مارك روثكو...تراجيديا فنان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مارك روثكو...تراجيديا فنان

    مارك روثكو...تراجيديا فنان

    مارك روثكو Mark Rothko فنان أمريكي تجريدي معاصر 1903-1970م مثير للجدل وكثير من الحسد، هو روسي الأصل من والدين متذبذبي الديانة والإلحاد، وانتقل مع عائلته لأمريكا في سن العاشرة، درس الفن الحر في جامعة يلي بأمريكا وعمل مدرسا للرسم والنحت في معهد بروكلين.
    ينتمي روثكو للمدرسة التعبيرية التجريدية Expression Abstract ومدرسة نيويورك الفنية، والتي تضم عمالقة ورموز الفن الأمريكي المعاصر جاكسون بوبلوك وويليام دي كونيينق وبقية مشاهير الفن الذين أسسوا المدرسة آنذاك. ولقد بدأ حياته سيريالا ثم انتقل شيئا فشيئا للمرحلة اللونية الحقلية متأثرا بأفكار نيتشه ودراسات فرويد وأحداث الكساد العظيم السياسية والاقتصادية والحروب العالمية، ومتأثرا فنياً بأسلوب هنري ماتيس أحد أهم رموز التجديد في شكل الفن الحديث.

    ظهر مصطلح التجريدية التعبيرية أوليا في مجلة ديرشتوم الألمانية عام 1919، ثم استخدمه الفريد بر في 1929 لوصف أعمال فازلي كاندسكسي رائد ومؤسس هذه المدرسة الفنية الحديثة والمعاصرة للآن، ثم استخدمها بشكل متكرر حتى انتشر هذا المصطلح الناقد الفني الأمريكي روبرت كوتس في 1946، وبذلك تكون التجريدية التعبيرية هي أول مدرسة فنية أمريكية بمعنى الكلمة ونقطة انطلاق أمريكا ونيويورك لتكون محور الفن المعاصر في العالم.

    لقت مدرسة نيويورك والتعبيرية التجريدية دعما غير محدود من وكالة الاستخبارات الأمريكية؛ باعتبارها أهم منتج فكري ثقافي فني أمريكي معاصر يمكن من خلاله مقاومة الواقعية الاشتراكية الروسية والسوفيتية التي شاعت في أوروبا وتسرّبت لأمريكا، وكادت تسحب البساط من أمريكا ثقافياً. وهذه المدرسة تعتبر مرحلة متقدمة ومتطورة للسريالية في جانب العفوية والتلقائية والسعي لسيطرة اللاوعي على الإنتاج الإبداعي. حيث كان روثكو وبولوك وماسون وارنست وسيكيروس يعملون على نزف وطرح الألوان على القماش وتحريكها حسبما تهوى الروح ويروق للمزاج. وتتميز مدرسة نيويورك (التعبيرية، التجريدية الروحية)، بتكثيف العاطفة والابتعاد عن الرمزية والتشخيصية والتمثيلية، وتسعى للتمرد والفوضوية والعدمية في الممارسة العملية، ومع ذلك كل فنان من رواد هذه المدرسة له تجربة مختلفة عن غيره.

    ولما بدأت هذه المدرسة وهذه التجارب الفنية الغريبة بلفت الانتباه وجذب النظر لتجارب فنانيها، رأوها النقاد والمسؤولين عن الثقافة في أمريكا ملاذاً للفكر والأسواق الحرة، وتحدي لكل الأساليب الواقعية الاشتراكية، فدخل الفن الحار ضمن أدوات الحرب الباردة، لذلك لا أستغرب شخصياً وصول أسعار أعمال رواد الفن في نيويورك لهذا السُعار السعري والمبالغ الفلكية والخرافية. حيث اعتبرت إحدى المجلات الفنية في أوروبا أن ما يحصل في سوق الفن وتحديداً لرموز التشكيل في أمريكا أساليب إمبريالية ثقافية دعمتها الـ CIA في مؤتمرات الحرية الثقافية بشكل دوري من عام 1950-1967 (كتاب فرانسيس ستونور سوندرز)، وبرغم وجود نقاد أمريكيون إصلاحيون مثل ميشيل كيلمات كبير نقاد صحيفة النيويورك تايمز، الذي سعى لتصحيح المسار وتطوير القائم، اشعلت مدرسة نيويورك الحركة الفنية ومنها توسعت تداعياتها البصرية والفلسفية لتصبح اللوحات التعبيرية كالأغاني البصرية في شيوعها في صالات العرض والمتاحف، وازدهر الفن الأمريكي ونتج عنها الفن الجماهيري Pop Art. وكان مارك روثكو ضمن هذه المنظومة، وكانت له أقوال مؤثرة مثل عبارة (الفن مغامرة في عالم مجهول، لا يمكن اكتشافه إلا من قبل أولئك المستعدين للمغامرة). فهذا الفن الجديد والغريب تأثر بدواخل وجدان وعواطف النفس، ويحاول الغوص في عوالم اللاوعي، ويسعى للابتعاد عن ظهور بصمة الفنان بشكل مرئي على سطح اللوحة.
    بسبب لوحات روثكو ذات المستطيلات الملونة، ظهر أيضا مصطلح "رسامي الحقول اللونية"، والذين ساهموا في ولادة حركة الفن العفوي أو التلقائي Spontaneous Art والفن النقي أو الخام Art Prut وفن الحد الأدنى Minimalism Art كحركات فنية مهمة في نشأة وتشكيل ملامح الفن المعاصر.

    تتميز لوحات مارك روثكو وأسلوبه الفني بالألوان القليلة والمكثفة، والابتعاد عن التفاصيل لحد التعميم اللوني الكلي، فاللون عنده هو الناقل الرئيسي للدلالات والمعاني، فتكثيف اللون يأتي بهدف فتح آفاق ذات دلالات إنسانية عامة، وإنتاج الفن لديه هو وسيلة لامتلاك المجهول والسامي. كما يسعى كغيره من فنانين مدرسة نيويورك من الانعتاق من سيطرة الفنون الأوروبية، وتحقيق قيم خاصة بالإنسان المعاصر قوامها مشاعره وذاته ورؤاه الخاصة.

    بدأ روثكو تجربته الفنية بصنع لوحات متوسطة الحجم، فيها موضوعات وعناصر وشخوص معبرة، وتخلّص منها تدريجياً، حتى أصبح يرسم لوحات كبيرة ضخمة تحتوي على ثلاث مستطيلات مبهجة الألوان وجذابة، ثم مستطيلين، وانتهى بمستطيل واحد أسود ورمادي غامق مليء بالكآبة والمأساة، حيث قال (اللون يعبر عن المشاعر الإنسانية الأساسية المأساة، النشوى، الموت وغيرها). فحسب تصريحه أنه يرسم لوحات لجعل الناس تبكي، وأنه ينتج لوحات كبيرة لتقتل الوهم وتكشف الحقيقة. ويمكن ملاحظة أن لوحاته ذات صلة وطيدة بالفنون البدائية والحضارات القديمة البسيطة الخالية من التعقيد. فكما قال بيكاسو أن (الغرض من الفن هو غسل غبار الحياة عن أرواحنا)؛ لذا أؤكد شخصياً على أنه لابد أن نعترف بالدور العلاجي للفن، وتأثيره الإيجابي على الصحة النفسية للإنسان.

    يُطبّق مارك روثكو نظرية الألوان وتدرجاته وتناغماته بطريقته الخاصة على سطوح لوحاته، فهو يخلق علاقات لونية كثيفة ومركزة بين لونين أو ثلاثة، من شأنها تضفي تأثير بصري ونفسي كالأبهة أو الرهبة وتزيد من حجم اللوحة إيهامياً. ولا يرسم أشكالاً ولا شخوصاً ولا رموز، وينصح متذوقي لوحاته بمشاهدتها عن قرب مسافة نصف متر تقريباً؛ للشعور بالعلاقة الحميمة باللون والهيبة وتجاوز المجهول والانغماس في أعماق اللون لاستخراج كنوز معانيه ودلالاته من الذكريات. كما أنه يسعى لإزالة جميع العوائق بين الفنان والفكرة، وبين الفكرة والمشاهد، فيقول في هذا الشأن: ( اللوحة الأكثر إثارة للاهتمام، هي اللوحة التي تُعبّر عن أكثر مما يفكر فيه المرء وأكثر مما يراه)، وهذا ما يؤكد حقيقة لدينا في مجالنا الفني وهي أن (الفن وسيلة تعبير لا يمكن تفسيره)، ففي الحقيقة كان لتجربة مارك روثكو الفنية من الأهمية تأثيراً على فلسفة الجماليات المعاصرة.
    تعتبر حياة روثكو قصة درامية نهايتها تراجيدية، منها تغيير اسمه خشية من ترحيله أو قتله لانتمائه لعائلة يهودية روسية، وكان منتجا منتظما للفن منذ خروجه من الجامعة، وله حضور في أهم قالريهات أمريكا ومتاحفها، وكان مؤمن جداً بفكره ومعتزا بلوحاته بشدة، فمن ضمن غرائبه أنه يهتم بردة فعل مقتني لوحاته، هل يشتروها لأنها تحف فنية أم قطع ديكور تزين مبانيهم. لذا اعترض مرة على بيع لوحاته لصالح أفخم مطعم بنيويورك، لما شاهد الناس تأكل ولا تتحاور في لوحاته. فقال هؤلاء الناس الذين يأكلون هذا لطعام بهذا السعر الغالي لم ينظروا للوحاتي، فقطّع العقد واسترجع لوحاته. واستغرق بعدها 6 سنوات لرسم 14 لوحة كانت من نصيب كنيسة، حتى دخل في أعمق حالات الحزن وشديد الألم والحسرة على إعجاب الجماهير بالفن الهابط لصور ممثلة إباحية في لوحات آندي وارهول ألد أعداءه، فقرر قطع شريان يده وإنهاء حياته، ظاناً أن هذه المهزلة ستنتهي.

    نشرت هذه المقالة في جريدة الرياض.
    https://www.alriyadh.com/1761921
    ولمشاهدة مجمل أعمال مارك روثكو في الرابط التالي.
    https://www.mark-rothko.org/

    د. عصام العسيري
    فنان وناقد تشكيلي
يعمل...
X