مثقفو حلب
Mohammad Kujjah
حلب والشاعر " الصنوبري "
1 - أبو بكر أحمد بن محمد بن الحسن بن مَرّارٍ الضبّيُّ الصنوبري. هذا اسمه ونسبه تحقيقاً من خلال ما ورد في شعره، أما ما ورد حولهما من خلاف فهو ناجم عن تصحيف أو عن غلط.
ولد "الصنوبري" استنباطاً مما ذكره في شعره قبل عام 275 للهجرة ، وتوفي عام 334 للهجرة ، عن عمرٍ يزيد على تسع وخمسين سنة.
عاش الصنوبري في حلب، وكان يزور الرقةَ موطن قومه "بني ضَبَّةَ"، وكان سكنه في حلب في (باب قِنَّسْرين). وفي مقبرة هذا الحيّ دُفن أعزّ أحبابه: ابنته الوحيدة وأمه.
أما نسبته إلى (الصنوبر) فقد وردت لها عدة تعليلات في الكتب، وكان هو نفسه يعتزّ بهذه النسبة.
وإذْ عُزينا إلى الصَنْوبَرِ لم
نُعْزَ إلى خاملٍ من الخَشَبِ
لا بل إلى باسقِ الفروع، علا
مَناسباً في أرومة الحَسَبِ
2 - كان الصنوبري شاعراً فذّاً. جمَّ النشاط في إطار بيئته وعصره، ويتجلّى نشاطه هذا في محاور ثلاثة:
ا - هو ابنُ حلب وشاعرها بلا منازع عبر كل العصور.
ب - هو شاعر الطبيعة الأول، لا في عصره وحسب، بل في جميع عصور الأدب العربي السابقة واللاحقة.
ج - هو صاحب علاقات وتأثيرات اجتماعية وفنية واسعة تخطت النطاق المحلي إلى آفاق أرحب وأعرض.
3 - لم تَحْظَ حلبُ في تاريخها بشاعرٍ صوَّرَ معالمها وأوابدها وخططها وأحياءها ومتنزهاتها كالصنوبري. لقد سجّل كلّ ما يتصل بهذه الأمور في شعره بعامة، وفي مطوّلته (الهائيّة) بخاصة.
حلب هي مدينته التي تفيّأ ظلالها ونعِم بخيراتها وشهد أحلى أيامه فيها. فيها دارُه التي أحسن تنظيمها وتنسيقها، والتي ساعدته سَعَةُ رزقه على الافتنان في إبداعها: أروقةٌ وساحاتٌ مُجمّلة بأنواع الرخام وأحواضٌ للشجر وللزهر، بل جعل سطح هذه الدار جنةً فيحاء غطّاها بالأحواض وزيّنها بالأعمدة والقناطر التي عرّش عليها الأشجار والأغصان، الأمر الذي يسمح بتقدير حجم ما تَضُمُّهُ من ترف، وما تُكِنُّه نفسه من حب للطبيعة:
قُمْ تأمل، إن شئْتَ، أحواضَ سطحي
تَرَ تلك الجنانَ في الأحواضِ
تَرَ تلك الغياض والعَمَد البيـ
ــــض التي تحت خُضْر تلك الرياضِ
والرخام الذي لو اعتَضْتَ عنه
فَرْش ريشٍ ما كنت بالمعتاضِ
4 - أما معالم حلب فإن شاعرنا لم يغادر منها شاردةً ولا واردةً إلا وذَكَرَها، وربطها بكثير من الذكريات و المواقف. فمن أحيائها ذكر (بانقوسا) و(باب قِنَّسْرين) و(باحَسيثا: بحسيتا) والقلعة و(الجوشن)، وهي معالم باقية حتى اليوم.
وذكر الكثير من مُنتزهاتها، ومنها تلك المنتزهات الباقية مثل (بستان الشيخ فارس) و(الراموسة) و(بعاذين: بعيدين) و(البركِ: برك الشيخ خليل)، و(قويق) و(القناة) و(بركة التَل: عين التل)، بالإضافة الى ذكر عدد من البساتين والمنتزهات التي درست، أو التي غُيِّرت أسماؤها عبر التاريخ، ولا نعلم أسماءها الجديدة:
وَبعاذينَ فواها
لبعاذين وواها
بين نهرٍ وقناةٍ
قد تَلَتْه وتَلاها
ومجاري برك يجلو
همومي مجتلاها
ومَقيلي بركةُ التَّلّ
وسيباتُ رحاها
كَلأ الراموسةَ الحسـ
ـناءَ ربّـي وكلاها
وجَزَى الجنّات بالسَّـ
ـعْديَ نُعْمَى وجـزاها
وفدى البستانَ من فا
رسَ صبّ وفداها
أما قراها المحيطة بها فهي كثيرة، ولا نعرف منها اليوم الا (بابلاّ: باب الله).
5 - وأما جامعها الاموي الكبير فقد حَظِيَ بوصف دقيق لكثير من جوانبه ولحلقات العلم في جنباته:
حبّذا جامعها الجا
معُ للنفسِ تُقاها
مَوْطنٌ يُرسي ذوو
البرِّ بمرساه الجباها
شهوات الطرف فيه
فوق ما كان اشتهاها
قِبلةٌ كرَّمَها اللهُ
بنورٍ وحَبَاها
ورآها ذَهَباً في
لازَوَرْدٍ من رآها
ومَرَاقي منبرٍ أعظَمُ
شيء مُرْتَقَاها
وذُرَى مئذنةٍ طالت
ذُرَى النجم ذراها
للنواريّة ما لم
تَرَيَاه لسواها
قصعة ما عدت الكعبَ
ولا الكعبُ عداها
أَبَداً تستقبل السُحبَ
بسُحبٍ من حَشَاها
فهي تسقي الغَيْثَ إن لم
يسْقِها أم إن سقاها
كَنَفَتْها قُبَّةٌ يضحك
عنها كَنَفَاها
قُبَّة أبدَع بانيها
بناءً إذْ بناها
ضاهت الوَشْيَ نُقُوشاً
فحَكتْه وحَكاها
لو رآها مُبْتَني قُبَّة
كسرى ما ابتنَاهى
فبذا الجامع سَرْوٌ
يَتَبَاهى مَن تَبَاها
حيِّيا الساريةَ الـ
ـخضراء مـنه حيـياها
قبلة المستشرف
الأعلى إذا قابلتماها
حيث يأتي حلقة الآ
داب منها من أتاها
6 - ومن أشجار حلب ذكر "الصنوبري": السرو والآس والنخل والزيتون والأرطى والغضا والدلب. ومن فواكهها ذكر: التفاح والخوخ والسفرجل والفستق والموز والترج. ومن طيورها ذكر: الدرّاج والحُبارى والقطا والدبسي والقمري والبلبل والصلصل والحبرج والقبج.
7 - وقد يكون من حقنا -نحن أبناء حلب اليوم- أن نطّلع على معلومة حول نهر قويق، هذا النهر الذي كان جيلنا يعرفه هادراً شتاءاً، هادئاً وهزيلاً صيفاً، كان له حظٌّ كبير من شعر "الصنوبري"، يصفه على مختلف أحواله، وقد يكون طريفاً أن نذكر للصنوبري -ابن حلب- قطعةً في وصفه، فيها بيتان يتداولها ناسُنا اليوم على أنهما لشاعرٍ حديث حلبي، وهي في حقيقتها للصنوبري قالها قبل ألف عام:
(قويقُ) إذا شمَّ ريحَ الشتاءِ
أظهرَ تيهاً وكبراً عجيبا
وناسبَ دجلةَ والنيلَ والـ
فراتَ بهاءً وحسناً وطيبا
وإن أقبلَ الصيفُ أبْصَرْتَهُ
ذليلاً حقيراً حزيناً كئيبا
إذا ما الضفادعُ نادنيه:
"قويقُ قويقُ"، أبَى أن يجيبا!
فيأوِينَ منه بقايا كُسِينَ
من طُحْلُبِ الصَّيْفِ ثوباً قشيبا
وتمشي الجرادةُ فيه فلا
تكادُ قوائمها أنْ تغيبا
8 - ليس غرضنا من هذا العرض مجرد التعداد، بل ما يوحي به من إحاطة "الصنوبري" بجزيئات كثيرة عن معالم حلب، قد لا يدركها كثيرون من أبنائها القدامى والمحدثون.
حلب هذه، مدينة الجمال ومدينة الطرب إلى يومنا هذا، حلب هذه معشوقة "الصنوبري"، يدعو لها بالخير:
سقى حَلَبُ المزنِ مغنى حَلَبْ
فكم وصَلَتْ طرباً بالطَّرَبْ
وكم مستطابٍ من العيشِ لذَّ
بها لي إِذِ العيشُ لم يُسْتَطبْ
وهو دائم الاعتزاز والفخار بها:
فاخِري يا حلبُ المُدْ
نَ يَزِدْ جَاهُكِ جاها
أنه إِن تكنِ المُدْن
رِخَاخَاً، كُنتِ شاها
9 - ولعل من اجمل ما نظمه الصنوبري قصيدته في صيانة الرياض والحدائق ، ومنها قوله :
يا ريمُ قومي الآن ويحك فانظري
ما للربى قد أظهرت إعجابها
كانت محاسن وجهها محجوبة
فالآن قد كشف الربيع حجابها
ورد بدأ يحكي الخدود ونرجس
يحكي العيون إذا رأت أحبابها
والسرو تحسبه العيون غوانيا
قد شمرت عن سوقها أثوابها
لو كنت أملك للرياض صيانة
يوما ، لما وطئ اللئام ترابها
- Maria Mari Sabbagh
االله يرحم الدكتور عبد الرحمان عطبة