأذكى..
يمتلك الشاعر لغة محكمة البناء، يبتعد كلياً عن المباشرة التي انزلق إليها أغلب الشعراء، والتي قد تذهب القليل من رونق الشعر وبهجته.. أنها صوفية تعيدنا إلى التأمل في أجزائنا المتناسقة والمنسية، وفي علاقتنا بذاتنا وأشياءنا، حتى نصل إلى بعض الوضوح هناك عند خط الأفق..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
د.محمد ياسين صبيح.