الحياة النباتيّة وعيد الأضحى... ثنائية ممكنة
احلام الطرايرة
بعد سنوات من الحياة النباتية الصرفة -أو ما تُعرف بالخُضْرية- والكثير من السجالات مع آكلي اللحوم، والتي سبقتها ورافقتها جدالات حقوقية نسوية ونقدية للمنظومة السياسية والاجتماعية القمعية التي تقف في وجه أي تحرّك تغييري تحرّري، توصلتُ لاستنتاج بسيط هو أن أختار معاركي بعناية وأن لا أجهد نفسي ومخزوني من الطاقة في حوارات عبثية.
يأتي عيد الأضحى مجدداً وأجدُني داخل دوّامة جنون الارتياب الذي يعانيه قسم كبير من المجتمع، الذي يرى في الدعوة لقضاء العيد بدون دماء إحدى المؤامرات الغربية الخبيثة ضد هويتهم الدينية وتقاليدهم العريقة. ما أراه غريباً هو أن حالة جنون الارتياب هذه لا تظهر لدى أكثرية المُرتابين إلا إذا ارتبطت بقضايا حقوقية، فيما لا يرون شواهد الإرث الاستعماري في نمط حياتهم من سياسة واقتصاد ومعمار وملبس ومأكل، والأهم من ذلك كلّه، من فُرقة مجتمعية طبقية تتبنّى مفاهيم ومعايير الاستعمار لبُنى المجتمع ومكوناته.
الاستقواء بالخطاب الديني ضدّنا
نقاشات عيد الأضحى بالنسبة لي كنباتية صرفة ليست مجرّد حديث في منظور ديني جديد لمفهوم الأضحية، بل تمتد إلى مناقشة هذه البُنى الطبقيّة التي أرستها وعززتها القوى الاستعمارية في بلادنا قبل أن يخرج علينا الرئيس الأميركي هاري ترومان عام 1949 معلناً حربه "ضد التخلف".
هذه الحرب التي حوّلت أربعة أخماس العالم من شعوب تمتلك تنوعاً حضارياً وإرثاً ثقافياً غنياً، إلى شعوب بحاجة ماسّة إلى الإنقاذ من قبل نفس القوى التي نهبت بلادهم وقمعت تنوّعهم واستهدفت إرثهم الثقافي إبان استعمارها العسكري. فالدين يشكّل جزءاً هاماً من البُنية الثقافية في بلادنا، ولهذا لا يمكن تجاهل أثر فترة الاستعمار العسكري في صياغة الخطاب الديني السائد اليوم، وكيف تعزّز هذا الخطاب بالحرب البيضاء المدّعاة على التخلف، والتي أسّست بدورها لحالة جنون الارتياب التي ذكرتها.
ودون أن نضطر لسرد تاريخ استهلاك لحوم الحيوانات في بلادنا كشعيرة تقرّبية من الطبقة الحاكمة والغنية إبان الحكم العثماني وما بعده بغية التشبه بهذه الطبقة؟ وكيف يمكن التعامل مع عيد الأضحى وشعائره بمعزل عن حقيقة أن استهلاك لحوم الحيوانات بأنواعها لم يعُد يقتصر على مناسبات خاصة كما كان أيام أجدادنا، وإنما بات ممارسة شبه يومية متأثراً بالمنظومة الرأسمالية العالمية.
في الطرح النباتي... الدّين حمّال أوجه
ما يحدُث هو أنه برغم سَوق كل الأمثلة الممكنة من الإرث الشرقي والعربي والإسلامي بأن النباتية في أصلها جزء من إرثنا الثقافي وليست تقليداً لتيارٍ غربي حديث مثل الصحابي آبي اللحم الغفاري وأبي العلاء المعرّي اللذين كانا نباتيين ومقولات لصحابة آثروا الصدقة على قتل الحيوانات في عيد الأضحى كبلال بن رباح، نجد أن المتدينين وغير المتدينين حتى من التيارات اليسارية لدينا يهاجمون الحركة النباتية وخطابها، مستخدمين- وللمفارقة- نفس الخطاب الذي تستخدمه التيارات اليمينية الرافضة للنباتية في الغرب.
ما يحدث هو أن معركة الحوار في عيد الأضحى ليست مع المتدينين فقط، وإنما مع جميع التيارات المحافِظة وغير المحافِظة على حدّ سواء، ولهذا فالنقاش يأخذ أبعاداً دينية من جهة، ومفاهيمية من جهة أخرى، أو الاثنين معاً.
السؤال الذي يواجهنا من الجهات الأقل انتقاداً هو لماذا لا يأخذ النباتيون والنباتيات إجازة في عيد الأضحى ويتركون الناس لشعائرهم ليومٍ واحد فقط؟ هذا بالطبع إلى جانب أسئلة مؤامراتية مثل: هل تجرؤون على انتقاد الأمريكيين على قتل الديوك الرومية في عيد الشكر؟ والحقيقة هي أنه لا نعرف ما هي الفرصة الأكثر مناسبةً للحديث عن قتل الحيوانات من عيدٍ يخصصه الناس لذلك؟ والحقيقة أيضاً هي أننا- أي النباتيات والنباتيين الفلسطينيين- نعيش في فلسطين التي تحتفل بعيد الأضحى وليس لدينا عيد شُكر يقتل الناس فيه الديوك الرومية، مع عدم الحاجة للتأكيد أننا ضد قتل الحيوانات في عيد الشكر أو أي عيد آخر تُقتل فيه الحيوانات في أي مكان في العالم.
ما رصدته كإمرأة نباتية من خلفية مسلمة متدينة هو التناقض الكبير لدى الكثير من الناس بين الادعاء بالتدين وممارسات أبعد ما تكون عنه؛ بين المعايير الدينية لمعاملة الحيوانات وممارسات أتباع الدين بحقها في حياتها ومخالفتهم لأساسيات أخلاقيات الذبح عند إنهاء حياتها؛ بين مقاصد الشريعة من الشعائر الدينية والمنظور النُّسكي والتعبّدي لذبح الحيوانات؛ بين مفهوم خلافة الإنسان لله على الأرض وتدميره لكوكب الأرض والحياة عليه؛ بين التمسّك بمبدأ أن لا حرام إلا بنصّ والبشاعات التي يرتكبها الإنسان بحق الحيوانات والبيئة وبحق البشرية ذاتها تحت غطاء الحلال.
تربية الأضاحي في ظروف قاسية
لم يعُد مجالاً للشك أن غالبية الأضاحي- سواء في بلادنا أو في البلاد ذات الأغلبية المسلمة- يتم تكثيرها وتربيتها في ظروف لا أخلاقية لا تحتكم لأدنى معايير الرفق بالحيوان التي دعت إليها الشرائع الإلهية والوضعية على حد سواء. بمعنى أنه حتى وفق المعايير التي تقبل قتل الحيوانات بهدف أكلها والانتفاع بها، فإن ما يحدث على أرض الواقع في مزارع الحيوانات على مدار العام أو في مناسبة كعيد الأضحى لا يتّسق مع أخلاقيات التعامل مع الحيوانات حتى وفق المنظور الديني.
فيما يتعلّق بالنقاش الديني حول الأضحية، قرأتُ بالأمس مقالاً يُذكّر فيه الشاعر والفيلسوف المغربي زجّال الإدريسي الحسني المسلمين بأن صحابة النبي كانوا يحيون الأضحى دون ذبح، وأنهم كانوا يصلّون صلاة العيد ويتصدقون بثمن الأضحية، وذلك بعد أن نّحر النبي أضحية قائلاً: "هذا عن أمتي" التي لم أجد أن ثمّة خلافاً- حتى في المواقع الإسلامية التقليدية- حول أنه قصد بها أمته جميعاً، من كانوا في عهده واللاحقين من بعده.
وأضاف الكاتب بأن القرابين البشرية انتهت عند فداء ابن النبي إبراهيم بكبش وأن القرابين الحيوانية انتهت بأضحية النبي محمد عن أمّته. ومع ذلك، إنهالت التعليقات على المقال من كل حدب وصوب لتُعيد الكاتب إلى جادّة الدين الصائب- حسب اعتقاد المعلقين- الذي يعتبر قتل الحيوانات شعيرة ثابتة لا يغيرها لا زمان ولا مكان ولا أثر ثابت عن صحابة النبيّ الذين تركوا ذبح الأضاحي ورعاً رغم استطاعتهم.
فقد ورد في الجزء الثاني من كتاب الاعتصام للشاطبي: "وقال ابن مسعود: إني لأترك أضحيتي، وإني لمن أيسركم، مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة".
قلتُ لنفسي وأنا أقرأ التعليقات الغاضبة: ربما لو نزل وحيٌ مباشر من الله نفسه ليقول لهم هذا الكلام لأنكروا عليه قوله وتمسّكوا بسفك دماء الحيوانات كشعيرة مقدّسة. ومن المفارقة أن نفس الأشخاص الذين يتمسكون بفكرة أكل لحوم الحيوانات لأن القرآن سمح بذلك، تركوا ركوب الحيوانات كوسيلة سفر عندما توفرت لهم بدائل أفضل. لكن نفس المفهوم يرفضونه عندما يتعلق الأمر بشهوة البطون.
أما فيما يتعلّق بالنقاش المفاهيمي حول قتل الحيوانات لأكل لحومها كجزء طبيعي من السلسلة الغذائية، فأجد أن كثيراً من الناس ترعبهم فكرة ترك أكل لحوم الحيوانات ويظنّون أنهم سيموتون جوعاً بدونها، متناسين كل ما يُساق من دلائل علمية قطعية بالضرر الجسيم الذي تُحدثه صناعات اللحوم والألبان والبيض على البيئة باعتبارها أحد أهم مسببات ارتفاع درجة حرارة الأرض والتغيّر المناخي وما يعنيه ذلك لنا اليوم وللأجيال القادمة، وبالرغم من مساهمة هذه الصناعات باستمرار المجاعات البشرية حول العالم، وكل ما يُساق من أمثلة على وحشية هذه الصناعات وتعاملها مع الحيوانات كآلات ليس إلا، وكل ما يساق من دراسات علمية فاصلة تربط بين تناول اللحوم وأمراض القلب وأنواع السرطان المختلفة.
عيد الأضحى سيبقى مناسبة لطرح كل هذه القضايا، ولكنه سيبقى مناسبة لمناهضي الحركة النباتية للتنمّر والاستهزاء ورفض إعمال العقل والضمير في خياراتهم الحياتية وأثرها عليهم وعلى أبنائهم وعلى الكوكب الذي يعيشون عليه وليس لديهم كوكب غيره، وعلى الحيوانات، الحلقة الأضعف في هذا المشهد القاتم.
رصيف ٢٢
احلام الطرايرة
بعد سنوات من الحياة النباتية الصرفة -أو ما تُعرف بالخُضْرية- والكثير من السجالات مع آكلي اللحوم، والتي سبقتها ورافقتها جدالات حقوقية نسوية ونقدية للمنظومة السياسية والاجتماعية القمعية التي تقف في وجه أي تحرّك تغييري تحرّري، توصلتُ لاستنتاج بسيط هو أن أختار معاركي بعناية وأن لا أجهد نفسي ومخزوني من الطاقة في حوارات عبثية.
يأتي عيد الأضحى مجدداً وأجدُني داخل دوّامة جنون الارتياب الذي يعانيه قسم كبير من المجتمع، الذي يرى في الدعوة لقضاء العيد بدون دماء إحدى المؤامرات الغربية الخبيثة ضد هويتهم الدينية وتقاليدهم العريقة. ما أراه غريباً هو أن حالة جنون الارتياب هذه لا تظهر لدى أكثرية المُرتابين إلا إذا ارتبطت بقضايا حقوقية، فيما لا يرون شواهد الإرث الاستعماري في نمط حياتهم من سياسة واقتصاد ومعمار وملبس ومأكل، والأهم من ذلك كلّه، من فُرقة مجتمعية طبقية تتبنّى مفاهيم ومعايير الاستعمار لبُنى المجتمع ومكوناته.
الاستقواء بالخطاب الديني ضدّنا
نقاشات عيد الأضحى بالنسبة لي كنباتية صرفة ليست مجرّد حديث في منظور ديني جديد لمفهوم الأضحية، بل تمتد إلى مناقشة هذه البُنى الطبقيّة التي أرستها وعززتها القوى الاستعمارية في بلادنا قبل أن يخرج علينا الرئيس الأميركي هاري ترومان عام 1949 معلناً حربه "ضد التخلف".
هذه الحرب التي حوّلت أربعة أخماس العالم من شعوب تمتلك تنوعاً حضارياً وإرثاً ثقافياً غنياً، إلى شعوب بحاجة ماسّة إلى الإنقاذ من قبل نفس القوى التي نهبت بلادهم وقمعت تنوّعهم واستهدفت إرثهم الثقافي إبان استعمارها العسكري. فالدين يشكّل جزءاً هاماً من البُنية الثقافية في بلادنا، ولهذا لا يمكن تجاهل أثر فترة الاستعمار العسكري في صياغة الخطاب الديني السائد اليوم، وكيف تعزّز هذا الخطاب بالحرب البيضاء المدّعاة على التخلف، والتي أسّست بدورها لحالة جنون الارتياب التي ذكرتها.
ودون أن نضطر لسرد تاريخ استهلاك لحوم الحيوانات في بلادنا كشعيرة تقرّبية من الطبقة الحاكمة والغنية إبان الحكم العثماني وما بعده بغية التشبه بهذه الطبقة؟ وكيف يمكن التعامل مع عيد الأضحى وشعائره بمعزل عن حقيقة أن استهلاك لحوم الحيوانات بأنواعها لم يعُد يقتصر على مناسبات خاصة كما كان أيام أجدادنا، وإنما بات ممارسة شبه يومية متأثراً بالمنظومة الرأسمالية العالمية.
في الطرح النباتي... الدّين حمّال أوجه
ما يحدُث هو أنه برغم سَوق كل الأمثلة الممكنة من الإرث الشرقي والعربي والإسلامي بأن النباتية في أصلها جزء من إرثنا الثقافي وليست تقليداً لتيارٍ غربي حديث مثل الصحابي آبي اللحم الغفاري وأبي العلاء المعرّي اللذين كانا نباتيين ومقولات لصحابة آثروا الصدقة على قتل الحيوانات في عيد الأضحى كبلال بن رباح، نجد أن المتدينين وغير المتدينين حتى من التيارات اليسارية لدينا يهاجمون الحركة النباتية وخطابها، مستخدمين- وللمفارقة- نفس الخطاب الذي تستخدمه التيارات اليمينية الرافضة للنباتية في الغرب.
ما يحدث هو أن معركة الحوار في عيد الأضحى ليست مع المتدينين فقط، وإنما مع جميع التيارات المحافِظة وغير المحافِظة على حدّ سواء، ولهذا فالنقاش يأخذ أبعاداً دينية من جهة، ومفاهيمية من جهة أخرى، أو الاثنين معاً.
السؤال الذي يواجهنا من الجهات الأقل انتقاداً هو لماذا لا يأخذ النباتيون والنباتيات إجازة في عيد الأضحى ويتركون الناس لشعائرهم ليومٍ واحد فقط؟ هذا بالطبع إلى جانب أسئلة مؤامراتية مثل: هل تجرؤون على انتقاد الأمريكيين على قتل الديوك الرومية في عيد الشكر؟ والحقيقة هي أنه لا نعرف ما هي الفرصة الأكثر مناسبةً للحديث عن قتل الحيوانات من عيدٍ يخصصه الناس لذلك؟ والحقيقة أيضاً هي أننا- أي النباتيات والنباتيين الفلسطينيين- نعيش في فلسطين التي تحتفل بعيد الأضحى وليس لدينا عيد شُكر يقتل الناس فيه الديوك الرومية، مع عدم الحاجة للتأكيد أننا ضد قتل الحيوانات في عيد الشكر أو أي عيد آخر تُقتل فيه الحيوانات في أي مكان في العالم.
ما رصدته كإمرأة نباتية من خلفية مسلمة متدينة هو التناقض الكبير لدى الكثير من الناس بين الادعاء بالتدين وممارسات أبعد ما تكون عنه؛ بين المعايير الدينية لمعاملة الحيوانات وممارسات أتباع الدين بحقها في حياتها ومخالفتهم لأساسيات أخلاقيات الذبح عند إنهاء حياتها؛ بين مقاصد الشريعة من الشعائر الدينية والمنظور النُّسكي والتعبّدي لذبح الحيوانات؛ بين مفهوم خلافة الإنسان لله على الأرض وتدميره لكوكب الأرض والحياة عليه؛ بين التمسّك بمبدأ أن لا حرام إلا بنصّ والبشاعات التي يرتكبها الإنسان بحق الحيوانات والبيئة وبحق البشرية ذاتها تحت غطاء الحلال.
تربية الأضاحي في ظروف قاسية
لم يعُد مجالاً للشك أن غالبية الأضاحي- سواء في بلادنا أو في البلاد ذات الأغلبية المسلمة- يتم تكثيرها وتربيتها في ظروف لا أخلاقية لا تحتكم لأدنى معايير الرفق بالحيوان التي دعت إليها الشرائع الإلهية والوضعية على حد سواء. بمعنى أنه حتى وفق المعايير التي تقبل قتل الحيوانات بهدف أكلها والانتفاع بها، فإن ما يحدث على أرض الواقع في مزارع الحيوانات على مدار العام أو في مناسبة كعيد الأضحى لا يتّسق مع أخلاقيات التعامل مع الحيوانات حتى وفق المنظور الديني.
فيما يتعلّق بالنقاش الديني حول الأضحية، قرأتُ بالأمس مقالاً يُذكّر فيه الشاعر والفيلسوف المغربي زجّال الإدريسي الحسني المسلمين بأن صحابة النبي كانوا يحيون الأضحى دون ذبح، وأنهم كانوا يصلّون صلاة العيد ويتصدقون بثمن الأضحية، وذلك بعد أن نّحر النبي أضحية قائلاً: "هذا عن أمتي" التي لم أجد أن ثمّة خلافاً- حتى في المواقع الإسلامية التقليدية- حول أنه قصد بها أمته جميعاً، من كانوا في عهده واللاحقين من بعده.
وأضاف الكاتب بأن القرابين البشرية انتهت عند فداء ابن النبي إبراهيم بكبش وأن القرابين الحيوانية انتهت بأضحية النبي محمد عن أمّته. ومع ذلك، إنهالت التعليقات على المقال من كل حدب وصوب لتُعيد الكاتب إلى جادّة الدين الصائب- حسب اعتقاد المعلقين- الذي يعتبر قتل الحيوانات شعيرة ثابتة لا يغيرها لا زمان ولا مكان ولا أثر ثابت عن صحابة النبيّ الذين تركوا ذبح الأضاحي ورعاً رغم استطاعتهم.
فقد ورد في الجزء الثاني من كتاب الاعتصام للشاطبي: "وقال ابن مسعود: إني لأترك أضحيتي، وإني لمن أيسركم، مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة".
قلتُ لنفسي وأنا أقرأ التعليقات الغاضبة: ربما لو نزل وحيٌ مباشر من الله نفسه ليقول لهم هذا الكلام لأنكروا عليه قوله وتمسّكوا بسفك دماء الحيوانات كشعيرة مقدّسة. ومن المفارقة أن نفس الأشخاص الذين يتمسكون بفكرة أكل لحوم الحيوانات لأن القرآن سمح بذلك، تركوا ركوب الحيوانات كوسيلة سفر عندما توفرت لهم بدائل أفضل. لكن نفس المفهوم يرفضونه عندما يتعلق الأمر بشهوة البطون.
أما فيما يتعلّق بالنقاش المفاهيمي حول قتل الحيوانات لأكل لحومها كجزء طبيعي من السلسلة الغذائية، فأجد أن كثيراً من الناس ترعبهم فكرة ترك أكل لحوم الحيوانات ويظنّون أنهم سيموتون جوعاً بدونها، متناسين كل ما يُساق من دلائل علمية قطعية بالضرر الجسيم الذي تُحدثه صناعات اللحوم والألبان والبيض على البيئة باعتبارها أحد أهم مسببات ارتفاع درجة حرارة الأرض والتغيّر المناخي وما يعنيه ذلك لنا اليوم وللأجيال القادمة، وبالرغم من مساهمة هذه الصناعات باستمرار المجاعات البشرية حول العالم، وكل ما يُساق من أمثلة على وحشية هذه الصناعات وتعاملها مع الحيوانات كآلات ليس إلا، وكل ما يساق من دراسات علمية فاصلة تربط بين تناول اللحوم وأمراض القلب وأنواع السرطان المختلفة.
عيد الأضحى سيبقى مناسبة لطرح كل هذه القضايا، ولكنه سيبقى مناسبة لمناهضي الحركة النباتية للتنمّر والاستهزاء ورفض إعمال العقل والضمير في خياراتهم الحياتية وأثرها عليهم وعلى أبنائهم وعلى الكوكب الذي يعيشون عليه وليس لديهم كوكب غيره، وعلى الحيوانات، الحلقة الأضعف في هذا المشهد القاتم.
رصيف ٢٢